ملخص
انتشر فن الشارع (الغرافيتي) في الجزائر انتشاراً واسعاً مع ظهور الحراك السلمي في فبراير (شباط) 2019، مما فتح المجال للشعب بعامة والشباب بخاصة للتعبير عن مطالبهم وتطلعاتهم لبلدهم الجديد.
تواصل الكتابة والرسم على الجدران في شوارع الجزائر التوسع، فأينما حل فنانون فهم يبرعون في استخدام الطلاء على جداريات المدن، وخلال الأشهر الأخيرة حولوها إلى ورش مفتوحة تدخل في إطار ما يعرف بفن الـ "غرافيتي"، ومنها إلى جدران "فيسبوك" وإخوته من مواقع التواصل الاجتماعي للترويج لأعمالهم.
بوسائل بسيطة لا تخرج عن دائرة الأقلام الخاصة وبخاخات الدهان، اتخذ فنانون تشكيليون من شوارع وجسور وجدران المدن الجزائرية مسرحاً لعرض مواهبهم عبر رسومات تعبر أحياناً عن رسائل اجتماعية وسياسية خارجة عن المألوف، وأخرى تمزج بين السخرية والجدية في تناول قضايا تاريخية مرت بها البلاد، في تحد للأعراف والتقاليد ورقابة السلطات.
متحف مفتوح
وتعد الطاسيلي، في عمق الصحراء الجزائرية، من أشهر الآثار العالمية السابقة بآلاف السنين لهذا النوع من الفن، وإلى جانب كونها أكبر متحف في الهواء الطلق يزين المنطقة برسوم صخرية، فإنها تجسد عدداً كبيراً من أنواع الحيوانات، فقد ألحقت الحظيرة المحمية فيها بالتراث العالمي لمنظمة "يونيسكو" منذ ثمانينيات القرن الماضي.
وخلال حرب التحرير الجزائرية فنادراً ما كانت جدران الفضاء العام محايدة وخاضعة ولا صوت لها، إذ كانت بمثابة منصة لبث شعارات "جبهة التحرير" والمقاومين آنذاك، وبمجرد رسم وكتابة رموز مختصرة لـ "جيش المجاهدين"، فإنها تعد في نظر الاستعمار الفرنسي الذي احتل البلاد ما بين عامي 1830 و 1962 بمثابة عمل تخريبي مناهض لخططه.
وعبر هذه المحطات المقتضبة يرى متخصصون في "معهد الفنون الجميلة" بالعاصمة الجزائر أن فن الشارع أو الـ "غرافيتي" ليس جديداً بل يعود لأعوام مضت، عبر تجارب أدخلها التشكيلي الجزائري دونيز مارتينيز قبل عقود حين جسد بأحد شوارع ولاية البليدة جنوب العاصمة جدارية تحمل عنوان "آخر كلمة لجدار"، لينقل بعدها إلى طلبة مدارس الفنون الجميلة عصارة فنه من طريق إشرافه على متابعة تزيينهم لشوارع البلاد بجداريات مستوحاة من تراث الثقافة المحلية.
بعدها أخذ فن الشارع في الجزائر انتشاراً واسعاً مع ظهور الحراك السلمي في فبراير (شباط) 2019 الذي فتح المجال للشعب عامة والشباب بخاصة للتعبير عن مطالبهم وآمالهم وتطلعاتهم إلى بلدهم الجديد، وإبداء آراءهم حول إزالة الوجوه السياسية القائمة آنذاك، إذ كان الشباب وخلال تجمعاتهم الغفيرة يبتعدون من أنظار الشرطة للرسم والكتابة على الجدران بطريقة يمتزج فيها الفن بالسياسة والكاريكاتور التعبيري بألوان عدة.
وداعاً للسياسة
واختصرت دراسة جزائرية حول "فن الشارع في الجزائر" للطالبتين بن داداة سارة وغريبي كريمة من "جامعة تلمسان" هذا الفن، كأحد أصوات المجتمع والجماعات المهمشة والشباب الذي يجاهد لإبلاغ صوته، إذ إنه لا يحتاج إلى صالات عرض ومتاحف لتعريف الجمهور بأعماله، فهو فن متاح للجميع مجاناً من دون وسيط.
وقد يكون هذا سبب عدم أخذه بعين الاعتبار كعمل يظن كثيرون أنه تطوعي ومن دون مقابل، أما المسؤولون فلا يستعينون بروّاده لتجميل واجهات المدينة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويحبذ فنانون تجنب المواضيع السياسية حتى يكون العمل موضوعياً وموسمياً، وحتى لا يفقد قيمته بعد زوال الحدث، على غرار تفوق نوادي كرة القدم المحلية الشهيرة وصور لشخصيات جزائرية خلدت اسمها في التاريخ.
وبالنسبة إلى الفنان الملقب بـ"سنيك" فقد أتاحت له الكتابة على الجدران فهم أن العالم لا ينتمي فقط إلى أولئك الذين يستيقظون باكراً، بل أيضاً إلى هؤلاء الذين يبدأون عملهم في وقت متأخر من الليل عندما تكون المدينة في سبات تقريباً.
ويقول إن الكتابة على الجدران أصبحت جزءاً من حياته اليومية مثل الهوس، فعندما كان عمره 17 سنة فهم أنه لا يستطيع التطور لسببين، الأول هو الغياب التام للمعدات الكافية، ويقصد بخاخات الطلاء المستخدمة في المنازل، في حين تغيب متاجر لبيع ما يسمى بـ"طلاء الأيروسول" المخصص لهذا الفن، مما أدى إلى تباطؤ تطوره.
تصدير الفن
ويسلط المتخصص في الأدب والنقد الحديث البروفيسور عبدالغاني خشه الضوء على كيفية كسر الفن أقفال الأماكن المغلقة نحو الفضاءات العامة، أو ما وصفه بـ"تصدير الفن من خلال المرافق القريبة من المواطن أو المشاهد ما دام يتضمن فنوناً بصرية".
ويقول عبدالغاني في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إن ما يشهده الشارع يومياً هو نوع من التمرد عبر سينما الشارع ومسرح الشارع والجداريات والعازفين المتنقلين، مما حول الأزقة مكاناً حاضناً لإبداعات عدة في عالم غزته البصريات الرقمية، معتبراً أن "كرونولوجيا" الأحداث المتسارعة والوقت، أي علم حساب الزمن، لا يكفيان لتأثيث القاعات لعرضها، لكنه لفت إلى تأثير في اختلافاتها التي لا يمكن أن ترحب بالعمل الواحد وتصفق له، خصوصاً وحركة المجتمع نحو الأفراد تتجاذبها مرجعيات وخلفيات دينية وسياسية.
أما أستاذ علم الاجتماع السياسي عماد بوسريج المهتم بواقع الـ "غرافيتي" في الجزائر فيشير إلى ما يقدمه للباحثين من معلومات قيمة عن المجتمع المحلي والديناميكيات التي تؤثر فيه باستمرار، كما أنه يساعد في توثيق ذاكرة الجزائر الجماعية.
ويستغرب الباحث "كيف لم يحفز فن الشارع والحضور المكثف للكتابة على الجدران في الفضاء العام المتخصصين في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية في الجزائر، والتي قد تعكس مجموعة من السلوكيات لفهم تطور المجتمع واهتماماته، إذ لا يزال ينظر إليه كخربشات بسيطة لا تستحق الاهتمام".
ويبرز الفنانون جهدهم المستمر لإظهار حضورهم في الفضاء العام من خلال نشرهم الكتابي والرسومي، معتمدين على اللغات المحلية والأجنبية وبأشكال عدة من الأحرف العربية واللاتينية والـ "تيفيناغ"، وهي إحدى أبجديات الطوارق، مما يوفر كماً من المعلومات عن القضايا التي تكمن وراء جوهر التعبير الحر عن المجتمع وأمراضه.
وينظر إلى رؤية الكتابة على الجدران على أنها تهديد للنظام القائم لصعوبة السيطرة عليها، حتى إن بعض الأشخاص أصبحوا يضعون عبارة "فنان غرافيتي مرخص من الدولة" على ملفاتهم الشخصية عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتجنب أية عقوبات.
وهناك قانون مؤطر لفن الشارع في الجزائر، إذ يعتبر المشرع الكتابات الجدارية مساساً بملك الغير وجنحة يجب ردع مرتكبيها، وتكلف صاحبها الحبس لأيام وغرامة مالية، ويتعلق الأمر تحديداً بكل من قام بكتابات أو وضع علامات أو رسوم بأية طريقة كانت ومن غير إذن من السلطات الإدارية، على عقارات مملوكة للدولة أو أية خدمة عمومية موضوعة تحت تصرف الجمهور.
وانعكس التقييد على تطور الـ "غرافيتي" الذي تنظم له فعاليات فنية في الجزائر لاختيار أبرز المبدعين، وهو السبب الذي جعل كثيراً منهم يروجون لأعمالهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي طرحت نفسها كأحد بدائل التعريف بها، إذ أصبحت صفحات ومجموعات أنشئت عبر "واتساب" لهواة فن الشارع متنفساً بهدف تبادل الخبرة والتجارب.