Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مجددا في مصر... تطبيقات النقل كبش فداء لمنظومة تحرش

"من المجتمعات ما يردع تلك الآفة بالقانون والتعليم والتنشئة، ومنها ما يواجهها بأغلظ العقوبات وأقساها، ومنها ما يظن أن السبيل الوحيد هو عزل الأنثى أو إخفاؤها أو حجبها"

حوادث التحرش في الشارع وأماكن العمل والمواصلات العامة والمراكز التجارية والجامعات وغيرها حلقات متصلة وثيقة الصلة ببعضها بعضاً (أ ف ب)

ملخص

التساؤل عن حجاب ضحيتي "أوبر" من عدمه لم يأتِ اعتباطاً، بل أتى انعكاساً لما جرى في المجتمع المصري من تغيرات قيمية وتبديلات أخلاقية على مدار ما يزيد على نصف قرن، وجزء غير قليل من هذه التغيرات يتعلق بالمرأة المصرية.

حين تتداخل القضايا وتتشابك الزوايا تضيع الفكرة الأصلية وتتوه المعضلة الرئيسة... وهن تطبيق القانون وامتزاج منظومتي "معلهش" (لا بأس) و"بسيطة إن شاء الله" والتباس العادات والتقاليد مع المنظومة الأخلاقية القائمة على تفسيرات بشرية للحلال والحرام في مقابل مفهوم الحقوق والحريات، تقاتل الرجعية والتزمت والانغلاق أمام التقدمية والانفتاح وقبول الاختلاف، تشوش ما يعده أهل الريف – بمن فيهم الزاحفون نحو المدينة - المنظومة القيمية الوحيدة المقبولة، وما اعتنقه أهل المدينة من منظومة تعامل تضع القانون والحقوق والحريات على رأس القائمة، الخطوط الفاصلة – وربما المازجة - بين أهمية أن يهتم كل فرد في المجتمع بشؤونه الخاصة ما دام الأمر بقي في حدود القانون، وبين اعتبار شؤون كل فرد الشخصية والخاصة هي شأن الجميع، وتطول قائمة التداخل والتمازج والتشوش حتى إذا وقع المجتمع في معضلة بعينها، احتار في حل أصولها، واكتفى بمعالجة جانب من آثارها.

تطبيق النقل

لم تكن آثار حادثة وفاة شابة مصرية بعد ما قفزت من سيارة تابعة لتطبيق "أوبر" للنقل أثناء سيرها على طريق سريع، بعد ما شعرت بالخوف من تصرفات السائق واعتقادها أنه يحاول خطفها، وربما الاعتداء عليها، قد اندثرت أو خفت حدتها، لتتكرر حادثة مشابهة من قبل أحد سائقي التطبيق نفسه.
هذه المرة تقول الشابة إن السائق هددها بسلاح أبيض (شيفرة) ليرغمها على خلع ملابسها وملامسة جسدها، لكنها رفضت وقاومت مقاومة شديدة وتركها في الصحراء "مضروبة" و"مشدودة من شعرها"، وهو ما أغرق الجميع في دوامة من التكهنات والآراء والقيل والقال.
غرق المصريين في سلسلة متواترة من معضلات ومشكلات وهموم ناجمة عن اقتصاد مأزوم يلقي بظلاله على تفاصيل الحياة اليومية، ناهيك بالقلق الناجم عما يدور على الحدود المصرية من حرب القطاع وصراع السودان وقلاقل ليبيا لا يمنعهم من الانخراط والانغماس والتشابك مع حوادث يومية. بعض هذه الحوادث يعكس ما هو أكثر من مجرد حدث مهما بلغ من غرابة أو فداحة. فداحة حادثي التحرش، إذ أدى الأول إلى وفاة الشابة التي قفزت من السيارة أثناء سيرها بسرعة على طريق سريع، والثاني ألحق بالراكبة جروحاً جسدية ونفسية، ناهيك بمسلسل إبلاغ الشرطة و"صراع" الإعلام من أجل التغطية والسبق و"اجتهاد" السوشيال ميديا لتفسير ما جرى، حبيسة دوائر التغطية القاصرة والتحليل المتسم بقصر النظر.

الأنظار نحو "أوبر"

أنظار الغالبية متعلقة ومتشبثة بتطبيق "أوبر". تقصير الشركة في انتقاء السائقين ومراقبة الرحلات ومتابعة الشكاوى واستدامة التقييمات وغيرها من لوجيستيات العمل وتطبيق القواعد وتفعيل البنود تخضع للقيل والقال والشد والجذب على مدار ساعات اليوم الـ24.
ماذا قال السائق المتهم؟ كيف جاء رد الفتاة؟ كيف تصرفت أسرة المتهم؟ لماذا أقسمت شقيقة المتهم ببراءة أخيها؟ ماذا قال القاضي رداً على مرافعة محامي المتهم الذي ذكر أن موكله لا يفوت صلاة كدليل على براءته؟ كيف تصرفت أسرة الضحية حين رأت المتهم؟ ما شهادات جيران السائق عن حسن أخلاقه وعميق تدينه؟ ماذا قال شهود العيان عن تصرفات الفتاة؟ ماذا قال أصدقاء السائق عن بره بوالديه وحسن معاملته لزوجته؟
أسئلة حول أطراف الحادثة وإجابات مبنية على ما قاله الأهل والجيران والأصدقاء في حق السائق بهدف تبرئة ساحته، وماذا قال أهل وجيران وأصدقاء الضحية من أجل الحيلولة دون تعاطف الرأي العام مع المشتبه فيه؟
في خضم هذا الكم الهادر من القيل والقال تدور دوائر اتهام أوسع قليلاً حول تطبيق النقل والشركة المالكة لـ"أوبر" والتشكيك في مدى وكيفية وكفاءة تطبيقهم للقواعد والقوانين، مع دق على وتر سائقي التطبيق وتكرار حوادث التحرش بالنساء والفتيات لدرجة جعلت البعض يختزل القضية في ثالوث تطبيق نقل متسيب، وسائقين متحرشين، وقواعد يجب أن تكون حاكمة لمنع تحرش السائقين بالراكبات.


النقل والتحرش

بين حادثتي تحرش وضحاهما أصبح تطبيق النقل والتحرش وجهين لعملة واحدة. تم وصم التطبيق بجريمة أخلاقية، وتم حصر التحرش في سائق وراكبة وسيارة، وكأن الجريمة مستحدثة، والخطيئة مفاجئة، والفعل متفرد، والغضب غير مسبوق. حتى محاولات تبرئة ساحة المتهم وإلقاء اللوم على الضحية من منطلق ديني متشدد تارة، واجتماعي منغلق تارة أخرى، ورفع راية "الذكر بريء حتى وإن ثبتت إدانته" بدت وكأنها دوامات مستحدثة غير مسبوقة.

السبق الوحيد

السبق الوحيد في تكرار حوادث تحرش سائقي تطبيقات النقل بإناث، يكمن في التجاهل التام لحقيقة واقعة ومعلومة مؤكدة، ألا وهي أن المجتمع يعاني آفة اسمها التحرش، مع نمو سرطاني خطر يحمل الأنثى مغبة التعرض للتحرش طالما لا تلتزم بمقاييس وضعت في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. وعلى هامش هذا السبق تجاهل اختزال الحوادث الأخيرة في سائق وراكبة وسيارة.

حوادث التحرش في الشارع وأماكن العمل والمواصلات العامة والمراكز التجارية والجامعات وغيرها حلقات متصلة وثيقة الصلة ببعضها بعضاً. صحيح أن جانباً لا بأس به من هالة السكوت والخجل والخوف من قبل المتحرش بها تم اختراقها، وصحيح أن العشرات من حملات التوعية والتثقيف حول جريمة التحرش ومكانة الأنثى في المجتمع حسنت قليلاً مما يجري في الشارع، وصحيح أن تبني الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ومجلس النواب (البرلمان) والمجالس والجمعيات المهتمة بأحوال المرأة أدت إلى سن قوانين جديدة وتعديل أخرى لتغليظ عقوبة التحرش، إلا أن ما في قلب المجتمع بقي في القلب.

قلب المجتمع تغير

قلب المجتمع تغير كثيراً. ومظهر المرأة المصرية تغير كثيراً. وتحرش الذكر بالأنثى ليس وليد اليوم أو الأمس، وليس حكراً على مجتمع دون آخر، لكن من المجتمعات ما يردعه بالقانون والتعليم والتنشئة، ومنها ما يواجهه بأغلظ العقوبات وأقساها، ومنها ما يظن أن السبيل الوحيد هو عزل الأنثى أو إخفاؤها أو حجبها، وكلما اشتد تحرش الذكور بها زاد إخفاؤها وعزلها وحجبها.
بدا السؤال عما إذا كانت الشابتان اللتان تم التحرش بهما من قبل سائقي "أوبر" في الأسابيع القليلة الماضية ترتديان الحجاب للبعض غريباً أو خارج السياق، لكن السؤال هو السياق نفسه، أو في الأقل جزء منه.
التساؤل عن حجاب الضحيتين من عدمه لم يأتِ اعتباطاً، بل أتى انعكاساً لما جرى في المجتمع المصري من تغيرات قيمية وإحلالات اجتماعية وتبديلات أخلاقية على مدار ما يزيد على نصف قرن. وجزء غير قليل من هذه التغيرات يتعلق بالمرأة المصرية.

"مي تو" النقل

المرأة المصرية لم تكن في حاجة إلى مبادرة "مي تو" (أنا أيضاً) لتفاجئ محيطها بما تتكبده منذ نعومة أظافرها من محاولات تحرش ترتكب تارة تحت اسم الغزل، وأخرى بمبرر الفقر والغريزة وصعوبة الزواج، ودائماً بوضع المرأة في خانة السبب المؤدي إلى التحرش.
"خريطة التحرش" (مبادرة مجتمعية هدفها إشراك كل فئات المجتمع المصري لخلق بيئة رافضة للتحرش الجنسي) تشير ضمن جهودها التثقيفية والتوعوية إلى ظاهرة باتت متجذرة وهي تبرير التحرش من طريق تداول الخرافات والمعلومات الخاطئة. "هذه الخرافات خلقت حلقة مفرغة، إذ تستخدم للتبرير للمتحرشين وإلقاء اللوم على المعتدى عليهن. مهمتها تعزيز التبرير للمتحرش ولوم المتحرش بها، والترويج لفكرة أن التحرش فكرة مقبولة مجتمعياً ويجب التسامح معها، أو إنها فعل رجولي ظريف، أو أن التحرش يقع حين ترتكب المتحرش بها خطأ ما، قد يكون توقيت وجودها في مكان ما، أو ما ترتديه من ملابس، أو طريقة مشيها أو نبرة صوتها أو أسلوب تصرفها أو تجرؤها على الضحك، أو ابتسامة ترتسم على وجهها... إلخ". وتشير "خريطة التحرش" إلى أن هذه "الخرافات" جعلت كثيراً ممن يشهدون حوادث تحرش في أماكن عامة أو حتى خاصة يختارون عدم اتخاذ أي إجراء أو تدخل، وأن عدم وجود عواقب مجتمعية يشجع المتحرشين على ارتكاب مزيد من الجرأة في جرائم التحرش.

"التحرش ليس جريمة!"

بعض المصريين – بمن فيهم النساء أنفسهن - يرفض أو يغضب أو لا يرى سبباً في اعتبار التحرش جريمة. وكثيراً ما يسأل المارة الأنثى التي تم التحرش بها بحال استغاثت عن "درجة" التحرش، فإن كان كلمات أو نظرات "فالله غفور رحيم"، أو "ربما تهيؤات"، أو "الكلمات والنظرات لا تؤذي". وفي حال أصرت المتحرش بها على الاستعانة بالشرطة واتباع الإجراءات المنصوص عليها قانوناً، هناك من يتبرع بمحاولة "تهريب" المتحرش من باب "الشهامة" ومن منطلق "الرجولة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


إحصاءات لا حصر لها

إحصائياً، تتناثر الأرقام والنسب المئوية يميناً ويساراً. أشهر الإحصاءات صدرت عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة بالتعاون مع عدد من المؤسسات المصرية في عام 2013، وصدم الجميع باستثناء المرأة المصرية. فقد أظهرت نتيجة دراسة أن 99 في المئة من النساء المصريات تعرضن لصورة واحدة في الأقل من صور التحرش الجنسي.
"الباروميتر العربي" (مؤسسة بحثية) أفاد بحسب استطلاع أجري في عام 2019 بأن 63 في المئة من النساء والفتيات تعرضن للتحرش خلال العام السابق. وقالت كل الشابات تقريباً إنهن تعرضن لصورة واحدة في الأقل من التحرش، إذ قالت 90 في المئة من النساء في الفئة العمرية 18 إلى 29 سنة و88 في المئة من النساء بين 30 و40 سنة، إنه قد تم التحرش بهن.
قوائم الأرقام والإحصاءات والاستطلاعات التي تؤكد أن التحرش ظاهرة مستفحلة، ليست حكراً على تطبيق نقل أو سائقي أجرة. ولا تقف عند حدود ضعف تطبيق القوانين والقواعد في شركات بعينها أو أماكن أكثر من غيرها.
وهي لا تقتصر من جانب المتحرش على فئة عمرية بعينها، إذ بين الأطفال الذكور من يتباهى بأنه يتحرش بالإناث، وبين الطاعنين في السن من يفاخر بأنه ما زال قادراً على التحرش، وبينهما بقية الفئات العمرية الناشطة في المجال.
كما أن المتحرش بها لا تنتمي لفئة عمرية بعينها، فبدءاً بالرضيعة، مروراً بالمراهقة والشابة، وانتهاءً بالجدات، الجميع سواء أمام فعل التحرش.

ملابسها والتحرش بها

وعلى رغم محاولات حثيثة وبعضها منظم للربط بين ما ترتديه الأنثى المتحرش بها وحدوث التحرش، واعتبار الملابس دليل إدانة، إذ إن الملابس التي تبرز المفاتن تفقد الذكر القدرة على التحكم في غرائزه والسيطرة على أفعاله وكبح جماح شهواته، إلا أن الواقع والعين المجردة ودفتر الحوادث تؤكد أن "التحرش للجميع".
قبل أسابيع، فجع الجميع بحادثة اغتصاب ثم قتل رضيعة عمرها 10 أشهر على يد عامل. وقبل ثلاثة أعوام اغتصب رجل أربعيني سيدة في الـ95 من عمرها. كما تعرضت معاقة ذهنياً للاغتصاب الجماعي من قبل مجموعة من المراهقين. وتعرضت طفلة في الـ11 من عمرها للاعتداء الجنسي مرات عدة على يد خطيب وإمام مسجد أثناء حصص دينية.
استطلاع أجراه "المركز المصري لحقوق المرأة" في عام 2005 كشف عن أن 70 في المئة من النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب، إما محجبات أو منتقبات، وهو ما ينفي متلازمة الحجاب بدرجاته والوقاية من التحرش.

الذباب والحلوى

لكن الوقاية لا تعني القضاء على المتلازمة في مقتل. صور وتشبيهات ورسوم وخطب "قطعة الحلوى غير المغلفة الجاذبة للذباب، والأخرى المغلفة التي لا تجذب الذباب" ذائعة الصيت، إذ إن الحلوى المغلفة حجاب ووقاية، وغير المغلفة تبرج وجذب للذباب وغيره من أنواع الحشرات.

الكاتب والطبيب خالد منتصر خلص في مقال عنوانه "المرأة ونظرية المتبرجة تستاهل" (2024) إلى اقتراح تبنى منهج آخر غير "الحلوى المكشوفة والمغلفة"، وهو محاولة إصلاح أخلاق الذباب. ورأى منتصر أن "الكلمة في الشارع أصبحت للفتوة والمتحرش والذكر الفحل. وتم نفي البنت من الشارع المصري بقوة قانون الغاب الذي وضعته الفاشية الدينية، منذ أن تحولت المرأة في عقول الضباع المكبوتة إلى مهبل يمشي على قدمين". ورأى أن "المتحرش ليس غرضه النشوة الجنسية فحسب، إنما الأهم عنده هو إشباع غريزة التفوق الذكوري الذي زرعه في دماغه بعض رجال الدين".
وأشار ساخراً من "داعية الجيم" و"شمشون الشريعة" و"رامبو الفقه" (وجميعهم يقدمون أنفسهم باعتبارهم رجال دين ودعاة ويحظون بشعبية ومريدين في المجتمع المصري)، بأن المتحرشين في هذه الآونة أذعنوا لما يقوله أولئك "الدعاة" من أن الأنثى تستفز ذكورة أي رجل، وأن هرمونات أي ذكر لا تحتمل التبرج إلى آخر مجموعة الأفكار التي يعدها منتصر غريبة، ويراها آخرون جذابة ومنطقية. وأضاف، "كل هؤلاء وغيرهم من الداعين إلى التحرش بالإناث، لا سيما غير المحجبات أو المنقبات، هم من أقنعوا الذكر بهذا التفوق المرضى، وغذوا فيه هذه الخيالات الجنسية وأشعلوا نار الهلاوس الإيروتيكية، وجعلوا أقصى أماني الشباب 72 حورية في الجنة، كل واحدة منهن لها 72 وصيفة، مساحة مقعدتها 70 ميلاً، ومدة اللقاء الجنسي 70 سنة".

الحجاب حماية

من جهة أخرى، تشير ورقة صادرة عن "منتدى فكرة" التابع لـ"معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" بعنوان "المظهر دائم التغير للمرأة المصرية" (2022) إلى أن "البعض يظن أن الحجاب يمثل حماية للمرأة المصرية، ويحررها من لفت الانتباه غير المرغوب، إلا أنه ومع ارتداء كثير من النساء ثياباً أكثر تحفظاً، يظل التحرش الجنسي مأساة يومية لكثير من النساء".
وتشرح المؤلفة إيميلي بولتر أن "هناك من يرجع ظاهرة انتشار الحجاب لشعور المصريين بالمهانة في أعقاب هزيمة يونيو (حزيران) 1967، ما دفع البعض لانتهاج التدين الزائد كوسيلة لتجميع قوى الوطن". وتضيف أن تفسيراً آخر يرجع انتشار الحجاب والنقاب في مصر إلى موجات الهجرة الموقتة للمصريين إلى دول الخليج، وعودتهم ومعهم أعراف اجتماعية دينية اكتسبوها أثناء عملهم. فريق ثالث يفسر انتشار الحجاب في ضوء الضغوط الاجتماعية والاقتصادية. وترى بولتر أن المجتمع المصري مر بأوقات كثيرة اتسمت بـ"دعم حثيث في أرجاء البلاد هدفه تغطية النساء".
هذا الدعم – الذي يصفه البعض بـ"المستمر"، والذي يظل عصياً على تحديد رسمي للجهات التي تقف وراءه - لا يقف عند حدود الحجاب والنقاب وربطهما بتعرض الأنثى للتحرش، لكنه يمتد إلى اعتبار التحرش مشكلة يشترك فيها كل من المتحرش والمتحرش بها، إضافة إلى تجاهل جزئية القوانين التي تعاقب المتحرش، وهو المتحرش نفسه الذي يكبح جماح نفسه حين يسافر إلى دولة في مشارق الأرض أو مغاربها، إذ النساء كاسيات أو عاريات أو ما بينهما، وسواء كان قادراً على كلفة الزواج أو عاجزاً عنها، وبغض النظر عن أيديولوجياته المعلنة أو معتقداته المبطنة لأنه يخشى عقاب القانون.

الاختلاط مع التبرج

وتجدر الإشارة إلى أن ورشة نظمها "مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية" لبحث ظاهرة التحرش في عام 2018 خرجت بستة أسباب تدفع الذكر إلى التحرش بالأنثى، وهي ضعف الوازع الديني والأخلاقي، والإهمال الأسري في تربية الأبناء والبنات، ومشاهدة المثيرات الجنسية على الشاشات، وغياب العقوبات الرادعة، وسلبية المجتمع، والاختلاط بين الجنسين مع وجود التبرج.
"تبرج" ضحايا سائقي تطبيق النقل أو عدم تبرجهن ليس المكون الوحيد في منظومة التحرش. هي منظومة عابرة للحدود والقارات والثقافات، لكن ما يفرق بين تحرش هنا وهناك يكمن في عوامل مثل تطبيق القوانين، وحلحلة متلازمة الدين والمظهر من جهة والتحرش وتبريره من جهة أخرى، ومدى قبول المجتمع أو رفضه، ومواجهة الوصمة التي تلحق بالمتحرش بها إن جاهرت بما حدث، وتدريب الشرطة والجهات القضائية على التعامل مع التحرش باعتباره جريمة، لا "المسامح كريم".

النساء إشكالية المجتمع

التحرش بدرجاته أكبر من سائق وسيارة وراكبة. وهو ليس تطبيق نقل وسبل رقابة وقواعد تقييم. أستاذة علم الاجتماع هالة شكر الله، قالت في ندوة في الجامعة الأميركية في القاهرة ضمن سلسلة حوارات عنوانها "لازم نتكلم" عن التحرش الجنسي في مصر، إن "التحرش مشكلة لها جذور قديمة في المجتمع، وأن المواطنين العاديين في السبعينيات كانوا يتصدون لأي مضايقة تتعرض لها المرأة في الشارع، بغض النظر عن الإجراءات العقابية". وأضافت أنه "في نهاية السبعينيات، انتشرت في مصر أيديولوجية في مصر تصور النساء على أنهن إشكالية المجتمع، وتلقى باللوم عليهن في قضايا مثل البطالة. هذه الأيديولوجية روجت أن وجود المرأة في الأماكن العامة يمثل خطراً على المجتمع. ومع تغلغل هذا التيار، أصبح الشعور بالخطر والتوتر يهيمن على المرأة في الأماكن العامة. وتدريجاً لم يعد هناك من يحمي المرأة. ولم تعد تواجه العنف أو تتحدث عنه حتى لا تواجه مزيداً من العنف. ليس هذا فحسب، بل أصبحت تلام أيضاً على التحرش الذي تواجهه في الشارع".

الدعوة إلى مقاطعة تطبيق النقل، أو إنهاء عمله في مصر، أو تركيب كاميرا في كل سيارة أجرة اختزال للمنظومة واجتزاء للمشكلة.

المزيد من تحقيقات ومطولات