Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دون جوان عائشة البصري يقع ضحية الحب الخائن

"رجل اسمه الرغبة" رواية بصوتين تغوص في أعماق العلاقات المعقدة

دون جوان العاشق التاريخي (دار غاليمار)

ملخص

اختارت الشاعرة والروائية المغربية شخصية دونجوان التاريخية المعروفة لتحوك حولها قصصاً مختلفة واقعية ومتخيلة. وروايتها "رجل اسمه الرغبة" تقدم صورة عصرية لهذا العاشق المغوي أو زير النساء كما يقال وتجعل منه ضحية حب وخيانة.

تكاد ثقافات العالم تجتمع على دلالة واحدة تحيل إليها مفردة "دون جوان"، فأول ما تستدعيه صورة الرجل المتفلت، المخادع، المتعدد العلاقات، الذي يغوي النساء، ويحتال عليهن بالمشاعر الزائفة، والكلام المعسول. وعلى رغم ما ذهب إليه كثر، من أن هذه الشخصية التي تعود جذورها إلى الفولكلور الإسباني، ليست سوى خيال محض، فإن هناك من يزعم أنها شخصية حقيقية، اشتهرت عبر كثير من الأعمال الأدبية والمسرحية والسينمائية التي سعت لاستعادتها، واستثمارها، وإعادة إنتاجها في ملامح مختلفة. وترتب على هذا الحضور الكثيف لشخصية دون جوان في الأدب والفن، تنوع وتباين في طبيعة التعاطي معها، من مبدع إلى آخر. فبينما ألبسه البعض رداء الذئب البشري، وحاصروه بالإدانات، عمد آخرون لدحض ما ألصق به من اتهامات، ومنحوه سمات النبل، والشرف، والوفاء. وفي روايتها "رجل اسمه الرغبة" (الدار المصرية اللبنانية) حاولت الكاتبة المغربية عائشة البصري، أنسنة الشخصية، فأبرزت مراوحتها بين الخير والشر، والصواب والخطأ.

منذ بداية السرد، وعلى عتبته الأولى، مهدت البصري لملامح شخصيتها المحورية، فأحالت عبر الشطر الثاني من عنوان الرواية "اعترافات دون جوان"، إلى خطايا ارتكبها البطل/ الراوي، وهي بذلك تنحاز إلى الصورة النمطية للدونجوان، كمخادع، ومغو للنساء. لكن سلوك الاعتراف مثلما يحيل إلى جرم أو خطيئة، يحيل في الوقت نفسه إلى لوم الذات، ويشي باحتفاظ الشخصية بقدر من النبل، وإن غلبتها طبيعتها البشرية المجبولة على الخطأ. واتساقاً مع هذه التوطئة، اختارت الكاتبة أسلوب السرد الذاتي بضمير المتكلم، على لسان البطل، مما سمح بتقديم صورة أكثر حميمية، وصدقية، وإنصافاً، للشخصية. وأتاح تفسير ما حل بها من عطب، لا سيما مع اعتماد نظرية الصدمة، في تشريح نفسية "دونجوانها"، فالشاب الحالم، صاحب الـ16 ربيعاً، أبصر خيانة حبيبته الصغيرة مع جارهما العجوز بأم عينه. وكانت موهبته في التقاط التفاصيل لعنة ووبالاً عليه، إذ ظل المشهد محفوراً في مخيلته، مما استنبت في لا وعيه الشر، والرغبة في الثأر، والانتقام، من جنس تنتمي إليه حبيبته.

عمدت عائشة البصري إلى تكرار عبارات دالة على خيانة الحبيبة الصغيرة، لتبيان أثر الصدمة على شخصيتها المحورية، ومسؤولية تلك الخيانة عما ألم به من تحولات: "قررت أن أستمتع بالحب دون أن أمرض به. كل هذه التحولات في شخصيتي، حدثت في الأشهر الأولى لفترة الحداد، لم يكن حداداً على موت الحب، بل على موت شخص قريب يكاد يكون نفسي"، ص 23. ومثلما كانت الخيانة دافعاً للتحول، كان الصراع مقدمة له، إذ اشتعلت جذوته في العوالم الداخلية للبطل، الذي انقسم إلى رجلين لا يشبه أحدهما الآخر، أولهما الحالم القديم، وثانيهما هو الغاضب المخادع، الذي استطاع أن يفرض سطوته لأعوام طويلة، بعد انسحاب الأول، وانزوائه.

قضايا شائكة

أرادت الكاتبة عبر استعادتها شخصية "دون جوان" طرق قضايا شائكة، تتصل بعلاقة أزلية معقدة، قطباها رجل وامرأة. وبدا انحيازها للمرأة التي حصلت على النصيب الأكبر من ميراث القهر والامتهان، عبر اعتمادها الصورة النمطية للدون جوان، الذي يسلك الكذب والإغواء، لإيهام ضحاياه بالحب، والفوز بأجسادهن، ومن ثم تدميرهن. لكنها في المقابل لم تبرئ ساحة نسائها تماماً، ولم تجعلهن دائماً ضحايا، بل جعلت ما جنح إليه البطل من ظلم، نتيجة لخيانة امرأة، وما حل به من عطب عقلي في كهولته، نتيجة لخيانة امرأة أخرى، كما أنها استدعت موروثاً شعبياً مغربياً، كانت الشخصية الدونجوانية فيه امرأة اسمها "عيشة قنديشة"، أشيع أنها شخصية خيالية من جنس الجن، كانت تغوي الرجال بجمالها، ثم تقتلهم وتلتهمهم، في حين أشيع عنها في حكايات أخرى، أنها شخصية حقيقية قاومت الاستعمار البرتغالي، ولم تكن تقتل سوى الجنود والخونة. وبذا مررت الكاتبة – ضمناً - فلسفة مفادها أن النفس الإنسانية موسومة بالعطب، أياً كان جنسها، وأن كل جان هو بالضرورة ضحية في قصة أخرى.

وعلى رغم من إعادة إنتاجها بعض الملامح النمطية لشخصية الدونجوان، فقد عمدت إلى خلخلة هذه النمطية، عبر إبداء رغبة البطل العميقة في العودة لذاته الأولى وإخفاقه، وكذلك عبر ما التزم به من قيم أخلاقية صارمة في تعاطيه مع نسائه، إذ كان حريصاً حين ينصب شراكه، ألا يوقع بامرأة متزوجة، ولم يجمع بين امرأتين في فراش، بل كان يستخدم مواهبه، لمساعدة نساء جريحات على التعافي من علاقات سابقة. ويمنحهن نهايات تجعهلن - في منظوره - أقوى، وأجدر بمواجهة الحياة. واتسق مع المنحى السيكولوجي الذي سلكته الكاتبة، وحرصت عبره على إبراز الأبعاد النفسية لشخوصها، علو نغمة الصراع الداخلي، وحضور الأحلام، التي مكنتها من تحقيق غاياتها في سبر أغوار النفس الإنسانية، واستجلاء أسرارها وتناقضاتها، وتفريغ كبتها الشعوري، وما يعتمل في عوالمها الداخلية. فكان حلم البطل بذاته طائراً بأجنحة من الضوء كملاك، ثم انفصال الأجنحة وسقوطه إلى الأسفل، تفسيراً لقسوة الخيانة، ووطأة انسلاخه عن ذاته الأولى، وقناعته بأن نجاته من شرور العالم، وتفادي السقوط، يتطلب انصياعاً لنسخته الجديدة المخادعة.

"الميتاسرد" وما بعد الحداثة

في مرحلة من السرد توارى صوت الشخصية المحورية، واستمر السرد الذاتي، لكن بصوت الكاتبة نفسها، بعد أن تسللت إلى عالم النص وحواشيه، كواحدة من شخصياته المحورية، مستعينة بـ"الميتاسرد"، مما حول النص إلى رواية داخل رواية. ومع هذا التشابك بين الواقعي والمتخيل، مررت البصري وعبر وعيها بذاتها، من غموض والتباس، حول حقيقة شخصيتها المحورية، وضبابية شخصية الزوجة وحوادث خيانتها ومقتلها. وتعمدت الكاتبة وضع القارئ في حالة أخرى من اللايقين في شأن "خوان"، في القسم الثاني من السرد، وما إذا كان هو نفسه "دونجوان" القسم الأول، إذ اختلفت بعض معطيات كلتا الشخصيتين، لكن الكاتبة استمرت في التعاطي معهما، باعتبارهما شخصية واحدة، حتى تكشفت الحقائق مع نهاية الرحلة، والتأمت خيوط الأحداث، متيحة للقارئ إمكان التأويل، وملء ما تركته له من فجوات سردية. وعلى رغم بروز سمات ما بعد الحداثة، فقد عمدت الكاتبة إلى استدعاء التراث، فشخصية "دونجوان" بالأساس مستقاة من الموروث الشعبي الإسباني، كما أن ثيمة انتقام البطل من النساء بعد تعرضه للخيانة من حبيبته، هي ثيمة تراثية مستوحاة من "ألف ليلة وليلة". كذلك استدعت بعض الموروث الشعبي العربي، وطعمت بها نسيجها، مثل بعض الأمثال الشعبية ومنها "لكل فولة كيالها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استعانت الكاتبة بتقنية الرسائل، وإن طوعتها بما يناسب التطور الحديث، ويتسق مع الوسيط الإلكتروني، من حيث الشكل، والطول، واللغة، مستفيدة من دورها التقليدي في توسيع رقعة البوح، وتعزيز حميمية السرد، لا سيما في ظل ما اصطبغت به من رومانسية. وعلى رغم توزع صوت السرد بين الكاتبة، وشخصيتها المحورية، فقد استطاعت بعض الشخصيات التعبير عن ذواتها بحرية، من خلال مساحات الحوار، لا سيما منظفة الفندق "بيبا". ومررت البصري عبر صوت هذه الشخصية أيديولوجيا مغايرة، تتجاوز دفاعات دونجوان، وحيادية الكاتبة/ البطلة، وتعبر عن غضب كامن، وانحياز صريح للمرأة المضطهدة، والمقهورة، والمخدوعة، وتلك التي ناء كاهلها بأعباء، كان أولى بحملها الرجال: "لم أكن يوماً مجرمة، كنت فقط امرأة غاضبة، امتلأت حتى انفجرت... لم أستوعب طرد النساء من بيوتهن مع دزينة من الأطفال، ولا مشاهد العنف اليومي، ضرب النساء، وأثر الجروح على أجسادهن"، ص 176.

استدعاء كورونا

تعاطت الكاتبة مع خصوصية العلاقة بين الرجل والمرأة، وتعقيدها، وما يعتري النفس البشرية من انكسارات، كقضايا رئيسة تمحور حولها السرد. غير أن هناك قضايا ثانوية تطرقت لها، مثل الهجرة غير الشرعية، التي لا تزال تطعم الأمواج آلافاً من القتلى والغرقى، وقضية التلصص وانتهاك الخصوصية، التي زادت التكنولوجيا من وطأتها، عبر كاميرات المراقبة، وغيرها من تقنيات متطورة. وكان استدعاء كورونا خلال رحلة السرد كاشفاً لهشاشة العالم، والانحراف اللاأخلاقي لحكوماته، بإعطائها الأولوية للسلاح، لا للدواء. كما كان كاشفاً عن مزيد من سوءات النفس البشرية وآثامها، التي تجلت في مشاهد مفزعة، لابن يرفض تسلم جثة أمه من المشرحة، وأم تخرج جثة ابنها من البيت كما تخرج الفضلات، وأخ يضع أخاه الميت في تابوت من الكرتون ويتركه في الشارع، وزوجة تلف جثة زوجها في كيس بلاستيك، وتضعه أمام حاوية القمامة!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة