Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الهولندي نيكولا إيكمان أو الحداثة وفقا للمعلمين القدامى

معرض فرنسي استعادي يلقي الضوء على مختلف إنجازاته الفريدة

لوحة من معرض الرسام الهولندي نيكولا إيكمان (خدمة المعرض)

ملخص

ثمة فنانون لا نبالغ إن قلنا إن مسيرتهم وتجاربهم الفنية تلخّص جزءاً كبيراً من تاريخ الفن. هذه هي حال نيكولا إيكمان (1889 ــ 1973). رسام وحفّار هولندي منسي ظلماً، ولد في بروكسل، في الدار التي باشر فيكتور هوغو فيها كتابة "البؤساء"، وعَبَر تأثيرات متعددة تفسّر، بطريقته الفريدة في توليفها، السطوة التي تمارسها أعماله على المتأمل فيها. أعمال يقدم مختارات منها ل المعرض الاستعادي الذي ينظمه لصاحبها "متحف فلاندر" في مدينة كاسيل الفرنسية.

من التعبيرية إلى السوريالية، مروراً بالتكعيبية والمستقبلية وسائر الجماليات التي انبثقت في العقود الأولى من القرن العشرين، اختبر الفنان الهولندي نيكولا إيكمان كل شيء، قبل أن يسلك بعد الحرب العالمية الثانية درباً خاصاً نأى به عن جميع دروب زمنه الفنية، ومدّ عمله بأصالة لا تعود فقط إلى الحصيلة المدهشة التي بلغها لجميع الجماليات المذكورة، بل خصوصاً إلى إعادة تأويله فنياً روائع المعلمين القدامى، مثل جيروم بوش (1450 ــ 1516) وبيتر بروغِل الأكبر (1526 ــ 1569)، ومعاصره العملاق جايمس أنسور (1860 ــ 1949)، مبتكراً من خلال ذلك عالماً حلمياً يشكّل نشيداً للخرافي والخارق.

في أعمال إيكمان نستشعر إذاً فوراً تأثير فن الشمال الأوروبي، وليس من قبيل الصدفة أنه أطلق على نفسه اسم "الفلاندري"، نسبة إلى مقاطعة فلاندر الشمالية. ومثل مواطنه فان غوخ، اهتم طوال حياته بالناس المتواضعين، كالفلاحين والمتشردين، وواظب على رسمهم بإنسانية وعظمة كبيرتين، من منطلق اقتناعه بأن "لا فن، إن لم يكن له وجه إنساني".

في الصالة الأولى من المعرض، نعرف أن إيكمان توجّه عام 1914 إلى بلدة نيونين في هولندا للعودة إلى جذوره، وأيضاً لتجنّب الحرب، فاستقر في دار صديقه القس بارت دو ليخت، حيث عاش فان غوخ سنوات عدة قبله. ولذلك، نستشفّ في أعماله الأولى تأثّره بهذا الفنان العبقري، وتحديداً بالمناظر الطبيعية التي رسمها في مقاطعة برابان، وبأولئك الرجال الذين يعبرون هذه المناظر بظهور منحنية. فضمن هذا الأسلوب، رسم وحفر لوحتي "خيول هيلفرسوم" و"المستنقع في إيرسيل"، بينما تستحضر لوحته "الرسول"، بتدرجات الضوء والعتمة فيها، وفلاحيها ذوي الملامح القاسية، لوحة فان غوخ الشهيرة "أكلة البطاطس". لكن في عام 1921، غادر إيكمان هولندا واستقر في باريس، حيث تخلى لفترة عن الموضوعات المستوحاة من ريف بربان، لاختبار أساليب مختلفة، خصوصاً التكعيبية، كما يظهر ذلك في لوحة "الصياد في الشتاء" ذات الأشكال الهندسية. وفي منطقة مونبرناس التي تردد عليها، نسج علاقات حميمة بمعظم رساميها، وخصوصاً مواطنيه فان دونغن، فانتونجيرلو وموندريان الذي ربطته به صداقة عميقة.

ولأن إيكمان كان يكنّ إعجاباً لا حدود له للمعلمين الفلمنديين، نرى في الصالة الثانية كيف استخدم طوال مسيرته الفنية تقنيات الرسامين "البدائيين"، وتحديداً الأخوين فان إيك اللذين بلغا نوعاً من الكمال في الرسم بالألوان الزيتية، في مطلع القرن الخامس عشر، كما استخدم ألواحاً خشبية كركائز للرسم، على خلاف معاصريه الذين فضّلوا القماش والورق المقوّى، وأولى عناية كبيرة في إعداد هذه الركائز، يشهد عليها صقله إياها ثم طلاؤها بعدة طبقات من الصمغ، قبل صبغها بطلاء زجاجي. ولإكمال تكريمه للمعلمين الفلمنديين، رسم مباشرةً داخل الإطار، مثلهم، وتناول جذوره في موضوعاته، في مشاهده القروية، وفي بورتريهاته لناس بسطاء، كما في لوحته "باقة من العشب البري" التي تستحضر، بفلاحيها ذوي البنيات الضخمة والأيدي القوية، لوحات كثيرة لبيتر بروغل الأكبر، أو في مشاهده ذات التفاصيل والشخصيات الخارقة، التي تسقطنا مباشرةً داخل عالم جيروم بوش.

أساليب مختلفة

ومن الأعمال المعروضة في الصالة الثالثة، نستنتج أيضاً تأثّر إيكمان بجايمس أنسور الذي يتقاسم معه عدم عثوره على نفسه في أيٍّ من تيارات عصره، وبالتالي اختباره طوال مسيرته الإبداعية أساليب مختلفة. يتقاسم أيضاً معه ذلك الإعجاب الكبير بالرسامَين بروغل وبوش، ومشاركته هذين العملاقين رؤيتهما الساخرة للعالم. ولا عجب إذاً في اهتمام إيكمان، مثل أنسور قبله، بالكرنفال كلحظة تحرر وتصريف لانفعالات جمّة، وبالأقنعة التي شكّلت بالنسبة إلى كليهما تجسيداً، لا بل تشخيصاً دقيقاً ومدهشاً لخبث العلاقات البشرية ومختلف انحرافات المجتمع. وفي هذا السياق، نجد في لوحتيه "حفلة تنكّرية" ونافخ البوق" الحشود المقنّعة والمقلِقة نفسها التي تسكن لوحات أنسور.

في الصالة الرابعة، نرى مدى إتقان إيكمان فن البورتريه، وممارسته إياه بقلم الرصاص حين كان يتعلق الأمر بأصدقائه الحميمين، ممثّلاً إياهم كتماثيل نصفية، على طريقة رسامي عصر النهضة، ومستخدماً الألوان الزيتية فقط في تشكيلاته الأكثر تفصيلاً، التي غالباً ما تصبغها رمزية معينة، كما في لوحة "الرسام وموديله" التي لمّح فيها إلى عجزه عن الاستغناء عن الموديل الحيّ. وفعلاً، في لوحتي "المذراة والتفاحة" و"الطيور تعبر"، لجأ إلى زوجته أندريه هيرينشميد، التي كانت تتمتع بوجه جميل ومميز. ولأنها كانت شقراء ورشيقة القامة، اختارها للمثول أيضاً عارية، وقوفاً، كشخصية مركزية في لوحات أطلق العنان فيها لخياله، كما في "عري مع إكليل من الزهور" و"عري مع طوطم". نرى أيضاً في هذه الصالة كيف يمكن أن يصبح البورتريه معه صورة كاريكاتورية أو مناسبة للسخرية من الذات، كما في لوحة "الرجل المهم" التي يحضر فيها رجل بطريقة جانبية، مرتدياً قبعة كبيرة جداً يعلوها ريش طاووس. هل أن الفنان، الذي كان يتقنّع غالباً، يسخر في هذا العمل من نفسه، أم من ناقد فني لم يمسك يوماً بريشة كي يعلم ما هو الفن؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولأن إيكمان وضع مواهبه الفنية في خدمة الأدب انطلاقاً من عام 1933، فزيّن بالرسوم روايات كلاسيكية وأخرى للأطفال والمراهقين، ونتأمل في الصالة الأخيرة من المعرض بعض ثمار هذا النشاط، وأبرزها المحفورات العشرون التي خصّ بها "أسطورة تيل أويلينسبيغل" للبلجيكي شارل دو كوستر. ولمن يجهل هذا الرواية الساحرة، نشير إلى أن شخصيتها الرئيسة، تيل، مهرّج ماكر ولعوب ينتمي إلى الفولكلور الألماني، وقد اقتبس دو كوستر أسطورته وحوّله إلى بطل قصة تقع أحداثها خلال القرن السادس عشر في مقاطعة فلاندر التي كانت آنذاك تحت الحكم الإسباني.

وفي المحفورات التي استلهمها إيكمان من هذه القصة، وأنجزها عام 1947، تتجلى كل موهبته اللافتة في الرسم وتشييد الصور، ومعها جموح خياله الخصب. أعمال لا عجب في فتنتها، فشخصية تيل، الهزلية بقدر ما هي شجاعة، الكريمة بقدر ما هي غير امتثالية، تتحلى بكل الصفات الحميدة في نظر فنان كان مناهضاً لسلطة العسكر ومدافعاً شرساً عن الحريات. ولذلك، لم يقتصر احتفاؤه بهذه الشخصية على المحفورات المذكورة، بل رصد لها عام 1972، أي قبل سنة من وفاته، لوحة رائعة بعنوان "تيل العفريت" تشكّل أيضاً، بأسلوبها، تحية لمعلّميه بوش وبروغل.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة