Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الصراعات الخفية في حراك الجامعات الأميركية المناصر لغزة

تراكمات داخلية متعلقة باليسار أسهمت في زخم الاحتجاجات

 احتجزت الشرطة متظاهرين في حرم معهد شيكاغو للفنون بعد أن أقام الطلاب مخيماً احتجاجياً في 04 مايو 2024 (أ.ف.ب)

تصاعد الأسبوع الماضي حراك الطلبة في الجامعات الأميركية ضد الحرب الإسرائيلية على غزة، وفيما نتج ذلك من الوعي المتزايد بالمأساة الفلسطينية التي عمقها الصراع الأخير، إلا أنه ليس بالضرورة نتيجة وعي سياسي بكل ما يعيشه الشرق الأوسط، فهذا الحراك هو نفسه الذي أفرز مشهداً تظهر فيه أعلام "حزب الله"، المصنف في قوائم الإرهاب في الولايات المتحدة ودول عربية، مرفرفة في جامعة "برينستون".

لا تقتصر الاحتجاجات الأخيرة على المسلمين أو العرب، بل يشارك فيها أميركيون بتوجهات ربما لا تتوافق مع غالبية المسلمين أو العرب أنفسهم. ولذلك فإن النظرة السطحية في دوافع الطلبة من نصب المخيمات واحتلال مبنى كامل كما حدث في جامعة كولومبيا في نيويورك قد تغفل أسباب مهمة أسهمت في زخم الاحتجاجات ضد السياسة الأميركية تجاه الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، ومنها تراكمات داخلية من التعليم الثائر على السلطة وعلى كل ما هو "أميركي". وعند الاستماع لآراء المحتجين، تجد أنهم يطرحون مسائل داخلية بعيدة من ذلك الصراع مثل إيقاف تمويل الشرطة، وهي دعوة يشتهر بها اليسار التقدمي في الولايات المتحدة.

أجندة اليسار في الجامعات

يؤكد بحث بعنوان "أزمة الكفاءة، التأثير المفسد للنشاط السياسي في جامعة كاليفورنيا" بأن تمدد اليسار في المؤسسات الأكاديمية ليس مجرد تهمة يرميها المحافظون، بل واقع في عدد من الجامعات مثل جامعة كاليفورنيا التي تعد من أوائل الجامعات التي اندلعت فيها الاحتجاجات الأخيرة.

الطالب الأميركي يذهب إلى فصول جامعته ومن المرجح أن يسمع فيها أن إرث بلاده قائم على اضطهاد الهنود الحمر واستعباد السود

ويخلص البحث الذي أجرته "رابطة علماء كاليفورنيا" عام 2012 إلى أن جودة التعليم العالي تتدنى بينما تتزايد الشكاوى حول تسييس التعليم واستغلال الفصل الدراسي لبث الأيديولوجيا اليسارية. وأشار جورج ليف في موقع "فوربس" في مقالة قديمة إلى أن الدراسة المكونة من 87 صفحة عرضت على إدارة الجامعة ومجلس الأمناء، إلا أنهم تجاهلوها، مما يوضح على حد رأيه عدم رغبتهم في التصادم مع أعضاء هيئة التدريس المرخص لهم تدريس ما يحلو لهم.

ومن الصور الدالة على سطوة اليسار في الجامعات انتشار تدريس "نظرية العرق النقدية"، التي تقول إن العنصرية ليست مجرد تحيز شخصي، ولكنها جزء لا يتجزأ من المؤسسات والسياسات الأميركية. ومن خلال هذه النظرية وضع اليسار بصمة قوية في التعليم العالي، وعلا الصوت المعارض للسلطة، والمندد بتاريخ أميركا وساد، والطالب الأميركي يذهب إلى فصول جامعته ومن المرجح أن يسمع فيها أن إرث بلاده قائم على اضطهاد الهنود الحمر واستعباد السود، وأن السياسات الحالية، خارجية أو داخلية، فيها بقايا من "العنصرية الممنهجة".

ولا يوجد من يعبر عن الفكر اليساري المندد بالإرث الأميركي بحدة وصراحة مثل بول أوستر الذي شارك كشاب في الاحتجاجات المناهضة لحرب فيتنام، مثلما يفعل اليوم آلاف الطلاب ضد حرب غزة.

يقول أوستر الذي توفي الأسبوع الماضي إنه أخطأ عندما اعتقد أنه يستطيع مع الشبان والطلبة الآخرين وقف تلك الحرب، بدلاً من ذلك، "علينا أن نكلم أولادنا عن فصل العبودية وأن نعلمهم ما حصل خلاله. علينا أن نقول لهم إن أميركا هي بلد رائع، وفي الوقت نفسه، بلد مبني على جريمتين: إبادة الهنود الحمر واستعباد ذوي البشرة السوداء".

ويضيف "حين كنت فتياً، كانوا يقولون لنا في المدرسة: "أنتم تعيشون في أعظم وأجمل بلد في العالم"، وإن كل شيء فيه يتسم بالكمال. يا لهذه الكذبة! يجب أن نقول الحقيقة".

يرى المحافظون اليوم بأن سيطرة اليسار جعلت من التعليم العالي يغرس هذه الصورة المظلمة في أذهان الطلاب، وتغذية كراهيتهم تجاه كل ما هو أميركي، من دون إظهار الجوانب الإيجابية لبلادهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تسييس التعليم العالي

مع سطوة الصوت اليساري في الجامعات يميل الطلبة المحافظون اليوم إلى كتم أصواتهم خشية "الإلغاء" والاعتداء. وأثيرت قبل سنوات حوادث ناشئة من التشدد الفكري، مثل اعتداء بروفيسورة في جامعة كاليفورنيا جسدياً على طالب كان يتظاهر سلمياً ضد الإجهاض عام 2014.

وأحاديث سيطرة اليسار على التعليم الجامعي ليست واردة في اتهامات الجمهوريين، بل في تنظير اليساريين أيضاً.

في عام 2013 كتب البروفيسور في قسم اللغة الإنجليزية بجامعة ولاية كاليفورنيا التطبيقية دونالد لازير عام 2013 كتاباً بعنوان "لماذا يجب أن يحوي التعليم العالي تحيزاً يسارياً؟"، هاجم فيه الرأسمالية والشركات والفكر المحافظ الذي "يشوه" أميركا ويهيمن عليها، وطالب بأن يكون أساتذة الجامعات القوة الموازنة لمواجهة ذلك.

ويبرز الكاتب السعودي ممدوح المهيني في مقالة بعنوان "مدخل إلى التثوير" شكوى المؤرخ نيل فيرغسون من سطوة الأيديولوجيا اليسارية على المؤسسات الأكاديمية، واستبدال بالأصوات المحافظة أصوات ذات ميول يسارية، لا تتردد في حقن عقائدهم وأجنداتهم في عقول الطلاب، إذ "يقول فيرغسون إنه حضر مرة بديلاً لأحد الأساتذة في جامعة بيركلي، وأشار إلى الأسباب الدينية خلف تفجيرات الـ11 من سبتمبر (أيلول). شعر على الفور بتململ وعدم ارتياح الطلاب من هذه الحقيقة، مفضلين عليها أسباباً أخرى حقنت برأسهم، بينها أنها كانت رد فعل على الإمبريالية الأميركية".

يبدو ذلك صادماً حتى ترى شباباً أميركيين في "تيك توك" يتداولون رسالة زعيم "تنظيم القاعدة" أسامة بن لادن قبل نحو عقدين ويروجون لها بأن الحقيقة فقط لأنها تلقي باللوم على السياسات الأميركية في حدوث هجوم الـ11 من سبتمبر مثل الموقف من إسرائيل، متجاهلين الأيديولوجيا الدموية التي تقود التنظيم وفظاعة الجرائم الإرهابية التي ارتكبها واستباحته دماء الأبرياء. حدث ذلك في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023.

كتم الصوتين المتوازن والمحافظ

رؤية غير الأميركيين للحياة الجامعية في الولايات المتحدة قبل وبعد مختلفة كثيراً. قبل الدراسة يتوقع الفرد الانغماس في فضاء تلتقي وتتصادم فيه الأفكار كلها، وذلك ممكن بالطبع، إلا أن مع تنامي ما يعرف بـ"ثقافة الإلغاء" في السنوات القليلة الماضية، صار الفضاء العام في الجامعات مليئاً بالتحفظات إلى حد مفرط، وألقى ذلك بظلاله على النقاشات السياسية التي يتجنبها المحافظون بسبب الاستقطاب.

ويتكرر هذا النهج لدى الأكاديميين أيضاً، إذ يبدون حذراً في التعامل مع الموضوعات السياسية الحساسة مثل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي ويتضح ذلك في البيانات الاستباقية المعتادة. فمثلاً إذا وجد أستاذ تاريخ نفسه مجبراً على مناقشة حقائق تاريخية من قبيل فرض إسرائيل الحكم العسكري على الضفة الغربية وغزة في 1967، فقد يسبق حديثه بالتأكيد بأنه "غير معاد للسامية"، وعندما يتطرق آخر إلى عدد القتلى الإسرائيليين في عملية "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، فإنه سيتوخى الحذر مؤكداً بأن خطابه لا يدعو بالضرورة إلى كراهية الإسلام أو استهداف الطلاب المسلمين في صفه.

لا يلام هؤلاء الأكاديميون، فالجو العام في الجامعات الأميركية مشحون على رغم قيمتي حرية التعبير والحرية الأكاديمية التي تكرسهما هذه الجامعات. وبلاغ من طالب بشبهة الإسلاموفوبيا قد يقود إلى الطرد كما حدث لمحاضرة جامعة هاملين إيريكا لوبير بارتر، التي فصلت العام الماضي من وظيفتها بسبب عرض لوحة تعود للعصور الوسطى تجسد النبي محمداً ضمن مادة تاريخ الفن خصصت فيها جلسة حول الفن الإسلامي. وجاء الفصل على رغم اتخاذ المحاضرة بعض الاحترازات لمعرفتها بإجماع "كثير" من المسلمين على حظر تصوير الرسول، ومنها إعلانها في وصف المادة بأنها قد تتضمن صوراً لشخصيات مقدسة، وطلبها من الطلاب الذين قد يتحسسون من ذلك التواصل معها.

وهذا الطرد ليس بالضرورة نصرة للإسلام، وإنما هو تجسيد آخر لتأثير اليسار في إنشاء مكاتب معنية متخصصة في تعزيز التنوع وتقبل الأقليات. وبات شائعاً أن تجد جهة أو مسؤولاً رفيعاً معنياً بالتنوع في الجامعات. و"مكاتب التنوع" هذه يعدها المحافظون صورة من صور سطوة الأيديولوجيا اليسارية على التعليم العالي، وخصوصاً كليات الفنون والآداب.

وشهد عام 2023 ما لا يقل عن 20 حالة حاول فيها الطلاب أو أعضاء هيئة التدريس إلغاء دعوات بعض المتحدثين بسبب توجهاتهم. وفي مارس (آذار) الماضي، تعرض القاضي الفيدرالي المحافظ كايل دنكان للمضايقة من طلاب كلية القانون في جامعة ستانفورد وعميدها أثناء حضوره جلسة نقاش.

تغييب التعليم المدني

هذه الأحادية التي باتت تقيد حرية التعبير وتتنافس مع روح التعددية بالجامعات الأميركية دفعت أكاديميين إلى المطالبة بإعادة مناهج التعليم المدني التي تشجع على تقبل الاختلاف، وهي سمة يرى بعض قادة الجامعات الأميركية أنها مفقودة في الحراك الأخير.

ترى ديبرا ساتز عميدة كلية الإنسانيات والعلوم بجامعة ستانفورد ودان إدلشتاين "رئيس هيئة التدريس لبرنامج التعليم المدني والليبرالي والعالمي" بأن التعصب الفكري لم ينشأ عن الاستقطاب المتزايد في المجتمع فحسب، بل هو نتيجة أيضاً لفشل التعليم العالي في تزويد الطلبة بأساسات فكرية مشتركة تعدهم للعيش في "مجتمع ديمقراطي متباين الآراء".

فطوال القرن الـ20 اعتمدت الجامعات منهج "الحضارة الغربية" لتعليم الطلاب بأن الخلاف عنصر ضروري للتعلم والوعي وتعريفهم بـ"مجموعة من المراجع المفهومة بشكل متبادل، التي أصبحت أساساً للنقاشات والمواد المستقبلية مما وضع خلافات الطلاب على أرضية مشتركة.

لكن بمرور الوقت تخلت الجامعات عن تدريس مادة "الحضارة الغربية" بحجة أنها متحيزة وتعرض الطلاب للأفكار الغربية فقط وفيها تلميح بأنها متفوقة على أفكار الثقافات الأخرى.

وألغت جامعة ستانفورد متطلب السنة الأولى المسمى "الثقافة الغربية"، واستبدلت به برنامجاً أشمل بعدما دان ناشطون في عام 1987 التحيز الأوروبي الغربي والتحيز الذكوري في ذلك المتطلب. وبين عامي 1964 و2010 تخلت جميع الجامعات تقريباً (باستثناء كولومبيا) عن متطلبات السنة الأولى التي تتضمن منهجاً مشتركاً للعلوم الإنسانية، فأصبح بإمكان الطلاب الاختيار من بين مسارات المناهج الدراسية المختلفة.

وبين عامي 1995 و2012 كان بإمكان طلاب جامعة ستانفورد الاختيار من بين نحو 12 مادة من مواد العلوم الإنسانية في السنة الأولى، بدءاً من مادة حول أدوار الجنسين في الأسر الصينية إلى الرؤى التكنولوجية للمدينة الفاضلة، وعلى رغم أن عديداً من هذه المواد كانت قوية فإنها لم يكن لديها جوهر مشترك للقراءات ولا أي مبرر منطقي واضح لسبب الحاجة إليها.

وكانت الخلافات حول النصوص التي يجب أن تكون إلزامية حجة الجامعات لتبني هذا التغيير، لكن بالنسبة إلى الباحثين فإن هناك سبباً آخر لتحول الجامعات نحو المواد الاختيارية، وهو أنها وقعت تحت تأثير أيديولوجية "السوق الحرة" مثل كثير من جوانب المجتمع. وفي هذه الرؤية يحتل الاختيار والتقدم الفرديان مركز الصدارة، فالمواد الإلزامية بات ينظر إليها بأنها أبوية، بينما تفهم الحرية على أنها فعل الفرد ما يشاء.

ويقول الأستاذان في "ستانفورد" إن "حرية الاختيار قيمة مهمة، ولكن من دون أسس مشتركة يمكن أن يؤدي ذلك إلى قيام الناس بالصراخ على بعضهم بعضاً، لأن النموذج التعليمي الذي لا يتيح مجالاً لمنهج دراسي أساس قائم على متطلبات ديمقراطيات القرن الـ21 يترك الطلاب غير مجهزين للتعامل مع الخلافات"، ويضيفان في مقالة في "نيويورك تايمز" "في عالم حيث الاختيار الفردي هو الأسمى يصبح من الصعب قبول وجهات نظر بديلة لوجهات نظرنا التي قد تكون صالحة أيضاً، وإذا كانت أهدافنا هي الوحيدة ذات شأن، فمن الممكن بسهولة أن ينظر إلى أولئك الذين لا يشاركوننا إياها على أنهم عقبات يجب إزالتها".

وانتقد الكاتبان التبني الواسع النطاق لنهج السوق الحرة في المناهج الجامعية بسبب آثاره الضارة ومنها تغذية النزعة المهنية المتفشية بين الطلاب، مما دفعهم إلى ترك مواد العلوم الإنسانية لصالح المسارات المهنية المؤهلة لوظائف مربحة وقالا عندما لا تؤكد الجامعات القيمة الجوهرية لنصوص أو موضوعات معينة من خلال جعلها إلزامية، فإن عديداً من الطلاب سيتبعون ببساطة "إشارات السوق"، مضيفين بأن الجامعات تتحمل واجباً أخلاقياً ومدنياً يتمثل في تعليم الطلاب كيفية النظر في وجهات النظر المتعارضة ووزنها، وكيفية قبول الاختلافات في الرأي باعتبارها سمة صحية لمجتمع متنوع.

واستشهد الأكاديميان بإدخال جامعة ستانفورد في عام 2021 متطلباً إلزامياً باسم "التعليم المدني والليبرالي والعالي"، يركز على تنمية المهارات الديمقراطية مثل الاستماع والإنصاف والتواضع، ويتضمن مادة حول المواطنة في القرن الـ21 تقدم في صورة ندوة ومناقشة صغيرة، وتزود الطلاب بالمهارات والتدريب ووجهات النظر اللازمة للتفاعل مع الآخر المختلف عنهم، بدلاً من الرقابة أو الإلغاء.

المزيد من تقارير