يواصل الناقد الفرنسي باتريس بافيس عمله الموسوعي في تأليف المعاجم المسرحية، فبعد تحقيقه لعمله الضخم "معجم المسرح" (1980-1987-1996)، ها هو اليوم يقدم عملاً جديداً في هذا السياق بعنوان "قاموس العروض الأدائية والمسرح المعاصر"، وقد صدرت حديثاً ترجمته العربية عن هيئة البحرين للثقافة والآثار، وقد أنجزها المترجم السوري أسامة غنم باذلاً جهداً علمياً لترسيخ المصطلحات والمقولات المسرحية الأجنبية بالعربية. يتمحور عمل الأكاديمي الفرنسي حول تحديد مفاهيم خاصة باللغة النقدية المسرحية، وقد أعاد وضعها ضمن سياق استعمالاتها المتنوعة، وتتبع تقاطعاتها وتبدلاتها ضمن تغيرات حادة ومنعطفات في فهم طبيعة فن المسرح وشروطه الفنية.
يتناول القاموس الجديد التحولات التي طرأت على المسرح. فالمسرح الحالي كما يعبر المؤلف، "شديد التطاير إلى درجة أنه قد يكون اختفى قبل أن ندرك طبيعته، إذ لا نقدر أن نلتقط، بالنظر أو بالفكر، تحولاته اللانهائية". يتابع المعجم المسرحي التغيرات السياسية والاقتصادية الجذرية التي طرأت على العالم بين عامي 1980 و2006، وأثر هذه التغيرات في النظرية المسرحية، وما يشهده فن المسرح من صراع على النفوذ ما بين فلسفة أوروبية، تستلهمها نظريات ما بعد الدرامي، ونظرية براغماتية في الأداء والأدائية تسود كلاً من بريطانيا وأميركا وأستراليا، فهذان العالمان - كما يراهما بافيس - ينزعان إلى تجاهل واحدهما الآخر في نتائجهما وفي مقاربتهما النظرية للأعمال الفنية.
الكتاب الذي يأتي ضمن سلسلة "مشروع نقل المعارف" الذي يشرف عليه الأكاديمي التونسي الطاهر لبيب في "هيئة البحرين للثقافة والآثار"، يعكس رغبة المؤلف الأكاديمي في الإجابة عن الأسئلة السابقة، وأن يخرج بكتابه من المنظور المتمركز أوروبياً حول المسرح، وأن ينظر كيف يتشارك مسرحيون في الصين واليابان وكوريا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، في هذه النقلة الجديدة الخاصة بفنون الأداء وأنواع التنظير لها.
يناقش الكتاب الواقع في 428 صفحة 200 مصطلح ونحو 700 من المترادفات، التي أمست اليوم من ضرورات الخطاب النقدي الحالي والنقد الاحترافي، بقدر كونها لغة الممارسين والمتفرجين الشائعة. فبدلاً من تكرار الدراماتورجيا الكلاسيكية والحديثة التي سبق أن قدمها بافيس في كتابه "معجم المسرح"، فضل أن يركز جهوده على مفاهيم ذات صلة بإنتاج المسرح المعاصر، مستعيراً من الفنون والفلسفة المعاصرة والأنثربولوجيا.
المتفرج الشبح
يعيد الأكاديمي الفرنسي تقويم دور الجمهور، محاولاً الإحاطة بما يسميه بـ "الهيئة الشبحية للمتفرج". إذ يحدد الكتاب القاموسي حقوقاً وواجبات جديدة لهذا المتفرج - الشبح أولها في العروض غير الكلامية من مثل الرقص، والإيماء، ومسرح بلا كلام، وعروض أدائية يعالج نصها باعتباره مادة صوتية. فلم يعد بمقدور المتفرج استخدام اللغة لإعادة تشكيل عالم مألوف أو حكاية خطية قائمة على اللغة، بل على هذا المتفرج امتصاص إسقاطات كثيفة ومتناقضة للعرض المسرحي.
ومن العروض التي تحدد حقوقاً وواجبات جديدة للمتفرج هي "عروض المسار" أو ما يطلق عليها بافيس "عروض النزهة الأدائية"، وهي عبارة عن اكتشاف أو استكشاف مدينة عبر اتباع تعليمات وإرشادات باستخدام سماعات صوتية. فالمتفرج - بحسب بافيس - مجبر على التعامل مع مساره الجديد خارج البنى المشهدية أو السردية التقليدية، ولعل أبرزها عروض "مسرح الشارع" التي تعيد تقويم دور المتفرج في العملية المسرحية المعاصرة، إذ يواصل المتفرج نزهته خارج ممرات المسرح المغلق، أو ما يسميه القاموس بـ "المسرح الحبيس القفص"، الذي يقول الكاتب عنه بأنه قد تحجر عند تقاليد تمثيل من نوع معين أو أدب ما. يتبدى الشارع باعتباره مختبراً للمتفرج، لكن الكتاب لا يدعي رسم خريطة لأنواع المتفرجين وأشكال سلوكهم، فهناك "عروض مختلطة مجهولة الهوية"، تعمل على دمج ظواهر عدة لتتعايش في الحدث ذاته، وهذه العروض مكونة من عناصر متداخلة وكثيفة من ممثلين في أثناء بث حي، وتسجيلات سمعية - بصرية، وشريط صوت مسجل، وحواسب موصولة بالإنترنت، وأشياء في تجهيز فني.
عولمة مسرحية
هذه العروض الشديدة التنوع لا يمكن إلا أن تنتج ردود الفعل الأكثر تنوعاً لدى المتفرجين، نظراً إلى تنوع آفاق توقعاتهم وأنماط سلوكهم. وعلى رغم ذلك يلاحظ بافيس سيرورة إضفاء نوع من التجانس بين المتفرجين نتيجة العولمة بين هذه العروض. فيغدو المتفرج في مجتمع معولم في انفتاح لانهائي على كل أشكال الأداءات الثقافية مستهلكاً انتهازياً، وأكثر منه صديقاً حميماً للممثل أو أناه الأخرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يطرح الكتاب - القاموس سؤالاً حول إعادة تعريف المسرح والمتفرج في آن واحد. فإزاء انفجار التجارب المسرحية والأدائية وتحولات المتفرج يتساءل الكاتب: "هل علينا إعادة تعريف المسرح أم المتفرج أم كليهما؟ وهل يجب أن نكتفي بالتعريف القديم العالمي للمسرح بأنه لقاء بين ممثل ومتفرج في زمن فعلي وضمن فضاء مشترك؟" ويرى أن تجارب عديدة لا تستجيب لهذه المعايير، فثمة محاولات لإضفاء الطابع الميديائي (الميديا) لدى المنتجين والمستهلكين على السواء، بحيث يؤدي ذلك إلى حال عدم يقين حول أصل الأفعال والمهمات وإلى خلط بين الفنان والزائر.
هكذا يتهاوى موضوع المسرح، والشخص الذي جاء لحضور عرض يتحول هو ذاته إلى عرض. بهذا المعنى الذي يسوقه الكاتب يفقد المتفرج هويته الواضحة والمحددة أكانت جنسية أو وطنية أو لغوية أو ثقافية أو مهنية أو عائلية، إذ بات المتفرج المعولم يبتلع كل شيء بالجملة، ويذهب إلى كل مكان، ولا يقوى على التركيز ويتشتت. فالعولمة تعطيه وهم أنه مرتبط بشبكات متعددة. شبكات هويته، والشبكات الاجتماعية التي ينادي هو بها، لكنه لا يدري أن توقعه وإعجابه ونفوره وذائقته شكلتها مسبقاً هذه الشبكات. فبعد أن كان المسرحيون يشتكون في القرن الـ20 من الطابع الزائل للعرض الذي لا يستمر بعد نظرة المتفرج المراقبة له، أصبح المتفرج اليوم هو القابل للزوال، الذي لا يمكن الإحاطة به، بينما أصبحت الأشياء أو المواضيع الأدائية قابلة للتحميل قدر ما نشاء.
المخرج الملك
"لقد استحال المتفرجون اليوم إلى مصاصي دماء مدعوين إلى أن يلتذوا بالعرض باعتبارهم مستهلكين لتجارب فريدة وكثيفة، لكن لا غد لها". منطلقاً من هذا القول، يناقش بافيس مفهوم الإخراج ووظيفة المخرج من زاوية جديدة، إذ تغير تعريف الإخراج منذ قرن ونصف القرن على ظهوره بين عامي 1790 و1950. وهذه المرحلة - كما يصنفها بافيس - هي مرحلة سيطرة المخرج وتفوقه باعتباره الفنان هو المتحكم بمعنى العرض والممسك بجميع خيوطه والمتحكم بها بكل براعة، بحيث كان يشعر المخرج المسرحي وقتها بأنه كان مسؤولاً عن تحقيق أفضل قراءة ممكنة للنص، ويكاد يعلن على الدوام أنه في خدمة الكاتب.
يقسم بافيس هذه المرحلة الطويلة من ظهور فن الإخراج إلى ثلاثة أقسام: الأولى تبدأ من عام 1790 وحتى نحو عام 1880 عندما تشكلت شخصية المخرج للمرة الأولى، ثم تأتي المرحلة الثانية منذ عام 1880 وحتى عام 1950 التي ظهرت مع بزوغ مختلف الحركات الطليعية الأوروبية، ومن ثم المدارس والحركات الفنية المتعددة منذ نهاية خمسينيات القرن الـ20 في لحظة اقتحام البرشتية لأوروبا الغربية، بحيث جعل المخرجون من أنفسهم نقاداً لهذا التصور اللغوي الصرف للإخراج، واقترحوا منذ ذلك الحين إعادة قراءة الكتاب الكلاسيكيين، وإعادة التفكير بالنصوص. وبدأ بذلك عهد "المخرج الملك" وعهد مسرح المخرج، بينما غدا الكاتب وجميع المشاركين في العرض في خدمة المخرج.
أما المرحلة الثالثة والأخيرة التي يطلق عليها الناقد الفرنسي اسم "المرحلة المعاصرة"، فتمتد من سنوات الستينيات والسبعينيات وصولاً إلى يومنا هذا. لم يعد المخرج في هذه المرحلة مكلفاً بتنسيق المجموع بعضه مع بعض، بل باتت مهمته متمثلة في بعض الأحيان في خلط المواقع والأوراق الخاصة باللعبة المسرحية. بهذا الفهم غدت نظرية الإخراج المسرحي اليوم إشكالية بصورة كبيرة. ويعلل المؤلف ذلك بأنه يعود إلى أن هذا الابتكار الحديث (الإخراج) لا يستطيع أن يبقى حياً في شكله التاريخي الكلاسيكي، ولا في شكله الحديث المستقل، ولا بصورة أكبر في شكله الفرداني.
هكذا لم يعد للإخراج حدود من حيث هو وضع للمادة المسرحية في حال النطق والتنفيذ العملي، لا سيما مع استخدام الإخراج من الآن فصاعداً كل الوسائط الإعلامية المتوفرة، واستعانته بتقنيات الفنون كلها، وتحقيقه العرض وغرسه له ضمن فضاء عمومي قابل للتمدد. أمسى المخرج المسرحي يتأقلم مع الأزمان التي تتغير، لكن اختفاءه من العملية المسرحية غدا حتمياً، فالتبادل بين الثقافات لم يعد بحاجة إلى من يوجهه، ولا يرغب عصر ما بعد الدرامي بدور واضح للمخرج، فالعرض الأدائي هو إخراج موسع، ومعادة برمجته إعلامياً، فبات العرض الأدائي المطبوع بالانفعال يخاطب المتفرجين بطريقة شخصية ومباشرة، ويحمل انفعالات تنتقل ويعاد إنتاجها لدى المتفرجين. وأكبر دليل على ذلك أن العرض الأدائي اليوم في زمن انغماس المتفرج وتجربته التشاركية، هو بصدد أن يجعل من فن الإخراج نسياً منسياً.