Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف أنقذت "السينما الحرة" وهارولد بينتر مسرح الغضب البريطاني؟

جون أزبورن ورفاقه يواصلون ثوراتهم تحت رعاية لورانس أوليفييه وفي ظل سينما جوزيف لوزاي

مشهد من فيلم "الوسيط" من كتابة هارولد بنتر (موقع الفيلم)

ملخص

كان المسرحي البريطاني هارولد بنتر الوريث الأكثر أهمية لتيار الغضب في السينما والمسرح إلى درجة حصوله على جائزة نوبل لأعماله المسرحية الكبيرة

كلما نظرنا إلى التيار المسرحي البريطاني الأكثر قوة وفاعلية اجتماعية، والذي عرف من نهاية ستينيات القرن الـ20 باسم "مسرح الغضب"، كما عرف بظهوره من رحم كل ما يرتبط بالحياة الاجتماعية للطبقة العاملة البريطانية، وبخاصة على يد جون أوزبورن الذي ولدت تسمية التيار نفسه منطلقة من عنوان مسرحيته الأولى والكبرى "أنظر إلى الوراء بغضب"، وبالتحديد من صلب الحركة الاحتجاجية البريطانية على "العدوان الثلاثي" الذي قامت به جيوش بريطانيا وفرنسا وإسرائيل ضد مصر بخاصة في عام 1956، فإن ثمة ما يغرينا دائماً بالبحث عما أبقى على وجود ذلك التيار وأفكاره في وقت اندثرت فيه أو ذابت تيارات مسرحية وغير مسرحية أخرى تجايلت معه.

ضد الطمأنينة الكاذبة

ولئن كنا قد افتتحنا حديثنا عن هذا المسرح بمؤسسه الشرعي جون أوزبورن لا بد من المسارعة إلى القول إن مسرح أوزبورن إنما كان في أساسه نوعاً من رد الفعل ضد مسرح تيرنس راتيغن (1911 – 1977) الذي كان مهيمناً تماماً، على الحياة المسرحية الإنجليزية، ويعد مثلاً يحتذى بالنسبة إلى المسرح البورجوازي في العالم، ببورجوازية مواضيعه و"طمأنينية" أفكاره الاجتماعية، وكان المسرح السائد في لندن أواسط القرن. ومن هنا حين عرضت "أنظر إلى الوراء بغضب" فهم الناس على الفور أن ثمة الآن مسرحاً جديداً سيقوم منتفضاً في وجه "مسرح الأكاذيب الاجتماعية السائد هذا". ولن يفوتنا أن نذكر هنا أن قيام لورانس أوليفييه، بكل الثقل الذي يمثله، بدور آرشي رايس في مسرحية أوزبورن التالية "المدرب" (1957) أمن للتيار الذي سيولد في ذلك الحين مكانة معنوية عززها تأسيس أوزبورن شركة إنتاج سينمائي شراكة مع طوني ريتشاردسون وفانيسا ردغريف الفنانة الكبيرة وزوجة ريتشاردسون في ذلك الحين. وهكذا اندفع كتاب متتابعون يخوضون التجربة الكتابية، وربما التمثيلية والإخراجية محققين أعمالاً مسرحية سرعان ما ستصبح أكثر طغياناً على حراك "الشبان الغاضبين" من الأنواع الإبداعية الأخرى، هذا إذا استثنينا الغناء الجماعي الذي بعد "بروليتاريته" الأولى في ليفربول التي انطلق منها بول ماكارتني وجون لينون ورفاقهما في فريق البيتلز، وبعد مرور حاسم في ميونيخ أوصلهم إلى العالمية، انصرفوا عن "الغضب" ليصبحوا هم الغناء السائد في طول العالم وعرضه، لكن هذه حكاية أخرى بالطبع.

بنتر في صف المبدعين الكبار

أما حكايتنا هنا فنعود إليها كما إلى بعض أكبر الأسماء التي ارتبطت بها إلى جانب أوزبورن وعلى خطاه، من جون آردن إلى آرنولد ويسكر ومن إدوارد بوند ومنه خاصة إلى هارولد بنتر (1930 – 2008) الذي سيكون صاحب الحظ الأكبر من الشهرة والحضور وبالتأكيد الوريث الأكثر أهمية لذلك التيار، بل حتى أحد كبار الذين جعلوه سينمائياً ومسرحياً في الوقت نفسه، إلى درجة حصوله على جائزة نوبل لأعماله المسرحية الكبيرة، ولكن أيضاً لانخراطه الأكثر جدية وقوة في العمل الكتابي للسينما وغالباً انطلاقاً من حسه المسرحي القوي، ولكن أحياناً حتى من دون "المرور بالمسرح". فلئن كان بنتر قد وجد مثلاً في الأميركي المتمرد على هوليوود روبرت آلتمان مبدعاً سينمائياً كبيراً لا يقل عنه "غضباً" وحداثة، اهتم بتحويل بعض نصوصه المسرحية إلى أفلام تلفزيونية، فإنه وجد في الأميركي السينمائي الآخر جوزيف لوزاي، المقيم بدوره في إنجلترا لاجئاً هرباً من فاشية لجنة السيناتور ماكارثي سيئة السمعة، مبدعاً يستعين بسيناريوهات من كتابته، بعيداً حتى عن لغته المسرحية، لتحقيق أفلام تعد علامات في تاريخ الفن السينمائي. ومنها بصورة خاصة ثلاثية "الخادم" و"حادث" و"الوسيط" التي تعد من أفضل ما حقق لوزاي، وربما أفضل أفلام اجتماعية حققت ضمن إطار "السينما الإنجليزية".

يوم صار "الغاضبون" موضة

ولكن في الزمن الذي أنجز فيه لوزاي هذه الثلاثية مختتماً إياها بتحفته "الوسيط" كان الزمن قد دار دورته وغير من مسار معظم الغاضبين بعدما تحول غضبهم إلى "موضة"، ولا سيما بعد أن كانت أحداث ربيع الشبيبة في عام 1968 في فرنسا والعالم كله ذروة الغضب الشبابي التي جمد عندها الغضب في انتظار فرص أخرى، وطبعاً أمام حزن فيلسوف مدرسة فرانكفورت هربرت ماركوزه الذي كان نبي تلك الثورات دون منازع. وسيكون هو نفسه على أية حال من سيكون في مقدمة مفكري غضب الشبيبة الكبار الذين نددوا في الوقت نفسه بتحول فنون ذلك الغضب إلى موضة وتجارة، ولا سيما على يد أندي وارهول وأمثاله، وذلك في كتابه "نحو التحرر" الذي بدا أول الأمر كنعي لكل إبداعات سنوات الستين، لكنه سرعان ما أصبح إنجيلاً يرسم برامج عمل للأزمان المقبلة. لقد ذابت جماهيرية الغضب حينها بالتأكيد وتلاشت لغاته، ومع ذلك لم تختف تأثيرات تلك اللغة المسرحية من الصورة كما يمكن لنا أن نفترض، بل حدث لها كما حدث بالنسبة لكل "الثورات الثقافية" التي ازدهرت، ولا سيما خلال النصف الثاني من القرن الـ20: اندمجت في ما هو سائد لتصبح، كحال أغاني البيتلز وإنجازات آندي وارهول وتوليفات القطع الديناميكي في لغة "الموجة الجديدة" السينمائية في فرنسا، والواقعية "الشعبوية" التي طبعت "الواقعية الجديدة" الإيطالية وغيرها، لتصبح ديكورات تزين الليالي الاجتماعية الصاخبة وأحاديث سيدات المجتمع الفاتنات، وثرثرات حفلات عروض الأزياء، وجدران المكاتب الفخمة للشركات متعددة الجنسيات، وأحاديث ثرثاري برامج الحكي التلفزيونية، تماماً كحال صورة تشي غيفارا المطبوعة على قمصان ثوار الطبقات الوسطى المتحمسين لكل أنواع ضروب التمرد والتغيير "الجذري"، بين جلسة تحشيش وأخرى!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اختلاف مسرحي ما...

ومع ذلك لا بد من القول هنا دون أية مجازفة، إن حال المسرح بدت مختلفة. فالحقيقة أن معظم مسرحيات جون آردن (1930 – 2012) ومن أبرزها "رقصة الشاويش ماسغريف" (1959) و"عش كالخنازير" (19548)، و"مياه بابل" (1957)، كمسرحيات أرنولد ويسكر (1932 – 2016) ولا سيما "المطبخ" (1959) و"حساء الدجاج مع بارلي" (1958) و"بطاطا مع كل شيء" (1962)، ناهيك بأعمال تالية لأوزبورن مثل "لوثر" (1961) و"عالم بول سيكلي" (1958) و"دم آل بامبرغز" (1962)، وغيرها، كلها أعمال لم تنطفئ باختفاء التيار، بل دخلت الريبرتوار المسرحي البريطاني العريق وعروض "رويال كورت ثياتر" منذ وقت مبكر وما زالت حاضرة فيهما حتى اليوم، كما تحضر بصورة متواصلة على كبريات الخشبات في العالم الذي لم يتوقف عن ترجمة معظم تلك المسرحيات إلى لغات شتى، ومنها العربية، حيث نعرف أن معظم مسرحيات "الغضب" مزودة مقدمات وتعريفات تصيب أحياناً وتشط أحياناً أخرى، قد ترجمت في الكويت والقاهرة منذ السبعينيات في الأقل. وهو حراك نعرف طبعاً أنه قد وصل إلى ذروته مع المكانة التي ستكون لهارولد بنتر عند فوزه بجائزة نوبل الأدبية ومنذ ذلك الحين، حتى وإن كان بعض الصحافة البريطانية المحافظة قد استغل تلك المناسبة، كما سيستغل بعد ذلك بفترة يسيرة مناسبة رحيل بنتر عن عالمنا في محاولة للفكر التقليدي المحافظ، هدفها ليس فقط نسف "أسطورة" بنتر لأسباب تتعلق بمواقفه المؤيدة للفلسطينيين وهو اليهودي الأصل، وللمهاجرين وهو الآتي من أصول برتغالية لأهل مهاجرين، بل نسف تيار الغضب كله بما في ذلك إنتاجاته التي تحتل اليوم مكانتها كعلامة على القلبة الهائلة التي طاولت توجهات المجتمع البريطاني منذ زوال الإمبراطورية وانكفاء الاستعمار في العالم بصورة عامة، وذلك بالتواكب مع صيرورات الحركة العمالية والنقابية التي من المؤكد أن "مسرح الغضب" وأدب الشبان الغاضبين حتى حين انتقدها إنما فعل ذلك من داخلها، لا من موقع محافظ تقليدي. ولعل هذا كان أعظم ما فعله هذا التيار الذي بات جزءاً أساساً من لغة العصر على رغم اختفائه كمصطلح و"موضة"، أسوة باختفاء كل ما له قيمة فكرية، بل حتى أخلاقية مع إطلالة العصور الجديدة!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة