Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لبنان والحرب... نصف قرن من الأسئلة الحرجة والمؤجلة

ربما يعتقد بعضهم أن الحرب الأهلية قد انتهت في بداية التسعينيات لكن عندما نتعمق في المسألة نكتشف أن هذا غير صحيح

نافذة الحرب الأهلية اللبنانية التي تطل على الفراغ (صفحة المصور جمال الصعيدي - فيسبوك)

ملخص

 

تحل الذكرى التاسعة والأربعون للحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت العام 1975 ويبدو أن أسئلتها الحرجة التي طرحتها، لم تلق الأجوبة الشافية. ومن الواضح أن توقف المعارك العسكرية بحسب تقسيماتها السابقة، لا يعني أن الحرب في معناها الاهلي الوجودي قد انتهت.

في الذكرى الـ49 لبداية الحرب الأهلية اللبنانية نود أن ننبه اللبنانيين إلى أن ما يبنونه ليس بدولة، وأن عليهم بناء الدولة، أعني دولة المواطن، وذلك لتجنب تفاقم خراب البلد، وتجنب انحلال الدولة خطوط التماس أو ما تبقى منها بالكامل، ولمنع تجدد الحرب الأهلية التي لما ننتهي منها بعد، وإن بصور مختلفة قد تكون أقرب إلى العنف المتنقل منه إلى الحرب الأهلية الكلاسيكية التي عرفناها بين العامين 1975 و1990، والتي ذهب ضحيتها ما يزيد على 100 ألف قتيل ومئات آلاف الجرحى والمهجرين، وأدت إلى تدمير اقتصاد لبنان وتدمير مناطق واسعة مهمة فيه.

بفضل وثيقة الوفاق الوطني التي عرفت باسم اتفاق الطائف والتي توافق عليها اللبنانيون في غالبيتهم بدفع قوي من قوى إقليمية ودولية فاعلة ومؤثرة، توقفت لغة المدافع وانسحب المسلحون من الشوارع وهيمنت سوريا على لبنان، بحيث تحكمت في كل صغيرة وكبيرة، فدخلنا في مرحلة إعادة بناء القوى المسلحة وبناء الدولة، لكن في ظل وصاية سورية لا ترحم.

الميثاق الوطني ووثيقة الوفاق الوطني 

خضع لبنان للحكم التركي ما يزيد على 400 سنة، وإن نال جبل لبنان في ظل عهد القائمقاميتين وعهد المتصرفية نوعاً من الاستقلال النسبي، بني عليه لاحقاً في ظل الانتداب الفرنسي بعد هزيمة السلطنة العثمانية وتسمية عصبة الأمم فرنسا دولة منتدبة على لبنان وسوريا، في حين كانت فلسطين من حصة بريطانيا العظمى.

تقوم فكرة الانتداب على مسلمة تقول هناك دول وشعوب متقدمة، وهناك شعوب ما زالت متخلفة وغير قادرة على حكم نفسها بنفسها. لذلك تساعد الدول المتطورة المنتصرة في الحرب العالمية الأولى الشعوب المتخلفة حتى تستطيع أن تبني دولة وأن تحكم نفسها. هكذا كان بالنسبة إلى لبنان، إذ عملت فرنسا على إنشاء دولة لبنان الكبير عام 1920 بعد أن ضمت إلى جبل لبنان سهل البقاع وأقاليم واسعة في الجنوب والشمال. وعليه فقد عملت فرنسا، الدولة المنتدبة على لبنان، على تأسيس نواة الدولة اللبنانية وبناء مقومات الدولة المادية والدستورية والإدارية. لكن جراء تراجع قوة فرنسا وبريطانيا في الحرب العالمية الثانية وبروز الولايات المتحدة الأميركية على المسرح العالمي وإلى جانبها الاتحاد السوڤياتي، كان لا بد من نيل "المستعمرات" استقلالها عن فرنسا وبريطانيا واحدة تلو الأخرى. نال لبنان استقلاله عام 1943 وتم جلاء القوات الفرنسية عنه عام 1946.

يتميز لبنان بشواطئه وجباله وجماله الطبيعي اللافت. لكنه يشتهر بتنوعه الطائفي، إذ نجد فيه فسيفساء دينية مجتمعية لا نظير لها في المنطقة والعالم. فيه 18 طائفة معترفاً بها. وبقدر ما يكون التنوع الطائفي هذا مصدر غنى، يكون أيضاً سبباً رئيساً من أسباب الحرب الأهلية عندما يتنازل اللبناني طوعاً عن انتمائه الوطني ويسلم أمره إلى دولة خارجية تتلاعب بمصيره. من قدر لبنان الجغرافي أن يكون محاطاً شرقاً وشمالاً بسوريا وجنوباً بإسرائيل، إذ لعبت هاتان الدولتان وما زالتا دوراً كبيراً ورئيساً في الحرب الأهلية اللبنانية وفي ما تلاها من محاولات لإعادة بناء الدولة وترميم الصيغة اللبنانية.

نال لبنان استقلاله عام 1943 عن فرنسا بعد أن اتفقت القوى السياسية اللبنانية المؤثرة والفاعلة وقتذاك على ما عرف بالميثاق الوطني. جوهر الميثاق الوطني أن يتخلى المسيحيون عن مطلب حماية فرنسا، وأن يتخلى المسلمون في المقابل عن مطلب الوحدة مع سوريا. ويلحق بالميثاق الوطني هذا توزيع الرئاسات الثلاث في الدولة بين الطوائف الكبرى، بحيث تكون رئاسة الجمهورية من نصيب الموارنة ورئاسة المجلس النيابي من نصيب الشيعة ورئاسة الحكومة من نصيب السنة مع رجحان كفة الموارنة في النظام السياسي اللبناني لما كان يتمتع به رئيس الجمهورية من صلاحيات واسعة.

من جراء ضعف الانتماء الوطني وتصارع القوى السياسية اللبنانية التي لبست، في غالبيتها، ثوباً طائفياً، وبسبب من تدخل القوى الإقليمية والدولية بقوة في مصير لبنان، ونتيجة الوجود الفلسطيني المسلح الكثيف على أراضيه الذي شرعنته اتفاقية القاهرة عام 1969، عانى لبنان أزمات سياسية كبرى متلاحقة، أدت في النهاية إلى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. كانت شرارة الحرب الهجوم المسلح على بوسطة عين الرمانة التي كانت تقل لاجئين فلسطينيين. تطورت الحرب بسرعة وعنفت، وانقسم لبنان بين فريقين كبيرين: فريق سياسي مسيحي يرفض الوجود الفلسطيني المسلح على الأراضي اللبنانية، وفريق سياسي مسلم يؤيد المقاومة الفلسطينية من لبنان. وانضمت أحزاب اليسار إلى الفريق الثاني، فاندلعت الحرب بشراسة وكانت التحالفات بين أطراف الصراع تتبدل وتتغير باستمرار. لكن في إثر نجاح الثورة الإيرانية عام 1979 واندلاع الحرب العراقية - الإيرانية عام 1980، دخلت إيران خط الأزمة في لبنان وأرسلت بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 قوات من الحرس الثوري الإيراني إلى البقاع لتدريب المقاومة اللبنانية، الشيعية أساساً، ومدها بالمال والسلاح لمواجهة إسرائيل. ومذ ذاك صارت إيران لاعباً رئيساً في لبنان إلى أن صارت اللاعب الأول إلى جانب الولايات المتحدة الأميركية بعد انسحاب الجيش السوري في إثر اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري عام 2005 بضغط دولي كبير.

لنعد إلى وثيقة الوفاق الوطني التي أعادت توزيع الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث واعتمدت المناصفة بين المسيحيين والمسلمين في المجلس النيابي ووظائف الفئة الأولى. بموجب هذه الوثيقة انتزعت صلاحيات واسعة من رئيس الجمهورية وأعطيت مجلس الوزراء مجتمعاً. كذلك تعزز مركز رئيس مجلس الوزراء السني، وتعززت مكانة رئيس المجلس النيابي. ما يهمني هو عدم وجود مرجعية سياسية وطنية داخل النظام اللبناني الوليد يرجع إليها اللبنانيون عند خلافاتهم الدستورية والسياسية. كان ذلك، في رأيي، مقصوداً حتى تستطيع الوصاية السورية أن تتحكم بالقرار اللبناني وتكون المرجعية التي يلجأ إليها اللبنانيون. هكذا كان الأمر حتى انسحاب سوريا من لبنان عام 2005. لكن الطبيعة لا تحب الفراغ. لذلك حلت إيران من خلال الثنائي الشيعي محل سوريا. بذلك نكون قد انتقلنا من المارونية السياسية إلى الشيعية السياسية بعدما مررنا لبرهة وجيزة بما يمكن أن نسميه السنية السياسية مع رفيق الحريري.

هل انتهت الحرب الأهلية اللبنانية فعلاً؟

ربما يعتقد بعضهم أن الحرب الأهلية اللبنانية قد انتهت في بداية التسعينيات! للوهلة الأولى، يبدو هذا الكلام صحيحاً في إثر توقف المدافع عن القصف وانسحاب المسلحين ظاهرياً من الشوارع. لكن عندما نتعمق في المسألة اللبنانية نكتشف أن الحرب اللبنانية لم تنته، فاللبناني لم ينظف رأسه بعد من الحرب التي ما زالت تعشعش في زوايا عقله! من سوء المصادفات أن أمراء الحرب ما زالوا مسيطرين، وما زالوا مهيمنين في مناطق نفوذهم التي رسموها بالحديد والنار والدماء، ناهيك بأنهم ما زالوا يتصرفون بعقلية ميليشياوية لا تقيم وزناً للدولة ولا للدستور ولا للقوانين ولا حتى للمواطن. وهم مستعدون لأن يأخذوا طائفتهم رهينة عند كل منعطف يهدد مصالحهم.

وعليه، ما زالت كل جماعة لبنانية تسعى إلى الغلبة، كما لو كانت على جبهات القتال. وما تضع عليه يدها من مقدرات الدولة تحسبه بمنزلة غنائم حرب. وأمراء الحرب مستعدون، إذا اقتضت مصلحتهم ذلك، لأن ينزلوا مناصريهم مرة جديدة إلى الشارع ليمارسوا العنف كما لو كنا في الحرب الأهلية. ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أن الحرب ما زالت تدور في العقول والرؤوس، وأن فيروس العنف والفيروس الداعشي كما أسميه ما زال يعشعش في دماغ اللبناني على نحو أشد حدة من السابق. لذلك نضع أيدينا على قلوبنا عند أي استحقاق مصيري وعند أي حادثة مأسوية، كما في حادثة الطيونة منذ سنوات وحادثة مقتل المسؤول في القوات اللبنانية باسكال سليمان هذه الأيام. والمشكلة أن الشعب يمشي بطريقة عمياء وراء من ليس لديه مشكلة ألبتة بأن يعود إلى الحرب مجدداً إذا ما تهددت مصالحه الخاصة ومصالح جماعته، لذلك فإن حال الدولة يزداد تهالكاً وتفككاً وانحلالاً.

 غالبية اللبنانيين ليس لديهم ثقافة الدولة

ليس لدى اللبنانيين في غالبيتهم الساحقة ثقافة الدولة. ما لديهم هو الثقافة الأنتي-دولتية، أي الثقافة المضادة للدولة! فهم ما زالوا يحيون من دون الدولة. بعد 100 عام ونيف من ولادة لبنان الكبير ما زلنا في المربع الأول، لا بل تراجعنا القهقرى، إذ لم يستطع اللبنانيون أن يبنوا هوية وطنية جامعة، وما برحوا جماعات وقبائل وشعوباً تتطلع إلى الخارج أكثر مما تتطلع إلى الداخل، ينتقلون من وصاية إلى أخرى. لبنان بالنسبة إلى اللبناني هو، في أحسن الأحوال، بمنزلة "لوكاندا" أو "بنسيون" مستأجر، يعيش فيه ما دام على مزاجه ويغادره أو يهجره ما إن تصبح الحياة فيه على غير ما يود ويرغب. وعليه، ليس لدى اللبناني الدافع القوي ليناضل من أجل وطنه. قلة من اللبنانيين فقط تعيش من أجل لبنان. وهم أفراد حالمون يفنون عمرهم في الحلم ولا يستطيعون التأثير في العصبيات اللبنانية المتصارعة القوية التي أنتجت وطناً مخلعاً ومفلساً ومتشظياً ومنحلاً.

قد نتفهم أن ينتفع تيار سياسي أو شخصية بارزة أو زعيم مفدى على حساب الدولة أو المصلحة العامة، لكن ما لا نتفهمه أن يؤدي هذا الانتفاع إلى تحلل الدولة. فلبنان صار بمنزلة جثة منحلة. وعلى اللبنانيين أن يختاروا: إما أن يغيروا ما بأنفسهم فتتغير أوضاعهم نحو الأفضل، وإما أن يبقوا كما هم فيزداد وضعهم سوءاً ويعيشون في أعمق أعماق الجحيم. ومن ثم، ما زال اللبنانيون يتعاطون الشأن العام بذهنية ما قبل نشوء الدولة الوطنية، أي بذهنية العشيرة والقبيلة والجماعة الدينية والعائلة السياسية والإقطاع السياسي، إذ ينحصر التمثيل السياسي بأفراد معدودين. فليست لديهم ثقافة الوطن ولا ثقافة المواطنية. إن كلمة مواطن كلفت أوروبا صراعات ونضالات مريرة وآلاف الشهداء.

ما الدولة الحديثة؟

إنها الدولة العلمانية الديمقراطية التي لم نعرفها في تاريخنا السياسي والتي لا تحارب الدين، وإن كانت تقصيه عن التدخل في ما هو مشترك بين المواطنين وتمنعه من التدخل في شؤون الدولة بما هي مساحة مشتركة لممارسة الشأن العام من أجل السير بالمواطنين نحو الأفضل. إنها الدولة الديمقراطية بما تعنيه من أسلوب من أساليب الحكم ومن تداول السلطة تداولاً سلمياً، وبما تعنيه أيضاً من قيم تحافظ على التعدد وعلى الاعتراف بالآخر وحقوقه وحرياته كاملة. هكذا لا تكون الديمقراطية في الدولة الحديثة مجرد ممارسة جوفاء خالية من القيم ومجرد آلية من معدات السلطة. فالقيم التي تصاحب معدات الانتخاب الديمقراطي أهم من المعدات نفسها.

إنها دولة القانون والمؤسسات، دولة الحريات العامة وحقوق الإنسان، دولة الحرية والمساواة والأخوة، دولة العدالة الاجتماعية، أي دولة المواطن بحيث يكون الجميع مواطنين أحراراً متساوين في الحقوق والواجبات من دون أي تمييز ديني أو طائفي أو عرقي أو مناطقي. للجميع الحقوق ذاتها وعليهم الواجبات ذاتها. إنها أخيراً دولة الكرامة الإنسانية، بحيث يعامل كل فرد في هذه الدولة معاملة إنسان ذي كرامة فيشعر عندئذ بانتمائه الكامل إلى هذه الدولة. وعليه، فشل اللبناني فشلاً ذريعاً في بناء الدولة الحديثة هذه على رغم كثرة القوى السياسية التي تدعي أنها تعمل من أجل بنائها.

هل الأحزاب اللبنانية مؤهلة لبناء الدولة الحديثة؟

الأحزاب اللبنانية من دون استثناء غير مؤهلة لبناء الدولة الحديثة، إذ إنها، بطبيعتها، أنتي-دولتية. وظروف نشأتها التي أملت تنظيمها وعقيدتها وأسلوب توجهها إلى الناس كانت ظروف حرب أهلية أو ما يشابهها. غاية هذه الأحزاب كسر إرادة الآخر والتغلب عليه. لذلك ما زالت، في ذهنيتها، عدوانية عنيفة "حربجية"، تعالج أية مشكلة تطرأ، ولو كانت مشكلة بسيطة، بأساليب الحرب وأدواتها وخطابها العنيف ومفرداتها القاتلة.

لا شك في أن هذه الأحزاب، من ناحية طريقة تنظيمها الداخلي الذي هو بعيد كل البعد من الممارسة الديمقراطية، ومن ناحية ارتباطاتها بدول خارجية تمولها وتتحكم بأدائها وتوجهاتها، ومن جهة عقيدتها التي من الصعب أن تلاقي الآخر، ما برحت بعيدة من ثقافة بناء الدولة الحديثة. فلبنان لم يشهد إلا أحزاباً طائفية أو شبه طائفية مع استثناءات قليلة كالحزب الشيوعي اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي، وإن كانا شديدي الارتباط بالخارج. وعليه، ليس في لبنان أحزاب وطنية تفضل المصلحة الوطنية والمصلحة العامة على المصالح الخاصة والفئوية ومصالح الدول التي تتحالف معها.

وفوق ذلك كله، تسود ثقافة أنتي-إصلاحية تأخذ بتلابيب المجتمع اللبناني برمته. فلا الشعب يضغط على الأحزاب لتحسين أدائها الذي غالباً ما يكون لا وطنياً لأن عقلية القبيلة والغلبة ما زالت تتحكم به، ولا الأحزاب حاولت أو استطاعت تطوير الشعب لأنها بقيت نسخة أمينة ورديئة له.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ما زال ينقص اللبناني الكثير ليكون وطنياً في ممارسته السياسية لأنه ما زال يعتقد أن مصلحته الخاصة هي المصلحة العاجلة الآنية التي تخصه مباشرة حتى لو كانت على حساب مصالح بقية المواطنين، بل حتى لو كانت على حساب مصلحة الوطن أصلاً. فاللبناني لم يرتق بعد إلى مستوى يقنعه بأن مصالحه الخاصة هي المصالح البعيدة وغير المباشرة وغير الآنية. حافظ على القانون لأن فيه مصلحتك المباشرة قبل أي مصلحة أخرى، وحافظ على نظافة شارعك قبل أن تحافظ على نظافة بيتك لأن في ذلك مصلحتك الخاصة أولاً. لذلك قد ينجح اللبناني في بناء الدولة موضعياً. لكن يبقى هذا النجاح هزيلاً وهشاً وعرضياً، إذ لا تلبث ثقافة اللادولة والولاء للخارج أن تقضي عليه وتمحو أثره.

اللبناني راغب في الفساد

لا شك في أن المعضلة اللبنانية الكبرى اليوم معضلة تربوية أساساً. ولقد أثبت الشعب اللبناني أنه يفتقد الحد الأدنى من القيم والولاء لوطنه. يفتخر اللبناني بجواز سفره الأجنبي أكثر مما يفتخر ببطاقة هويته اللبنانية. وهو جاهز لمغادرة لبنان في أية لحظة عندما يشعر بالخطر، ولو كان خطراً بسيطاً. كذلك نلاحظ أن الإنسان المعاصر، بسبب لوثة الرأسمالية المتوحشة، لا يشبع من جمع المال، بل يريد خلق الجنة على الأرض، وقد أتيح له إمكان جمع المال ولو بأساليب ملتوية. كنا بالمليونير، ومررنا بالملياردير، واليوم ننتظر التريليونير. أرقام فلكية وخرافية ما كان من الممكن أن تتجمع في أيدي أفراد من العصور الغابرة.

وعليه، فاللبناني بسبب ضعف تربيته الوطنية، وغياب القيم الأخلاقية والوطنية لديه، وبسبب غياب القانون الرادع، وتعلقه الدائم بدولة أخرى وتبعيته لها، صار فاسداً بطبيعته، وإن بدرجات متفاوتة. صار ينشأ على الفساد ويتنفس فساداً. غرق في المستنقع القذر هذا الجميع من رجل الدين والسياسي إلى القاضي مروراً بالإعلامي والمصرفي والمثقف والكاتب والفنان والتاجر والإنسان العادي، بحيث أصبح الكل يسرق الكل في لبنان. لقد أصاب اللبنانيين فيروس الفساد وتبين أن مناعتهم الوطنية ضعيفة جداً. وقد تبين بعد الانهيار المالي والاقتصادي غير المسبوق أن القطاع الخاص (المصارف على سبيل المثال) أشد فساداً من القطاع العام. ولكي "يزمط" اللبناني بفساده، عليه أن ينتمي إلى زعيم القبيلة أو الطائفة ويتقاسم معه الغنيمة. كذلك عليه أن يكون تابعاً وخادماً لدولة أجنبية تمده بمزيد من المال وتحمي له ماله المهرب. فاللبناني، كما الإنسان المعاصر، لا يشبع من جمع المال.

ماذا يحصل في لبنان؟

يجسد نظام الحكم في لبنان التخلف بعينه وما هو لا عقلي بامتياز، مع أن لبنان بصيغته المجتمعية والدينية الفريدة وثقافة أبنائه الواسعة كان، في وقت من الأوقات، نموذجاً يحتذى وكان بمنزلة منارة للشعوب العربية الأخرى التي كانت تهرب من استبداد أنظمتها إلى لبنان لأنها كانت تشعر في ربوعه بنوع من الأمان والحرية. لكن ما تميز به لبنان لم يدم طويلاً، إذ ما لبث لبنان أن انهار وأفلس وتحللت دولته. هذا الانهيار كان بمنزلة مقدمة لانهيار باقي الأوطان العربية على رغم ما عرفته من ربيع عربي، إذ نزلت الشعوب العربية في بلدان عربية عديدة إلى الشارع وأسقطت في بعضها الديكتاتور، لكنها لم تكن تدري ما تفعل في اليوم التالي لأنها فاقدة أصلاً ثقافة الدولة الحديثة ولأنها لم تكن مستنيرة بما يكفي. فسيطرت على المشهد السياسي الجماعات والأحزاب الدينية الأمتن تنظيماً مع أنها لا تعترف أصلاً بالدولة الحديثة. وعليه، فإن انهيار لبنان كان توطئة لانهيار الأوطان العربية. ولو نجحت الصيغة اللبنانية، لكانت قد انتقلت بالعدوى إلى باقي الشعوب العربية.

رأس الكلام أن اللبناني يعاني أزمة في القيم والأخلاق، ومن أزمة كبرى في الانتماء الوطني، ومن تبعية مطلقة للخارج، ومن ضعف لافت في ثقافة الدولة والمواطنة. ويعاني شرور الرأسمالية المتوحشة. تلك هي معضلة اللبناني الكبرى، أو بالأحرى معضلاته الكبرى. ومع ذلك، ما زلنا نأمل من الشعب اللبناني أن يعي مصلحته، وأن يعيد النظر في طريقة بناء دولته، وأن يسعى بقوة، وعن قناعة، إلى بناء دولة المواطن التي تتسع للجميع وتحفظ حقوق الجميع، لأن مصلحة اللبنانيين لا تتحقق إلا من طريق بناء هذه الدولة بالذات. وإلا فإن الحرب اللبنانية ستبقى مستمرة، وإن بصور متعددة ومستترة. فاللبنانيون ليس لديهم ثقافة الدولة بعد، أعني الدولة بما هي ذلك الكيان الذي يمثل المصلحة العامة بغض النظر عمن يتولى أمورها وشؤونها. وهم ما زالوا يماهون بين الدولة والقيمين عليها، فلا يميزون بين الدولة ومن يتولى شؤونها ظرفياً.

ما لم تقم الدولة، ما لم تقم دولة المواطن، ما لم ينهض لبنان نهوض دولة مستقلة، وليس في هيئة طائفة أو حزب أو جماعة، فإنه لا يمكن القول إن الحرب الأهلية اللبنانية قد انتهت. إنها إذاً مستمرة، لكن بأساليب متنوعة ومختلفة بحسب ما تقتضيه الظروف. وما نعيشه اليوم ليس سوى استراحة من استراحات المحاربين، وإن طالت، نأمل في ألا تعقبها جولات جديدة من العنف المسلح. عندئذ على الدنيا السلام، وعلى لبنان ألف تحية وألف سلام.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة