Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معرض باريسي لفرنسيس بيكون يكشف أثر الأدب في فنه

الفنان  البريطاني الذي سعى إلى إسقاط عذاباته في لوحاته

لوحة ثلاثية للفنان فرنسيس بيكون (اندبندنت عربية)

يصعق الفنان البريطاني فرنسيس بيكون (1909 ــ 1992) بعنفه المباشر المتأمل في لوحاته. العنف ولكن أيضاً تلك الآنية والحدّة اللتين تعكسان الجانب الغرائزي لفنان سعى طوال مسيرته الإبداعية المجيدة إلى إسقاط عذاباته الداخلية في فضاء لوحاته.

شكّل بيكون فضيحة متجوِّلة بمجرّد وجوده. أليس من البديهي إذاً أن تعكس تلك الأجساد المسلوخة، المقطَّعة أو المشوَّهة التي تقطن أعماله، على خلفية ملوّنة بدقّة ساديّة، مبالغات حياته، وأن تشكّل تلك الأشكال الممزَّقة مرآةً لتمزّقاته الداخلية؟ معرض "بيكون بكل آدابه" الذي انطلق حديثاً في "مركز بومبيدو" في باريس يلطّف هذه الصورة، كاشفاً كيف أن عمل هذا العملاق تغذّى منذ البداية من شغفه بكتّاب كبار. ومن دون أن يشكّك بسلطة الغرائز اللاعقلانية التي تحكّمت بهذا العمل، يبيّن أن الأدب شكّل محرّكاً رئيسياً له ولعب بالتالي دوراً مركزياً سواء في تشكُّل نظرته الخاصة إلى العالم أو في بلورة عمله التشكيلي وأسلوبه.

ولكشف هذه الحقيقة، حصر منظّمو هذا المعرض اهتمامهم بالعقدين الأخيرين من مسيرة بيكون الفنية، واختاروا من هذه المرحلة لوحات معبِّرة وزّعوها على صالات ست نصغي فيها، بالتزامن مع تأمّلنا في هذه الأعمال، إلى قراءات لنصوص مستقاة من مكتبة الفنان وتعود إلى إيشيل، نيتشه، جورج باتاي، ميشال ليريس، جوزيف كونراد وتوماس إليوت. أما لماذا هذه الأسماء تحديداً، فلأنها أوحت لبيكون إما بأعمال أو بتصوّرات أو بموضوعات، ولأنها تقاسمت معه عالماً شعرياً وشكّلت بالتالي له "عائلة روحية" عثر فيها على نفسه.

وفعلاً، عبّر كل واحد من هؤلاء الكتّاب عن شكلٍ من الإلحاد أو عن عدم ثقة بجميع القيَم (الجمال المجرّد، الغائيّة التاريخية...) قادر على إملاء الفكر أو العمل الفني على شكله ومعناه. فمن صراع نيتشه ضد "العوالم البالية" إلى "المادّية السفلى" لباتاي، ومن جمالية إليوت المتشظّية إلى حسّ إيشيل التراجيدي، ومن "رجعية" كونراد إلى "مقدَّس" ليريس، ثمة رؤية واقعية لا أخلاقية (amorale) واحدة للعالم، وتصوّر للفن وأشكاله محرَّر من مثالية غير مبنية.

جمال وبشاعة

ومن قراءته لهؤلاء الكتّاب بلغ بايكون هذه الرؤية التي تقع لديه بين تحضُّر وبربرية، جمال وبشاعة، حياة وموت، وتبنّى مسعى منهجياً شبه جراحي ــ خصوصاً في تمثيل الجسد البشري ــ سمح له بالانقضاض على كل أشكال المثالية وبتفكيك العالم "شعرياً". وبذلك، ينخرط عمله التشكيلي بعمق في الحداثة.

في معرضه الحالي، نعرف أن المكتبة التي تركها هذا الفنان خلفه كانت تعدّ أكثر من ألف كتاب. ومع أنه رفض طوال حياته أي تفسير "سردي" لعمله، إلا أنه أكّد مراراً أن الأدب شكّل محرّكاً قوياً لمخيّلته. لكن بدلاً من سرديات لم يكن عليه سوى منحها شكلاً، أوحت له النصوص الشعرية والروائية والفلسفية التي قرأها وأُعجِب بها بـ "مناخٍ عام" أو بصورٍ كانت تنبثق داخله مثل تلك "الأرواح المنتقمة" الإغريقية (Furies) التي نراها بكثافة في لوحاته الأخيرة.

هذا ما أسرّ به بيكون إلى مواطنه الكاتب والناقد الفني دايفيد سيلفستر، موضحاً أنه كان يقرأ بشكل ثابت النصوص التي كانت تثير داخله "صوراً آنيّة"، كأعمال إيليوت وإيشيل التي أكّد أنه كان يعرفها عن ظهر قلب. صورٌ تدين في طبيعتها للعالم الشعري، للفلسفة الوجودية وللشكل الأدبي، أكثر منه للسرديات التي تنبثق منها. وإذ تشهد لوحة الفنان "دراسات ثلاثاً لوجوه في أسفل صليب" على وقع تراجيديات إيشيل على عمله منذ عام 1944، يتجلى بقوة أثر ثلاثية هذا الكاتب الإغريقي (L'Orestie) في لوحته الثلاثية المصاريع التي أنجزها عام 1981. أما من إليوت، فحفظ بيكون خصوصاً قصيدة "الأرض اليباب"، وتحديداً طريقة تشييدها المجزّأة وطريقة لصق الشاعر فيها لغات وسرديات متعددة.

ومن بين معاصريه، يشكّل ليريس الكاتب الأكثر قرباً منه. ولا عجب في ذلك، فهو الذي أقدم على ترجمة حوارات الفنان مع سيلفستر إلى الفرنسية، كما أنه الكاتب الوحيد الذي رغب الفنان في إنجاز كتاب مصوَّر معه، صدر عام 1990 بعنوان "مرآة مصارعة الثيران".

ومن عمل بيكون خلال العقدين الأخيرين من حياته، يمكننا مشاهدة في معرضه الحالي ستين لوحة تتضمن 12 عملا ثلاثي المصاريع، إضافةً إلى سلسلة بورتريهات وبورتريهات ذاتية. أعمال تتميّز بسعي صاحبها فيها إلى تبسيط أسلوبه وشحنه بحدّة كبيرة، وإلى مد لوحاته بعمقٍ جديد عبر إشباعها بألوان غير مألوفة في المراحل السابقة من عمله، تتراوح بين الأصفر والزهري والبرتقالي.

أما لماذا هذان العقدان الأخيران من حياته كإطار زمني لمعرضه الحالي، فلسببين: عام 1971 هو العام الذي تكرّست فيه شهرة بيكون إثر معرضه الاستعادي في "القصر الكبير" في باريس، وأيضاً العام الذي توفي خلاله رفيق دربه جورج داير، قبل أيامٍ قليلة على افتتاح المعرض المذكور. وفاة فتحت مرحلة جديدة وأخيرة من عمله يتسلّط عليها شعورٌ بالذنب جسّده رمزياً وأسطورياً داخل بعض لوحاته بالظهور المكثّف لتلك "الأرواح المنتقمة" الإغريقية فيها، وواقعياً بأعمال أخرى تشكّل تحية أو إحياءً لذكرى صديقه المفقود.

المزيد من ثقافة