Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عن موزارت الطفل أيضا: هذا ما كان في باريس 2

قبل التاسعة من عمره الطفل المعجزة يبهر أوروبا ويبدأ خطواته الكبرى على درب التأليف

وولفغانغ أماديوس (1756 – 1791) يعزف في أحد قصور باريس (غيتي)

ملخص

عن زيارة الطفل موزارت إلى باريس يخبرنا والده ليوبولد في رسالة له ترد في مذكراته أن ثمة "في باريس حرباً لا هوادة فيها بين الموسيقى الفرنسية والموسيقى الإيطالية"

هي جولة في ربوع الغرب الأوروبي اصطحب فيها ليوبولد موزارت الذي على رغم جهوده الفنية الخاصة لن يعرفه التاريخ إلا بكونه والد ذلك الموسيقي المعجزة الذي سيكونه في تاريخ هذا الفن أماديوس وولفغانغ موزارت الذي لن يعيش سنوات طويلة – بالكاد كان تجاوز الثلاثين من عمره حين رحل عن عالمنا فريسة للوباء -، لكنه خلف مع ذلك متناً موسيقياً لا يزال حتى اليوم مدهشاً يثير التساؤلات حول لغز الإبداع وأسرار الموهبة، ناهيك عن تلك المئات من الصفحات التي شكلتها مراسلاته مع أبيه وغير أبيه. وهو متن بلغ كمياً ونوعياً ما لم يبلغه سوى إنتاج عدد نادر جداً من المبدعين في تاريخ فنون العالم. لكنه خلف كذلك أسئلة محيرة أكثر حول واقع أن الطفل الذي بدأ العزف قبل الخامسة والتأليف الموسيقي بعد تلك السن قليلاً، لم يدرس الموسيقى تأليفاً وعزفاً في أية مدرسة أو أكاديمية. فمن أين جاء ذلك كله؟ سؤال ليس في وسعنا أن نجيب عليه إلا جزئياً وبصورة ربما تكون عملية: من خلال تلك الجولة الفنية الأولى التي اصطحبه فيها أبوه ليوبولد ودامت 3 سنوات – بل 4 سنوات إن نحن احتسبنا مرحلتها الأولى التي انتقل فيها الركب من سالزبورغ مسقط رأس العائلة، إلى فيينا عاصمة الإمبراطورية -. ولقد شملت تلك الرحلة الأولى أنحاء من ألمانيا المجاورة فبروكسل ومدناً أخرى من البلاد الواطئة التي كانتها بلجيكا وهولندا وصولاً إلى لندن ومن بعدها إلى غاية الغايات من ذلك التجوال، أي باريس، التي شغلت المكان الأسمى في مسار العائلة الموسيقية كما أشرنا في زاوية أمس من "تراث الإنسان" حيث قصر المجال عن التحدث بالتحديد عن المرحلة الباريسية من الجولة. وهو ما نفعله هنا لأهمية المحطة الباريسية الطويلة ليس في الجولة نفسها بل حتى في التكوين الموسيقي للطفل الذي كانه وولفغانغ خلالها. في تكوينه بل حتى في تحوله من عازف في ركاب أبيه يبهر الملوك وأهل البلاط حيثما عزف، إلى واحد من أبرز موسيقيي الأزمنة كافة. وهو ما نفعله في هذا القسم الثاني من حكاية تلك الرحلة.

سمعة سابقة

عندما انطلق الأب ليوبولد في تلك الجولة، مصاحباً خاصة طفله وولفغانغ أماديوس ذا السادسة من العمر وطفلته ذات الحادية عشر المسماة نيرنيل وزوجته وبعض الخاصة، كانت سمعة الطفل قد سبقته في أنحاء عدة من أوروبا الجنوبية الغربية، ما جعله منتظراً ولو بدافع الفضول، لكن العواصم والقصور راحت تكتشف أن ثمة الكثير لديه مما يستحق أكثر من الفضول بكثير. وهو من ناحيته عرف كيف ينهل من ردود الفعل على عزفه الذي بدا دائماً فريداً من نوعه حتى لدى الجمهور العريض الذي بدأ يتدفق لتلقي فنه في كل مرة خرج فيه أداء الطفل وعائلته من الحلقات الضيقة للقصور والحكام، إلى المدى الجماهيري المتسع. بيد أن ذلك الخروج الذي بدا إرهاصاً منذ مبارحة الحدود الألمانية لم يترسخ بشكل حقيقي وملموس إلا في باريس، بعد مرور في لندن كان فيه عزف الصغير وعائلته أمام الملك جورج الثالث والملكة شارلوت نوعاً من التتويج لما انطبع بالتجوال حتى ذلك الحين، ولحظة الانتقال التي مهدت للوصول المظفر إلى باريس. وهو وصول كان له عراب على أية حال هو البارون كريستيان فون غريم الألماني النمساوي الذي كان يعيش في العاصمة الفرنسية مرتبطاً بصداقات واسعة مع كبار المفكرين والمبدعين الفرنسيين والأوروبيين المتدفقين من شتى أنحاء أوروبا على باريس ينهلون من مناخات الحرية والسجالات الفكرية السائدة فيها ولا سيما من حول الموسوعيين الذين كانت علاقة فون غريم بهم وثيقة ولا سيما من خلال النجاح الكبير الذي حققه كتابه "مراسلات أدبية فلسفية ونقدية" الذي قدم فيه ما قد يمكن اعتباره أشمل نظرة من الخارج على ما يحدث في فرنسا من مجريات التجديد الفكري والفني. ومن هنا كان من حظ عائلة موزارت أن يخصها البارون منذ أن حطت في الديار الفرنسية بمقال تحدث فيه عن العائلة ولكن بخاصة عن "صغيرها المعجزة". والحقيقة أن ليوبولد لم يكن ليحلم بمدخل أفضل من ذلك المقال لتحديد الأطر العليا لوصوله وولديه بخاصة إلى تلك المدينة. ومن هنا، لم يكن من المبالغة منه أن يكتب في مذكراته أن "العائلة تدين للسيد فون غريم وحده بكونه بذل قصارى جهده من أجلها".

حرب باريسية

مهما يكن يخبرنا ليوبولد في رسالة له ترد في مذكراته نفسها أن ثمة "في باريس حرباً لا هوادة فيها بين الموسيقى الفرنسية والموسيقى الإيطالية"، وهو في الوقت الذي ينوه فيه بانهيار الذوق المحلي في الموسيقى يركز فيها على الدور الكبير "الذي يلعبه اليوم في باريس الموسيقيون الألمان المقيمون فيها وفي مقدمتهم عازف الكلافيسان جوهان إيكارد وزميله جواكيم شوبرت" وهذا الأخير ليس نفس المؤلف الموسيقي الألماني فرانز شوبرت بالطبع، بل كان أستاذ الموسيقى الذي يدرسها للأمير كونتي الذي يمتلك فرقة موسيقية من مفاخرها عازف الفيولونشيللو دوبور، والمؤلف غوسيك وغيرهما. ولسوف يكون طبيعياً أن تصبح تلك الفرقة ونجومها العالم الذي سيتعايش أفراد أسرة موزارت معه. ولا سيما منهم وولفغانغ الذي سيكون منذ اختلاطه بأولئك المعلمين الكبار، من النباهة بحيث ينهل من أساليبهم ويتقن التعامل مع مؤلفاتهم ويشتغل عليها تطويراً بحيث لن يفوته لاحقاً أن يؤكد أن "تلك كانت مدرستي الحقيقية.

والحقيقة أن الأكثر تأثيراً عليه من بينهم جميعاً، كان شوبرت الذي لا شك أن تأثر وولفغانغ الحاسم به كان في خلفية مجموعتين مبكرتين من سوناتات للكلافيسان مصطحباً بالكمان حملتا الرقمين كا في – 6، وكا في - 9، كانتا من أول ما نشر للطفل المعجزة في باريس وقد أهدى أولاهما إلى مدام فيكتوار ابنة الملك لويس الخامس عشر، والثانية إلى الكونتيسة دي تيسيه كبيرة رفيقات ولية العهد. مهما يكن من أمر لا شك أن تنبه موزارت الصغير لرفيقيه الأساسيين من كبار تلك المرحلة جعله يخلدهما في الحديث عنها لاحقاً، مؤكداً أنه لئن كان إيكارد عازف بيانو مبدعاً فإن شوبيرت مؤلف موسيقي من طراز رفيع بقدرته التي تفوق الخيال في مجالات الابتكار المتنوعة. بل إن موزارت سيحدد قائلاً: "إن شوبرت عقل موسيقي كبير تتمازج لديه بشكل خلاق المؤثرات الألمانية وتلك الفرنسية والإيطالية معاً". وكان واضحاً بحسب مؤرخي حياة موزارت في تلك المرحلة أن شوبرت هذا – وليس، كما نوهنا قبل سطور، شوبرت الموسيقي النمسوي الكبير-، صاحب التأثير الأكبر والأكثر ديمومة على موزارت ولا سيما في مجال اشتغاله هو نفسه وحتى سنواته الأخيرة على المزج الخلاق والذي بدا دائماً بديهياً بالنسبة إليه بين الينابيع الثلاثة التي حكمت مساره الموسيقي: الينابيع التي تنهل من موسيقى تلك الأمم الثلاث المتجاورة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

العودة المفاجئة

في باريس، وعلى أية حال، كان أهم ما سيطبع موزارت انتشار المناخ الموسيقي الألماني محاولاً أن يتفوق على التأثيرات الإيطالية الطاغية بتليين حدة جرمانيته. وذلك بخاصة بفضل التقارب الذي كنا أشرنا إليه في مناسبة سابقة، بينه وبين الابن الأصغر لجان سيباستين باخ، جان كريتيان. ومن المرجح أن موزارت إنما أنجز في باريس وتحت تأثير باخ هذا سيمفونيته الأولى التي كان قد بدأ كتابتها في تشيلسي اللندنية وهو دون التاسعة من عمره. ومن المعروف أنه في باريس أيضاً وفي الحقبة نفسها راح يخطط لكتابة أولى أوبراته. لكنه لم يبدأ العمل فيها أمام غيظه من مشهد جابهه ذات يوم في مكان إقامة العائلة. كان ذلك يوم الأول من أغسطس (آب) 1765 حين رأى حقائب السفر جاهزة لرحلة العودة إلى الوطن. وبذلك اختتمت العائلة رحلة السنوات الثلاث التي لا بد من القول مرة أخرى إنها كانت هي المدرسة الحقيقية للطفل الذي نقلته تلك السنوات من صف المبدعين الرائعين إلى صف الموسيقيين صانعي التاريخ وهو بالكاد تجاوز بدايات مراهقته.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة