Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جاك كيرواك ليس كما زعم النقاد صاحب الرواية الواحدة

مؤلف "على الطريق" كتب روايات كثيرة أخرى استوحاها من حياته المتقلبة وتنوعها

جاك كيرواك (1922 - 1969) (غيتي)

ملخص

تحول بعد صدور "المتشردون السماويون" في العام التالي على صدور "على الطريق" (1957) من باحث بائس عما يسد رمقه ومن مسافر بالمجان يتعلق بقطارات الشحن ليقطع المسافات، إلى راكب درجات أولى في القطارات الفخمة

أبداً لن يغفر النقاد وهواة الأدب المعاصر لمؤرخي هذا الأدب، "تطاولهم" على كاتبهم المفضل جاك كيرواك، زعيم تيار "البيتنكس" من دون منازع، عبر الحديث عنه بأنه مجرد كاتب لم يتمكن طوال حياته، القصيرة نسبياً على أي حال، من أن يكتب سوى تنويعات متفاوتة القيمة على تلك الرواية التي مكنته من أن يحقق في أميركا وخارجها تلك الشهرة الكبرى التي تجعل منه الزعيم المطلق في تيار الحداثة الأميركية منذ خمسينيات القرن الـ20 في أحسن أحواله، بل إن هؤلاء "المفترين" على كاتب الترحال المتواصل في ربوع أميركا وأوروبا أحياناً، وصلوا في نظر المدافعين عن كيرواك إلى حد القول إنه كان "ظاهرة" أكثر كثيراً مما كان روائياً حقيقياً بالمعنى الأميركي الصاخب للكلمة (على طريقة همنغواي أو فوكنر... أو حتى فيتزغيرالد).

وهم يستشهدون على ذلك بما يشير إليه باحثون كثر، غالبيتهم من الجامعيين، بأن كل ما تلا "على الطريق" لم يكن سوى محاكاة لها أكثره أنتج بتوصية من السوق لقراء فتنتهم حكاية التشرد الجماعي في ربوع أميركا، كما رواها كيرواك الذي من عيوبه في نظر اليانكي أن اسمه فرنسي الجذور وجنسيته الأصلية كندية، من كيبيك، بالتالي لا تبتعد نظرته العميقة إلى أميركا عن نظرة أجنبي فتنته تلك الأمة وحاول في أدبه أن يقدم طلب انتساب إليها.

ولعل "الدليل" الأكثر حسماً هو تلك الرواية التي كتبها كيرواك تالية لصدور "على الطريق" وتحقيق هذه النجاح الخرافي الذي حققته. ونعني هنا روايته "المتشردون السماويون"، إذ يقولون إن كيرواك إنما كتبها بطلب من ناشر "على الطريق" الذي أحاطها بدعاية كبيرة على الطريقة الأميركية تركز على أنها "من تأليف صاحب على الطريق" حيث أتت حروف هذه العبارة أضخم كثيراً من حجم حروف عنوان الرواية الجديدة نفسها!

والحال أن هذه الواقعة صحيحة وهي ساندت ما ذهب إليه النقاد من كون كيرواك لا يعدو كونه كاتباً "على الموضة" كما أوحى حال عديد من كتب هذا "الشريد السماوي" الذي تحول بعد صدور "المتشردون السماويون" في العام التالي على صدور "على الطريق" (1957) من باحث بائس عما يسد رمقه ومن مسافر بالمجان يتعلق بقطارات الشحن ليقطع المسافات، إلى راكب درجات أولى في القطارات الفخمة مفضلاً أحياناً التجوال في الطائرات ببذلات أنيقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد تبدلت أحوال كيرواك (1922 – 1969) جذرياً بين بداية شهرته وسنواته الأخيرة، لكن كتاباته ومواضيعه لم تتبدل كثيراً. ومع ذلك لم يكن دقيقاً في الواقع ما ذهب إليه مناوئوه من أنه لم يكتب بعد كل شيء سوى النص نفسه سواء أكان ذلك في رواياته أو قصصه القصيرة التي تمكنت على أي حال من أن تجد لها مكانة في مساره المهني من دون أن تبعده كثيراً عن كونه من أبرز أبناء جيل البيتنكس.

وليس صحيحاً بالتالي أن "المتشردون السمايون" لا تفترق عن "على الطريق" إلا في كونها قد كتبت بالآلة الكاتبة على أوراق متفرقة بينما نعرف أن "على الطريق" قد طبعت على نفس الآلة لكن على لفافة طويلة جداً من الورق تخصص لها اليوم عروض متحفية، إذ تعتبر من العلامات المميزة للأدب الأميركي الحديث!

اجترار أفكار أم تطويرها؟

بيد أن كل هذا في نهاية الأمر ليس دقيقاً. فلئن كان كيرواك قد عاد هنا إلى موضوعه القديم نفسه وقد بدا عليه نوع من الاجترار في وقت كان هو نفسه قد تغير و"تبرجز" بحسب أولئك المناوئين الذين أشرنا إليهم، فإنه عرف كيف يعبر عملياً عن أن الكاتب، أي كاتب على الإطلاق، لا يمكنه أن يشعر وبالتحديد لاحقاً حين ينجز عملاً من أعماله، إلا أنه لم يتمكن من أن يقول فيه بالفعل كل ما كان يريد أن يقوله. ومن هنا، لأن النص الأدبي ليس دفتر مذكرات حتى وإن استلهم فيه كاتبه حياته وتفاصيلها وحيوات ومغامرات من يحيطون به، فإن الكاتب يعود دائماً إلى جوهر حكايته وإنما مع تطوير ينبع من التغيرات التي طرأت عليه والتطورات التي حدثت لديه. ولعل في هذا يكمن جوهر فعل الكتابة نفسه.

أسماء مستعارة لشخصيات حقيقية

هذه المرة، في "المتشردون السماويون" يستعين الراوي لـ"بطولة" نصه باسم مستعار لهذا الأخير هو راي سميث، علماً أننا مرة أخرى في حضرة راو هو نفسه الكاتب إلى حد كبير. وسميث هذا، يحدث له منذ مفتتح الرواية أن يغادر لوس أنجيليس على قطار شحن في سبتمبر (أيلول) 1955 منطلقاً في جولة ترحال من الواضح وباعترافه منذ البداية أنها من دون أي هدف حقيقي على الإطلاق باستثناء ما سيخبرنا به من أن محطته الأولى ستكون عند صديقه جافي رايدر الذي يدرس اللغتين الصينية واليابانية ويمارس الرياضة النفسية المسماة "زن البوذية" في سان فرانسيسكو.

 

وما الرواية في نهاية الأمر سوى استفاضة في نقل المحادثات التي ستدور بين الصديقين حين يلتقيان، من حول موضوعين رئيسين يهمانهما: الشعر ومبادئ الديانة البوذية، وذلك من خلال إطلاع القراء على الجولات التي يقوم بها سميث ورايدر في أنحاء أميركا وتفاصيل مغامراتهما النسائية. ولعل أهم ما يخبرنا به الراوي هو أن رايدر خلال كل تلك الجولات والمحادثات كان هو المعلم الحقيقي له، أي لسميث الذي كان غالباً ما يكتفي بالإصغاء وتدوين ما يسمع.

رواية ذات مفاتيح

مرة أخرى هنا إذا يلجأ جاك كيرواك إلى حياته الشخصية مستلهماً منها ما كان يمكن أن يعتبر في أدب القرن الـ19 "رواية تعليمية" فإنه يضعنا أمام ما يسمى في القرن الـ20 رواية ذات مفاتيح. رواية حتى وإن كان كيرواك قد أعطى شخصياته فيها أسماء من ابتكاره، لن يكون عسيراً على من يقرأها أن يكتشف وراء كل اسم مستعار الشخص الحقيقي الذي استلهمه الكاتب في رسم شخصيات الرواية، وهو بالطبع نفس ما نعرفه عن رواية "على الطريق" التي من خلالها يمكننا أن نتعرف على كل ذلك الرهط من مبدعي جيل البيتنكس وحوارييهم وربما حتى على الشخصيات الثانوية، حتى تلك التي يفترض أنها مجهولة بمعنى أنها إن وجدت حقاً، ولا شك أنها وجدت بالفعل، لن يكون لها أي دور أو حياة خاصة خارج حلقات البيتنكس، لكن كيرواك يكون قد خلد وجودها على طريقته الخاصة. المهم إذاً أن المأثرة الأساسية التي حققها كيرواك هنا إنما كانت نابعة من مكانته كأديب بات واسع الشهرة إلى درجة أنه قادر الآن على إقناع قرائه الكثر بأن ما كتبه في هذا النص الجديد رواية حقيقية يمكنهم أن يقرأوها ويتعرفوا من خلالها على أميركا جديدة لم يكن لهم بها عهد من قبل. وربما أيضاً على أميركا التي حتى وإن لم تكن متماشية مع ما هو مأثور عن الحلم الأميركي المعياري الذي صنعه الآباء وصدقوه، فإنها لا تتوانى اليوم عن صنع حلمها الأميركي الخاص بها. وهو حلم أقل رومانطيقية وروحية من الحلم المعهود، بالتالي نجد الكاتب هنا يصر على فصل نفسه إلى حد كبير عن "الحلم الجديد" من دون أن يبدو عليه أنه يحن إلى القديم!

 

ومن هنا ينقل إلينا نأيه بنفسه مقترحاً أن ننأى بأنفسنا بدورنا عن الحلمين معاً، ما يفسر التعمق الذي راح قراؤه والنقاد يتبعونه في النظر إليه باعتباره آتياً من "الخارج" بنظرة خارجية ليتحدث تحديداً عن اصطدامه، بل اصطدام جيل بأكمله من عشاق أميركا، بحقيقتها المادية والقائمة على مبادئ الربح المادي وقد تحول الأميركيون في رأيه إلى جمهرة من مجانين مدينيين لا يجدون أمامهم إلا الارتماء الكلي في أحضان الامتثالية الجديدة بحيث إن رافضي تلك النزعة سيكونون بالتأكيد أبناء الأجيال التالية، أي تلك التي صنعت انتفاضات بيركلي و"وودستوك" وجابهت حرب الساسة الأميركيين في فيتنام معتبرة ووترغيت فضيحة مدوية بعد أن كانت حروب كتلك الحرب وفضائح كتلك الفضيحة، تمر في التاريخ الأميركي الحديث من دون إثارة اهتمام أحد!

المزيد من ثقافة