ملخص
يقيم النحات السنغالي الفرنسي معرضا في بيروت بعنوان "إنها لعبة أرقام" . ومن خلال الاعمال يستعيد انفجار بيروت وكوارث عالمية، مثبتاً أن ضحايا الحروب والمآسي هم اشبه بأرقام تتكرر.
يقدم الفنان السنغالي الفرنسي هادي سي باقة من أعماله النحتية في غاليري صالح بركات للفن المعاصر في بيروت. مجموعة ضخمة من منحوتات وحفريّات في الحديد يطرحها أمام الجمهور تحت عنوان "إنها لعبة أرقام". يجدُ الزائر أنّ كلّ شيء أمامه على علاقة بالأرقام وعالمها وتأثيراتها، حتّى فكرة الأشخاص بدورها تنطلق من واحد وصفر، عرضٌ أشبه ببورتريه للأرقام.
بالعودة إلى العنوان يمكن الالتفات بسهولة إلى فكرته الرئيسة، وهي تحوّل البشر، بعد كرّ السنين وفرّها وتلاحق الأحداث والحروب وكوفيد 19 والعلاقات المرتبكة مع العالم، إلى مجرّد أرقام مطروحة أمام الملأ. الإنسان أينما حلّ وحيثما وجد نجده قد صار رقماً. هذه الأسئلة هي هاجس المعرض وهامشه الذي يبدو واضحاً في ظلّ الطفرة الرقميّة المهولة. الضحايا أرقام، والأموات صاروا أرقاماً أيضاً.
الصفة الأساسية التي يبدو عليها المعرض هي الأناقة. الأناقة الظاهرة وال "ستيل" الطاغي على المشهد بكامله، فالناظر يشعر وكأنّ الفنان يقرأ دماغنا تبعاً لأشكال الأحرف والأرقام وأحجامها. منحوتات تلعب على الدماغ وتختبر ذكاءه. تتراوح بين ثنائية الصفر والواحد، بين الصواعد والنوازل. هذه الإعوجاجات كفيلة بتحويل الركام إلى تحفة نحتيّة. فما تعكسه تصوير للحالة كما تقدّم تأملاً للمخلوقات المعروضة.
تنطلق الرحلة من سفينة نوح المطروحة في واجهة الغاليري والتي بدت للوهلة الأولى وكأنّها مدينة، مدينة عامرة بحيواناتها وأرقامها. كل شيء فيها يبدأ من الرقم وتشكّلاته لدرجة تبدو كأنّها هي المعرض بذاته. تحتضن عدة منحوتات تغني وحدها بوجوهها وحركاتها وسكناتها التي خرجت من رقميّتها، وقد وهبها الفنان شيئاً من الروح بعيداً من أشكالها الصامتة.
الأرقام العربيّة والهنديّة التي لجأ إليها هادي سي لنقل تفاصيل العمل بأشكال وتحولات مختلفة، بقيت محافظةً على نفسها وعلى دورها في إيصال شيء بسيط من فكرة العمل المقدّم، ربما لأنّ أساس المنحوتات هو قوامها وتفاصيلها التي يراها المشاهد في نهاية المطاف، بمعزل عن الفكرة حتّى وإن كانت صائبة ومعبّرة ودقيقة.
هذا الجزء المخصص للبنان يفتتحه سي من خلال تمثال بعنوان "باش" أي اختصار لكلمة الرئيس بشير الجميل، قوام هذه المنحوتة هي الأرقام المكوّنة لعدد 10452 وهو الرقم الذي دمغ سيرة الجميّل وبقي خلفه بعد غيابه. الرقم مطروح بأشكال ووضعيّات مختلفة في غير منحوتة واحدة. فهو يتصدّر منحوتة أخرى تلتفُّ على نفسها في شكل امرأة بتعاريجها المنطلقة من بداية رأسها، مروراً بكتفيها وصولاً إلى نهايات الجسد المتخيّل. في هذه المنحوتة بالذات تتجاور الأنثى واعوجاجاتها مع أرقام جبران خليل جبران بحيث امتلأ جسدها بأرقام عائدة لجبران: تاريخ ولادته، وفاته، هجرته إلى أميركا، عدد طبعات كتاب "النبي"، تاريخ معرفته بمي زيادة وماري هاسكل وذكرى مرور 100 سنة على صدور كتابه الخالد "النبي". كل هذه الأشياء في قالب نحتيّ واحد بديع وفائق الأناقة.
المنحوتة التي نشاهدها بعيداً من أصلها ليست عصيّة على الفهم، وهي توحي من خلال أرقامها التي تغلّفها بشيء من السيرة التي ترافقنا من خلال الفنان. ولكن يبقى للعمل مهمة تقديم نفسه. وكما يحصل في "آليات معقّدة" وفي أعمال أخرى مطروحة على الألمنيوم نرى التفاتة إلى الإبادة الأرمنيّة من خلال رجل وامرأة اعتماداً على الرقم 106. منحوتة أخرى برقم 911 هي نظرة أخرى على طوابق حديدية تُحيل إلى حادثة التفجير في 11 سبتمبر (أيلول). الحديد في تلك الأعمال غاية في اللطافة عكس ما هو متوقع من أعمال بهذه الضخامة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تعرجات انثوية حرّة ومنبثقة من نفسها، امرأة أخرى هي الأم في لانهائيتها ولا محدوديّة عطائها. هي امراة ورجل في الوقت ذاته، صفر وواحد في آن واحد. هذه هي نظرة الفنان ببساطة إلى الأنثى والأم مجسّدة في التفافات وتعرّجات وتكوّر هو المرأة بكل تفاصيلها.
609 أيضاً هو انعكاس لبيروت في شكل امرأة، بيروت هذه المدينة لحظة الانفجار، لحظة الاستيقاظ ومعرفة من بقي في هذه المدينة ليروي. بيروت في شكل آخر هي الأم في أعمال حديدية متروكة لألوانها الطبيعية. الأم بانحناءاتها وتشابكها الداخلي الذي يتصل بالأرقام أيضاً ويبتعد عنها. الأم وشعارها "اللانهاية" منحوتة ساكنة بتجاويفها ولانهائيتها التي تستلزم وجود نساء وأرحام أقرب إلى الرحم والقلب، وهما ميزتا الأم بطبيعة الحال.
من جهة أخرى نرى بورتريه شخصياً أيضاً، يشعرنا وكأنّ هناك نصاً خلف المنحوتة يقبع في داخلها وخلفيتها. نصّ مهاجر من داخلها ينتظر منا أن نقرأه. النص أقرب إلى حوارية بين رجل وامرأة، أو مثلاً قفل ومفتاح يقولان لنا أننا لسنا غريبين عن الأرقام إذاً فلنؤنسِنها. محاولة لإعادة رسم موروثاتنا الثنائية من خلال الأرقام. أرقام محمّلة بمبادى فلسفيّة تمّت أنسنتها. الكليّة واضحة أنها تميل للأنثى وهي الأنثى المسيطرة لديه. هي التي لديها كلّ مكونات الرجل ومكوناتها أيضاً.
قوة أفكار هادي سي ساطعة في النهار والليل، في الأسود والأبيض والألمنيوم والحديد الخام المتروك لصدأه، ليس صعباً أنسنة الرقم فالأرقام موجودة فينا. نحن الواحد والصفر ليس بالشكل بل بالدلالة. وروحنا هي التي تعطي للأرقام معنى ودلالة. أما العناوين المترافقة مع المنحوتات فهي بعدٌ آخر. كل منحوتة هي دراسة تنطلق من الشّق الإنساني، باحثةً عن كلّ ما هو تفصيل بسيط أو اعتباطي.