ملخص
تشير المتخصصة الروسية إلينا سوبونينا إلى أن الأميركيين باتوا يشعرون اليوم بفقدانهم الدور الرئيس والرائد في الاقتصاد العالمي من ثم فقدانهم هيمنتهم السياسية
تبدو ظاهرة للعيان مؤشرات الحرب الاقتصادية الباردة الجديدة، وجميع الأطراف المعنية بها يطبخونها على نار هادئة بعيداً من المواجهة العسكرية المباشرة.
يأتي ذلك وسط مخاوف من تداعيات اقتصادية عالمية شديدة الوطأة في خضم التشرذم الجغرافي -الاقتصادي، وعلى خلفية التفاعلات بين القوى الرئيسة، والعوامل المؤثرة في ذلك، ومن بينها مسار الحرب الروسية -الأوكرانية التي اندلعت في فبراير (شباط) 2022، إذ استحكمت الحرب الباردة من جديد بين موسكو وواشنطن، بينما كانت حرب باردة أخرى تجرى بين الولايات المتحدة والصين.
ويمر عالم اليوم بإرهاصات الحرب الباردة الثانية في ظل استمرار الصراع الأميركي -الصيني، التي يمكن معها استعادة كل مفاهيم الحرب الباردة الأولى من "الدمار المؤكد" مع امتلاك الدولتين ترسانة نووية كبيرة، لكن لا يبدو أن كثيرين قلقون من هذا البعد من التنافس الصيني الأميركي.
وبدلاً من ذلك يتجه معظم الاهتمام والقلق إلى الدمار المالي والاقتصادي الذي يقيد القوتين العظميين حالياً، ويميز بوضوح الحرب الباردة الثانية عن الحرب الباردة الأولى.
تطورت سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين من حرب تجارية على وقع رسوم جمركية مشددة في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب، إلى إجراءات تفرض على قطاع التكنولوجيا أو على الاستثمارات في عهد جو بايدن، ومن المتوقع أن يستمر اختبار القوة أياً كان الفائز في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024.
وفي غضون ذلك، تكون دول العالم مقبلة على تصور جديد للاقتصاد العالمي تتشكل ملامحه الآن، مما يستدعي من الجميع إعادة حساباته وحشد إمكاناته ليكون طرفاً مشتبكاً مع نظام اقتصادي ومالي وتجاري جديد يصاغ بالفعل.
ويشير مصطلح الحرب الباردة إلى المواجهات غير المباشرة مع التهديدات المتلاحقة بين الاتحاد السوفياتي من الشرق، والولايات المتحدة الأميركية من الغرب والدول المتحالفة مع كل منهما، وقد استمرت بين الأربعينيات مع نهاية الحرب العالمية الثانية إلى أواخر التسعينيات من القرن الماضي مع انهيار الاتحاد السوفياتي.
وتعرف الحرب الباردة الثانية أيضاً بالحرب الباردة الجديدة بالحالة التي تجدد فيها التوتر السياسي والعسكري بين كتل السلطات المتعارضة سياسياً، التي تقودها روسيا والصين من جانب، والولايات المتحدة والحلف الأطلسي من جانب آخر، ويشبه هذا التوتر إلى حد كبير ما حدث في الحرب الباردة، التي شهدت مواجهة بين الكتل الغربية ممثلة بالولايات المتحدة والكتل الشرقية ممثلة بالاتحاد السوفياتي.
وفي المشهد نفسه، تحذيرات وأجراس إنذار قرعها صندوق النقد الدولي على لسان نائبته، في ديسمبر (كانون الأول) الماضي تطرح التساؤل الكبير، هل العالم بصدد الانزلاق إلى حرب باردة اقتصادية تعيد تشكيله من جديد أم إننا بالفعل نعيش هذه الحرب الباردة وأن العالم بالفعل يتغير وما نحن مقبلون عليه هو العالم الجديد؟
قواعد اللعبة
بدروها، أشارت نائبة مديرة صندوق النقد الدولي غيتا غوبيناث إلى أن وباء "كوفيد-19"، والحرب في أوكرانيا، والتوترات المتزايدة بين أكبر اقتصادين في العالم، الولايات المتحدة والصين، غيرت قواعد اللعبة في العلاقات الاقتصادية العالمية، إذ تدعو واشنطن إلى "دعم الأصدقاء"، والاتحاد الأوروبي إلى "التخلص من الأخطار"، والصين إلى "الاعتماد على الذات"، وفي المجمل تعيد هذه الإجراءات مخاوف الأمن القومي.
وقدر الصندوق الخسائر العالمية جراء "الحرب الباردة الثانية" بنحو 2.5 في المئة من الناتج المحلي العالمي (أي ما يعادل 2.5 تريليون دولار)، في حين لم يستبعد أن تصل النسبة إلى سبعة في المئة (سبعة تريليونات دولار) إذا لم تستطع الاقتصادات العالمية التكيف مع المتغيرات التجارية العالمية.
وبافتراض انقسام الاقتصاد العالمي إلى كتلتين بناءً على الحرب الروسية -الأوكرانية، والقضاء على التجارة بين الكتلتين، أضاف الصندوق أن الخسائر قد تكون كبيرة بشكل خاص في الاقتصادات ذات الدخل المنخفض، واقتصادات الأسواق الناشئة.
ويعيش العالم اليوم حرباً اقتصادية باردة، في وقت تزداد وتيرة الصراع بين أميركا والصين من جهة، وبين أميركا وروسيا المعاقبة من جهة، وبين أميركا والاتحاد الأوروبي من جهة ثالثة، وهو ما يمهد لميلاد نظامين اقتصادي وسياسي جديد الفترة المقبلة.
وترى المستشارة في المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية، إلينا سوبونينا، أن العالم اليوم بالفعل يعيش حرباً اقتصادية باردة بين قوى عظمى ذات نفوذ، وأن أميركا تفقد حصتها حالياً في الإنتاج الاقتصادي العالمي.
صعود صيني كبير
تنظر إلينا سوبونينا إلى بعض الأرقام من منظور تاريخي، فتقول إن حصة الصين في الاقتصاد العالمي خلال عقد الأربعينيات من القرن الـ20 كانت ضعيفة للغاية، أما في الوقت الراهن، فهي تقريباً تماثل حصة أميركا من حيث الإنتاج العالمي، مشيرةً إلى تأثير ذلك على النظام العالمي بتركيبته الحالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في حديثها لـ"اندبندنت عربية"، تقول إلينا سوبونينا، إن الأميركيين باتوا يشعرون اليوم بفقدانهم الدور الرئيس والرائد في الاقتصاد العالمي، بالتالي من الممكن أن يفقدوا أيضاً هيمنتهم السياسية، وبالفعل بدأوا يفقدوا تلك الهيمنة، مضيفة "إذاً فالمشكلات والصراعات الاقتصادية بدأت في مرافقة الصراعات السياسية، والأميركيون يدافعون اليوم عن مكانتهم السابقة لكن من دون أن ينجحوا في ذلك، وهم حالياً يلجأون إلى بعض الإجراءات غير العادلة وغير الشريفة، ويطبقون سياسة الرسوم الإضافية على الصين، وبكين مضطرة للرد بالمثل".
العقوبات الأميركية ضد الاقتصاد الروسي
وعرجت إلينا سوبونينا في حديثها إلى العقوبات الأميركية المفروضة على بلادها، وتقول "هم اتخذوا عقوبات اقتصادية ضد روسيا ليس بسبب عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا فحسب، إنما هذه العقوبات بدأت عام 2014 مع ضم روسيا شبه جزيرة القرم، وبرأيي يقف التنافس الاقتصادي وراء كل هذه العقوبات، فهم اليوم يبيعون الغاز المصخر إلى أوروبا بثلاثة أضعاف السعر الروسي، وهم يحلون محل المصدرين الروس في هذا المجال، وأيضاً الاتجاه إلى حظر تطبيق التواصل الاجتماعي الصيني تيك توك يؤكد ذلك".
صراع أميركي - أوروبي
وتمضي إلينا سوبونينا في حديثها "بل أزيد، أن هناك صراعاً حاداً بين أميركا وأوروبا على خلفية القانون الأميركي الخاص بمكافحة التضخم، وهو قانون موجه بالأساس إلى المنتجين الأوروبيين في ألمانيا وفرنسا، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون زار الولايات المتحدة وطلب منح المنتجين الفرنسيين استثناءات وتسهيلات، والشيء نفسه فعلته ألمانيا".
وتعتقد المستشارة في المعهد الروسي للدراسات الاستراتيجية، أن حدة الصراع الدائر حالياً بين القوى العالمية ستزداد وتيرته، وسيشهد العالم خلال السنوات المقبلة ميلاد نظام اقتصادي جديد تزامناً مع تغير التركيبة الاقتصادية العالمية، وسيشهد العالم أيضاً عديد الأزمات السياسية والاقتصادية والحروب، بينما يعيش اليوم فقط في بداية تلك المشكلات اليوم، متوقعة ظهور النظام السياسي العالمي الجديد بعد فترة من هذه الأزمات والمشكلات، بل والحروب المتوقعة والمفتعلة.
من جهته قال الرئيس التنفيذي لمركز "كوروم للدراسات الاستراتيجية" في لندن طارق الرفاعي، إن العالم يعيش حالياً حرباً اقتصادية باردة لم تندلع بين يوم وليلة، إذ بدأت فعلياً منذ سنوات، ولا ننسى مع دخول الرئيس الأميركي دونالد ترمب البيت الأبيض في 2016 اشتعلت أحد فصول تلك الحرب بين الولايات المتحدة والصين، وحتى قبل ذلك حين كان الصراع بين الدول الكبرى وبخاصة أميركا حين كان يتمحور حول الدولار الذي يهيمن على النظام المالي العالمي والتجارة العالمية.
وأوضح الرفاعي، أن الدول الناشئة وعلى رأسها الصين وروسيا دخلت على خط المواجهة من خلال تحالف "بريكس" كوسيلة لتقليل الاعتماد على الدولار، وليصبح هذا التحالف قوة اقتصادية عالمية قادرة على منافسة مجموعة السابعة التي تستحوذ على 60 في المئة من الثروة العالمية.
وأشار الرفاعي إلى أن الاتجاه الحالي يشير إلى تصاعد الحرب الاقتصادية الباردة، لا سيما أن الدول التي تسير عكس الدول الكبرى بدأت تشهد زيادات في حجم الاقتصاد، مما يعزز قدرتها على تغيير المسار والابتعاد على الدولار.
النزاع الأميركي - الصيني
من جانبه، أفاد رئيس قسم البحوث في "إيكويتي جروب العالمية" رائد الخضر، بأنه على رغم مرور أعوام على بدء النزاع المستمر بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، واندلاع الصراع بين روسيا وأوكرانيا فإن الحرب الاقتصادية الباردة بين أكبر دول العالم لا تزال تمثل أحد أهم التحديات أمام تعافي الاقتصاد العالمي.
وأوضح الخضر، أنه في وقت يحاول الاقتصاد العالمي تخطي تداعيات أزمة جائحة كورونا، وما صاحبتها من تسارع التضخم لمستويات غير مسبوقة، لا تزال التوترات التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم تؤثر بشكل مباشر على أداء الاقتصاد في الوقت الراهن، فالنزاع التجاري بين واشنطن وبكين يمثل العنوان الأبرز في القرن الـ21.
وأشار إلى أنه في الآونة الأخيرة، بدأت الولايات المتحدة الأميركية، بخاصة في عهد الرئيس جو بايدن، التحول من الشراكة الاستراتيجية التي سادت بعد نهاية الحرب البادرة إلى التنافس الاستراتيجي، مبيناً أن سياسات الرئيس الأميركي السابق ترمب جاءت بنتائج عكسية، فبعدما انسحبت الولايات المتحدة من عديد الاتفاقات منها اتفاق باريس للمناخ، كان هذا بمثابة الفرصة الذهبية للصين.
في عام 2020 تمكنت من عقد أكبر اتفاقية تجارية حرة بين 15 دولة، إضافة إلى توقيع بكين تعاوناً مشتركاً مع 126 دولة و29 منظمة دولية، ودعمت منظمة الصحة العالمية بـ30 مليون دولار في وقت أوقف ترمب أي دعم مقدم لها.
ولفت خضر إلى أنه على رغم أن الولايات المتحدة كانت بمثابة القائد في ثورة التكنولوجيا الأخيرة وتطور الذكاء الاصطناعي، فإن الصين نجحت في تجاوزها في هذا المجال من حيث إنتاج أكبر المواهب بما في ذلك نصف باحثي الذكاء الاصطناعي في العالم، مؤكداً أن ثورة التكنولوجيا التي قادتها واشنطن، حدثت بفضل القدرات البشرية التي كانت في بكين، وكان جزءً كبير منها يعود إلى الباحثين الصينين.
القائمة السوداء
وتدرس إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إدراج عدد من الشركات الصينية لأشباه الموصلات، والمرتبطة بشركة "هواوي" على القائمة السوداء، بعدما حققت عملاقة الاتصالات إنجازاً تكنولوجياً كبيراً في العام الماضي، بحسب ما نقلت وكالة "بلومبيرغ" عن مصادر مطلعة.
سيعد الإجراء تصعيداً آخر في الحملة التي تشنها الولايات المتحدة بهدف احتواء طموحات الصين في مجالي الذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات وعرقلتها، كما سيزيد الضغط على الشركة الصينية الوطنية العملاقة التي حققت إنجازات على رغم العقوبات القائمة، من بينها تصنيع معالج لهاتف ذكي في العام الماضي، وهو إنجاز ظن معظم مسؤولي الإدارة الأميركية أن بكين عاجزة عن تحقيقه.
هل ترسم التكنولوجيا ملامح حرب باردة جديدة؟
ويشير المتخصص في الاقتصاد الدولي د. صادق الركابي مدير المركز العالمي للدراسات التنموية في المملكة المتحدة إلى أن العالم شهد بعد جائحة كورونا متغيرات كبرى على صعيد التجارة والعلاقات الدولية، إذ حرصت معظم الدول المنتجة على الحد من تصدير مواردها وأصبح هناك حالة تشبه الاحتكار عكست النفوذ الذي تمتلكه دول على حساب دول أخرى في ما يتعلق بسلاسل التوريد.
وأسهم ذلك في التراجع الذي نشهده اليوم في معدلات التجارة الدولية وتراجع معدلات النمو والإنتاج الصناعي مع اضطرار عديد من الدول إلى زيادة الإنفاق لدعم اقتصاداتها، وهذا بدوره أسهم في ارتفاع حجم الديون العالمية وارتفاع التضخم لمستويات قياسية تسعى معظم البنوك المركزية حول العالم لتخفيضه.
في الوقت ذاته، يؤكد بدأت معظم الاقتصادات الكبرى اليوم بالعمل على هيكلة سلاسل التوريد بما ينسجم مع سياساتها وسعيها نحو تحقيق معدلات نمو تحافظ على نوع من الاستقرار والتوازن في أسواقها المحلية.
وزاد ذلك من حدة التنافس والانقسام في الاقتصاد العالمي مع ظهور تكتلات إقليمية تهتم بالتجارة والاستثمار، والأمن القومي في محاولة للتأقلم مع المتغيرات الدولية، وبما يسهم في تنويع اقتصاداتها ويخلق أسواقاً جديدة تشكل التكنولوجيا المحرك الرئيس لنموها.
الحرب الروسية - الأوكرانية
في جانب آخر يشير الركابي إلى أن الحرب الروسية- الأوكرانية أسهمت في تعميق حالة الانقسام في الاقتصاد العالمي إذ إن الحاجة لمصادر الطاقة من نفط وغاز لا يزال أمراً أساسياً لدعم الاقتصادات الصناعية، ورسخت هذه الحرب حالة الانقسام بين الشرق والغرب، إذ اصطفت الصين إلى جانب روسيا. أما الهند فتحاول أن تدعم نموها من دون أن يتأثر ذلك بالصراعات السياسية والاقتصادية القائمة.
وفي ظل الصراع والتنافس المتناميين على قمة الاقتصاد العالمي ارتفعت وتيرة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين حيث فرض الرئيس الأميركي دونالد ترمب في وقت سابق تعرفات جمركية على المنتجات الصينية تقيد دخولها إلى السوق الأميركية. ولتجنب الآثار السلبية لهذه القرارات عمدت الصين إلى إعادة هيكلة اقتصادها القائم على الصناعة، وتصدير السلع إلى اقتصاد قائم على الخدمات بشكل أساسي مع دعم كبير لشركات التكنولوجيا.
وحول صراع النفوذ العالمي قال صادق الركابي، إنه في المقابل من ذلك بدأت الولايات المتحدة التركيز بشكل أكبر على السياسة الاقتصادية المحلية مع محاربة نفوذ الشركات الصينية التكنولوجية والحد منه في السوق الأميركية.
وبدأت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن معركة جديدة مع الصين عنوانها حرب الرقائق الإلكترونية، انضم إليها الاتحاد الأوروبي، فقد اتهم الأوروبيون نظراءهم الصينيين بخرق قواعد المنافسة في التجارة الدولية من خلال تقديم الإعانات للشركات الصينية، كما ألزمت بكين الشركات الأجنبية الدخول في مشاريع مشتركة معها كشرط للدخول إلى السوق الصينية، لتتخلى عن هذا الشرط لاحقاً وفق اتفاق مع الاتحاد الأوروبي.
ودخل التوتر بين كل من الصين والولايات المتحدة ذروته خصوصاً مع تعزيز واشنطن وحلفائها لوجودهم في بحر الصين.
ويمكن أن نشبه الحالة التي يمر بها الاقتصاد العالمي اليوم بحرب باردة جديدة، قوامها هذه المرة الصراع والتنافس على سوق التكنولوجيا. أي إننا نعيش اليوم حرباً تكنولوجية باردة ستؤسس لاقتصاد عالمي جديد.
سباق التسلح
وفي الحرب الباردة يؤكد المتخصص الركابي أن الحرب الباردة بنسختها القديمة تقوم على صراع الأيديولوجيات والسباق نحو التسلح العسكري والفضائي أما الحرب الباردة الجديدة فتقوم على الذكاء الاصطناعي ومواجهة المعلومات المضللة، كما حدث في حظر الولايات المتحدة لتطبيق "تيك توك" الصيني.
كما تتميز الحرب البادرة الجديدة بتراجع التكامل الاقتصادي بين الدول والمتمثل بالعولمة مقابل صعود نجم قوى اقتصادية جديدة تجد في الثورة الصناعية الرابعة مدخلاً لتحتل مكاناً مهماً في تشكيل الاقتصاد العالمي. ولن تكون اقتصادات الدول مضطرة في هذه الحرب الباردة الجديدة إلى الاختيار بين قوتين اقتصاديتين كبيرتين هما الولايات المتحدة والصين وإنما سيكون هناك مراكز نفوذ جديدة تسحب البساط منها.
فالدول التي كانت تسيطر على الاقتصاد العالمي في ظل الحرب الباردة الأولى شكلت 90 في المئة في الخمسينيات، أما اليوم فهي تمثل نحو 60 في المئة فقط من مجمل الناتج المحلي العالمي، وأسهمت التكنولوجيا في رفع معدلات الدول ذات الدخل المتوسط في حين تراجع معدل الدول ذات الدخل المنخفض.
لذا فإن ولادة نظام اقتصادي عالمي جديد باتت أمراً حتمياً ترسم ملامحه تحالفات وتكتلات اقتصادية جديدة تقوم على أساس ما يعرف باسم الاستقلال الاستراتيجي للدول. فالمرحلة المقبلة ستشهد تعزيز الدول لاقتصاداتها المحلية مع اختيار شركاء على أساس القيمة الاقتصادية والتقنية والأمن وليس على أساس الأيديولولجيات أو الصراعات السياسية. ويتطلب هذا الأمر رصد موازنات ضخمة لدعم الابتكار والبحث والتطوير، لا تقل أهمية عن الموازنات التي خصصت سابقاً على التسليح.
تصور جديد للاقتصاد العالمي
من جانبه، أكد الشريك المؤسس لأكاديمية "ماركت تريدر" الأميركية لأسواق المال عمرو عبده، أن ملامح العالم الجديد المتعدد الأقطاب بدأت تلوح في الأفق لكنه لن يتشكل من دون حروب عسكرية سياسية دبلوماسية سيخسر فيها أحد الأطراف كثيراً، مضيفاً أن اندلاع حربي أوكرانيا وغزة أسهم في الإسراع بوتيرة مسار الحرب الباردة وإظهار تجلياتها، من ثم ربما نحن مقبلون على تصور جديد للاقتصاد العالمي تتشكل ملامحه الآن.
وأشار عبده، إلى أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تفرض هيمنتها الاقتصادية لمنافستها الأولى وهي الصين التي قفزت بقدرة اقتصادها بشكل مذهل لتزاحم واشنطن والغرب عموماً، حتى في المجالات التي كانوا يعتمدون عليها في تفوقهم النوعي وهي مجالات التكنولوجيا المتقدمة.
تفتت الاقتصاد العالمي
ويرى أستاذ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية حبيب البدوي، أن العالم يعيش بالفعل حرباً اقتصادية باردة بين القوى الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا، في صراع، يتسم بالمناورات الاستراتيجية والمنافسات الاقتصادية والتوترات الجيوسياسية، له تداعيات كبيرة على الاقتصاد العالمي، مما يستلزم دراسة دقيقة لسماته وتأثيره التحويلي على النظام الاقتصادي العالمي القائم.
أضاف البدوي لـ"اندبندنت عربية" أن هذا الشكل المعاصر من الصراع، الذي غالباً ما يطلق عليه "الحرب الاقتصادية الباردة"، يتكشف في المقام الأول من خلال القنوات الاقتصادية، مما يمهد الطريق لمنافسة استراتيجية شديدة بين القوى الكبرى، ومن الجبهات المركزية في هذه الحرب الصراع التجاري الشرس بين الولايات المتحدة والصين، إذ إن معركة التعريفات الجمركية تبعتها العقوبات المتبادلة والتدابير الانتقامية، ولم تؤد هذه الإجراءات إلى تعطيل سلاسل التوريد العالمية فحسب، بل أدت أيضاً إلى تصعيد التوترات بين أكبر الاقتصادات في العالم، معيدة ذكريات التحدي الغربي – الشرقي.
ويعتقد البدوي، أن الديناميكيات الجيوسياسية المحيطة بروسيا تؤدي إلى تفاقم الوضع المتوتر أصلاً في الشمال الأوروبي، وتنذر العقوبات الأطلسية عبر العزلة الاقتصادية بتصاعد التحدي بين روسيا وحلف الناتو، مما يؤدي إلى مواجهة مطولة ذات عواقب بعيدة المدى، لربما تفضي إلى حرب حقيقية وليست باردة، خصوصاً بعد التلميح الفرنسي بإرسال قوات لدعم الجيش الأوكراني.
وعلى صعيد جبهة الشرق الأقصى، التي قد يكون فتيل إشعالها عسكرياً هو "السيادة على تايوان"، فإن عوامل أخرى، مثل الحظر على منصات محددة مثل "تيك توك" أو الحصار المباشر في الصين، يفتح مختلف السيناريوهات الأسوأ، التي تشمل اليابان، وهي الحليف الأقرب إلى الولايات المتحدة الأميركية، بحسب ما يقول البدوي.
التداعيات على الاقتصاد العالمي
يلفت البدوي إلى أن تداعيات هذه الحرب الاقتصادية الباردة يتردد صداها عالمياً، وتلقي بظلال من عدم اليقين والتقلب على الاقتصاد العالمي المترابط، ويمكن أن تؤدي الاضطرابات في جزء واحد من العالم إلى آثار متتالية على صعيد الكرة الأرضية بمجملها، مما يلحق الضرر بالاقتصاد العالمي ككل، مشيراً إلى تحذير صندوق النقد الدولي من تداعيات اقتصادية كبيرة إذا انحدر العالم أكثر في هذه الحرب الباردة الثانية، في وقت تشير التقديرات إلى إمكانية محو تريليونات من الاقتصاد العالمي، مما سيؤدي إلى خفض كبير في الناتج المحلي الإجمالي الدولي، ولن يؤدي هذا السيناريو إلى إعاقة النمو الاقتصادي فحسب، بل سيؤدي إلى تفاقم أوجه عدم المساواة، مما يترك الملايين في العالم النامي عرضة للفقر والحرمان.
ويرى أستاذ العلاقات الدولية بالجامعة اللبنانية، أن تفتت الاقتصاد العالمي إلى كتل قوى إقليمية يشكل خطراً كبيراً على التعاون والاستقرار الدوليين، علاوة على أن تآكل المؤسسات المتعددة الأطراف، وصعود السياسات الحمائية، وانهيار القنوات الدبلوماسية يمكن أن يعوق الجهود الرامية إلى معالجة التحديات العالمية الملحة مثل تغير المناخ والأوبئة والتخفيف من حدة الفقر.
وتحدث عن تصاعد التوترات بين واشنطن وبكين، مما أدى إلى نزاعات تجارية كبيرة وتعريفات جمركية وجهود للفصل الاقتصادي، إذ يخوض كلا البلدين معركة من أجل التفوق العالمي، وتعكس إجراءات مثل فرض التعريفات الجمركية، وتقييد التجارة، وتعزيز التحالفات العسكرية هذا التنافس الشديد.
ويعتقد المتخصص في العلاقات الدولية، أن التوترات التجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا كبيرة، إذ يعتمد الاتحاد الأوروبي استراتيجياً على الصين باعتبارها أكبر شريك تجاري له، ويشكل اعتماد الاتحاد على الصين في الواردات، بخاصة المواد الخام البالغة الأهمية، والعلاقات الاقتصادية القوية تحديات في سياق الاقتصاد الأوسع وديناميكيات التجارة بين القوى الكبرى.
ويخلص الأكاديمي اللبناني إلى أن المشهد الاقتصادي العالمي الحالي يشهد تغيرات وتحديات عميقة بسبب تصاعد التوترات وديناميكيات الحرب الباردة الجديدة بين القوى الكبرى وتعمل المنافسات الشديدة والنزاعات التجارية والمنافسة الاستراتيجية على إعادة تشكيل بنية الاقتصاد العالمي، مما يؤدي إلى التفتت الاقتصادي، وإعادة التنظيم الجيوسياسي والشكوك التي تخلف عواقب بعيدة المدى.