ملخص
كتاب صوتي يتتبع إسهامات النساء في التاريخ من طريق تسليط الضوء على "الأشياء" الخاصة بهن
أحد أكثر الأشياء التاريخية المؤثرة التي صادفتها يوماً كانت في معسكر هايد بارك في سيدني. وهي علبة خشبية صغيرة ربما وضعت فيها مقتنيات فتاة إيرلندية يتيمة، لم يتخط سنها الـ14 على الأرجح، أرسلت إلى المستعمرات للهرب من الأوضاع المزرية المريعة أثناء المجاعة الكبرى التي فتكت بأكثر من مليون إيرلندي وتسببت بنزوح ما يزيد على مليون آخرين.
كانت عملية نقل المهاجرين مصدر وفرة للاستعمار، فوصول فتيات شابات يتمتعن بالقوة والخصوبة لم يوفر له عاملات منزليات فحسب بل أيضاً زوجات للمساجين السابقين الذين يوسعون آفاق المشروع الاستعماري في المناطق النائية من نيو ساوث ويلز ويزرعون أراضي السكان الأصليين سابقاً. في ذلك الوقت، بلغت نسبة الرجال للنساء ثمانية إلى واحد.
هنا، حملت هذه العلبة الصغيرة في قلبها دليلاً على حياة وعلى إنسانة ابتلع التاريخ أثرها الآن، اختارتها السلطات لشبابها ولأنها عزباء ومطيعة و"نقية الأخلاق" وغير مصابة بالجدري. وقفت في المتحف لفترة طويلة وفكرت ملياً بالحياة التي ارتبطت يوماً ما بذاك الشيء. وتساءلت عن تجربتها، وعن سفرها مسافة كانت عندها عصية على التصور على متن سفينة، وعن عجزها عن التحكم في مصيرها الشخصي، ووصولها على رغم عنها إلى مكان غريب وجديد في الطرف الآخر من العالم.
تملك الأشياء المادية، ربما أكثر من القصص المكتوبة، القدرة على ربطنا بالماضي بشكل وثيق، وهذا واقع تدركه وتقر به أنابيل هيرش في كتابها "تاريخ النساء عبر 101 شيء"، وهو نص لعوب وذكي وشامل. ويقدم الكتاب الحجة المقابلة لكتاب نيل ماغريغور الأكثر مبيعاً تاريخ العالم عبر 100 شيء، المنبثق من سلسلة بثتها إذاعة "بي بي سي" الرابعة تحت العنوان نفسه، أخذت أشياء من المتحف البريطاني واستخدمتها لتقديم رواية عن تاريخ العالم. وهنا، تقدم لنا هيرش رواية التجربة النسائية باعتبارها "موجزاً عن النساء وأشيائهن".
وهي تختار بحكمة، فتربط قصة الفنانة الإيطالية أرتيميسيا جينتيليشي التي عاشت في القرن الـ17، بزوج من لوالب رص الأصابع، وقد تتساءلون لماذا لم تختر زوجاً من فراشي الرسم، قبل أن تخبركم بالمحاكمة التي خضعت لها جينتيليشي التي استخدمت عليها لوالب رص الأصابع للتأكد من صحة اتهامها أغوستينو تاسي باغتصابها. وكان المنطق وراء ذلك يقضي بأن المرأة التي تتمكن من التمسك بروايتها حتى عند سحق إبهاميها، تقول الحقيقة.
وخلافاً للعادة بالنسبة إلى نساء ذلك العصر، فازت الفنانة بالمحاكمة لكن من المؤلم جداً التفكير في الضرر [المعاناة] الذي لحق بيدي رسامة. لا عجب في أن لوحاتها اللاحقة تحمل كماً كبيراً من الغضب، ومن بينها بالتحديد تحفتها الشهيرة، لوحة جوديث وهي تقطع رأس هولوفيرنوس: إذ يكاد الناظر يسمع صوت السكين وهي تغرزه في عنقه.
يفتتح الكتاب بفترة الماضي السحيق، ويثير فوراً تساؤلات في شأن هوية من يكتب التاريخ ومن يمكنه أن يشرح ويفسر هذه الأشياء. ويتبين أن رسومات اليدين التي تزين كهف بيك ميرل في فرنسا منذ 20 ألف عام لا تصور أيدي رجال كما اعتقد سابقاً، بل 75 في المئة منها رسومات لنساء.
وقد تكون أكثر النقاط إثارة للاهتمام تلك الردود على قبر فايكينغ من القرن الـ10 في بيركا، في السويد، حيث أثبت تحليل للحمض النووي في عام 2017 أن أحد الهياكل العظمية التي دفنت مع عديد من الأشياء، والأسلحة والمجوهرات، تعود في الواقع إلى سيدة. افترضت روايات تاريخية سابقة أن أي مدفن يحتوي على هذا العدد من الأسلحة لا بد أن يعود إلى محارب رفيع المستوى، أي ثم إلى رجل. لكن هذا الاكتشاف قلب نظرتنا وآراءنا عن مجتمع الفايكنغ رأساً على عقب.
في المقدمة، تقص علينا هيرش ما حدث معها خلال حفل عشاء حين أخذت تشرح عن مشروعها، فبدأ أحد الضيوف "وهو رجل كبير في السن، ينهق بصوت مرتفع ويتساءل 'النساء والأشياء؟ لكن النساء أشياء!". بعد ذلك همهم الجميع متذمرين منه.
إن الخوض في مشروع كهذا ينطوي لا محالة على تحليل تاريخ طويل من القمع والاستعباد الذي عاشته النساء. فاختراع المطبعة مثلاً، لم يحرر النساء فوراً، بل أدى في الواقع إلى انتشار كتب مثل مطرقة الساحرة (Malleus Maleficarum)، الذي بيعت منه 30 ألف نسخة في جميع أنحاء أوروبا فنشرت الذعر أينما كان من السحر والسحرة. وكانت نتيجة ذلك إعدام نحو 60 ألف شخص ثلثيهم من النساء. تقتبس هيرش مقولة المؤرخة ميشل بيرو التي وصفت نساء تلك الحقبة بأنهن "كبش فداء الحداثة".
أخذت عديد من الأشياء من غرفة النوم أو مستحضرات التجميل: لدينا أحمر شفاه ("حمرة القبلة")، وعطر شانيل رقم خمسة وشفرة الحلاقة جيليت ميلايدي ديكولتيه المصممة خصيصاً لإزالة شعر الإبط. وهي أشياء فيها إشارة إلى الإشكالية التي يطرحها جون بيرجر في كتابه طرق الرؤية حين يقول "الرجال يتصرفن والنساء يظهرن. الرجال ينظرن إلى النساء. والنساء يراقبن أنفسهن فيما هن محط أنظار الآخرين". ويشير بواسطة عدد كبير من هذه الأشياء [مستحضرات التجميل والعطر...) ويناقش الموقف المستحيل للمرأة التي تحاول تطوير رؤية ذاتية [كيان شخصي] في وقت تتعرض فيه للتصنيف من قبل رجال يعتبرونها شيئاً من الأشياء.
كما يرتبط عدد كبير من هذه الأشياء بأفعال جسورة ومقاومة ويبدو من المناسب أن يختتم الكتاب بشيئين من هذا النوع- قبعة زهرية اللون عليها أذنا قطة من عام 2017، تحولت إلى رمز عن المسيرات النسائية التي تبعت انتخاب دونالد ترمب، وخصلة من الشعر ترمز إلى الاحتجاجات على إرغام النساء على ارتداء الحجاب بعد مقتل جينا مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق الإيرانية. أطلقت وفاتها تظاهرات حاشدة في كل أنحاء إيران والعالم بعدها، تحت راية "نساء حياة حرية". وهي تظاهرات لا تزال مستمرة، لتحرير النساء الإيرانيات من التمييز بين الجنسين الذي فرضه عليهن النظام الإسلامي.
ولأنه كتاب ألفته باحثة أكاديمية فرنسية، ألمانية وترجم من الألمانية، لا مفر في أن يركز على التاريخ الأوروبي. ولا يضم سوى قلة من الأشياء المختارة من الجنوب العالمي أو تلك التي تمثل حياة النساء في ظل الاستعمار بحق، كان صندوق معسكر هايد بارك ليشكل إضافة لافتة للمجموعة.
لكن حتى كونه يركز على أوروبا يميزه عن مشاريع أخرى مثل مشروع نيل ماغريغور، الذي يذهب إلى أن المتحف البريطاني هو تاريخ العالم، بدلاً من أن يعتبره نسخة من نسخاته ببساطة. تختار هيرش أمثلة ممتازة من التاريخ الفرنسي، إذ تذكر فيه مدام دو بومبادور ومدام دو ستيل، إلى جانب الصالونات الأدبية التي عقدتها نساء باريس الثريات. وفي الكتاب قسم ممتع جداً عن البيديه (الشطافة)، يخبرنا قصة الماركيزة دو بري من بلاط لويس الـ15، التي كانت تجالس ضيوفها في غرفة نومها وهي جالسة على البيديه.
أطلقت نسخة مسموعة من الكتاب، أخيراً، أسندت فيها قراءة قصة شيء واحد من هذه الأشياء إلى سيدة مشهورة، بدءاً من أوليفيا كولمان وجيليان أندرسون، ووصولاً إلى هيلين ميرين وماغي سميث وكايت ونسليت، من بين أخريات ذائعات الصيت، فيما تذهب كل الأرباح لمنظمة ريفيوج الخيرية. ولا شك أن قراءة كتاب كهذا بهذه الطريقة يشكل النتيجة المثالية للمشروع نفسه، ما لم يقم مثلاً معرضاً يتيح معاينة بعض هذه الأشياء على أرض الواقع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتضح لنا عندما نقرأ هذه الأحداث باعتبارها مسيرة مستقيمة للتاريخ أن فترات التحرر النسبي التي عاشتها النساء دائماً ما تتبعها على ما يبدو ردود فعل عنيفة تقمعهن، وهذا من شأنه أن يعتبر تنبيهاً لنا في ظل هذه الفترات المضطربة. فالحريات التي غالباً ما تعد من المسلمات ليست آمنة أبداً وغالباً ما تقرر الظروف الاقتصادية درجة الحرية التي يمكن للمرأة أن تنعم بها في أي زمن من الأزمنة. وتقدم القصة بصورة عامة رواية صراع ومقاومة وبراعة حافلة بالذكاء والمعرفة. لكن رسالتها لنا هي أن الحريات هشة في كل الأوقات، ومشروطة دائماً وأبداً.
جوليا بيل محاضرة جامعية في الكتابة الإبداعية في جامعة بيركبيك
يمكن شراء كتاب أنابيل هيرش الجديد تاريخ النساء في 101 شيء في المكتبات وعبر الإنترنت أو ككتاب مسموع [صوتي عبر تطبيق أوديبل حصرياً.
© The Independent