Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تنافس القوى العظمى يصل إلى القارة القطبية الجنوبية

المساعي العلمية النشطة التي تبذلها الصين تشكل تحدياً لاستقرار القارة

أكبر جبل جليدي في العالم بالقارة القطبية الجنوبية    (رويترز)

ملخص

قد يشير وصول منافسة القوى العظمى لشواطئ القارة القطبية الجنوبية إلى خروج عن حقبة طويلة شكلت فيها القارة مكاناً للتعاون الدولي حيث تحظر معاهدة أنتاركتيكا، التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1961، استخدام القارة لأغراض عسكرية وتدعم عوضاً عن ذلك التعاون العلمي

بعد عقود من الهدوء، بدأ الوضع القائم في القارة القطبية الجنوبية يتداعى، فباتت القارة تترنح اليوم على شفا انهيارات – بالمعنى الحرفي والمجازي. فإلى جانب التحول الدائم في بيئتها الطبيعية على نحو لا رجعة فيه بسبب التغير المناخي، تشهد سياسات القارة القطبية الجنوبية تحولاً سريعاً أيضاً، إذ إن المنافسة بين القوى العظمى والطلب المتزايد على الموارد جعلاها ترتقي إلى طليعة الاهتمامات العالمية.

تسعى الصين وإيران ودول أخرى إلى تجاوز الحدود [تحدي المعايير والقيود] المفروضة على أنواع الأنشطة المسموح بها في القارة، وتفكر في المطالبة بالأراضي في المستقبل. في الخريف الماضي، أعلن شهرام إيراني، قائد بحرية الجيش الإيراني، أن طهران لديها خطط لبناء قاعدة دائمة في القارة القطبية الجنوبية، حتى أنه ذهب إلى حد الزعم بأن إيران لديها بشكل أو بآخر "حقوق ملكية" في القطب الجنوبي. ثم، في نوفمبر (تشرين الثاني)، أرسلت الصين إلى القارة القطبية الجنوبية أكبر أسطول لها على الإطلاق، وعلى متنه نحو 460 فرداً، من أجل بناء محطتها البحثية الخامسة في القارة. انتهت عملية البناء في ثلاثة أشهر وافتتحت المحطة في فبراير (شباط). بموجب "معاهدة أنتاركتيكا"، التي تنظم الأنشطة في القارة، يُعد توسع الصين جائزاً تماماً. وعلى رغم أن المحطة الجديدة تُعتبر قانونية، إلا أن ذلك لا يمنع في التشكيك بأن محطات البحوث الصينية يمكن أن تحتوي على أنشطة ذات أغراض عسكرية، مثل المراقبة. فالأقمار الاصطناعية البحثية التي قد تتتبع تغيرات الجرف الجليدي يوم الاثنين مثلاً قد تنتقل إلى رصد تحركات القوات في أستراليا في اليوم التالي.

قد يشير وصول منافسة القوى العظمى إلى شواطئ القارة القطبية الجنوبية إلى خروج عن حقبة طويلة شكلت فيها القارة مكاناً للتعاون الدولي. تحظر معاهدة أنتاركتيكا، التي دخلت حيز التنفيذ في عام 1961، استخدام القارة لأغراض عسكرية وتدعم عوضاً عن ذلك التعاون العلمي، وقد نجحت سلسلة من الاتفاقيات المكملة المبرمة لاحقاً، التي أصبحت تعرف باسم "نظام معاهدة أنتاركتيكا" ATS، في إبقاء القارة موقعاً دولياً محايداً. لكن النظام يتعرض الآن لضغوط أكبر من أي وقت مضى.

في الحقيقة، توفر القارة إمكانية الوصول إلى المحيط الأطلسي والهندي والهادئ، وهي تحتوي على رواسب هائلة من المعادن الثمينة والنفط والغاز الطبيعي داخل أراضيها وفي المياه المحيطة بها، فضلاً عن مصايد أسماك الكريل الكبيرة. علاوة على ذلك، تلعب القارة دوراً محورياً في شبكات الاتصال العالمية نظراً لصفاء ظروفها الجوية التي تسهل الاتصال المباشر مع الأقمار الاصطناعية، إذ إن الرطوبة تتجمد [تؤدي عملية التجميد هذه إلى حبس الرطوبة على شكل بلورات ثلجية وبالتالي انخفاض مستويات الرطوبة في الجو]، مما يجعل المحطات الأرضية في القطب الجنوبي ضرورية لتشغيل الأقمار الاصطناعية.

لقد ساهم الغياب الحالي للصراع المسلح في أنتاركتيكا في خلق شعور زائف بالأمان. ويبدو أن صناع السياسات في البلدان التي تدعم قارةً قطبية جنوبية محايدة وسلمية يفترضون أن التعاون هناك أمر مسلّم به. لكن الوضع القائم هناك حساس في الواقع. ومن أجل إبقاء المنافسة على الموارد تحت السيطرة، يجب على الجهات المعنية تسليط الضوء على أنشطة بكين المزعزعة للاستقرار. ولا بد من تعزيز الوعي العام والاهتمام في أنتاركتيكا، لأن هذا شرط مسبق بالغ الأهمية لدعم استمرارية النظام القائم على القواعد المنصوص عليها في معاهدة أنتاركتيكا. إضافة إلى ذلك، يتعين على الدول أن تعمل على زيادة وجودها (سواء من خلال القدرات أو التمويل) في القارة القطبية الجنوبية، لأن الوجود الفعلي هناك هو مرادف للقوة والنفوذ.

مقارنة بين القطب الجنوبي والقطب الشمالي

غالباً ما يرسم المراقبون أوجه تشابه بين القارة القطبية الجنوبية والقطب الشمالي. المنطقتان متشابهتان في الظاهر، فهما تقعان في أقصى طرفَي الأرض، وتتميزان بمناخات قطبية شديدة البرودة. إضافة إلى ذلك، هما تثيران اهتمام نفس البلدان، أي الصين وروسيا والولايات المتحدة. لكن الأهم من ذلك هو أن كلاً منهما يدار بشكل مختلف: فالمنطقة القطبية الشمالية، خلافاً للقطب الجنوبي، تفتقر إلى نظام معاهدة. وجغرافياً، يعتبر القطب الشمالي مجالاً بحرياً، في حين أن القارة القطبية الجنوبية عبارة عن كتلة أرضية قارية.

واستطراداً، لا يشكل القطب الشمالي جزءاً من المشاعات العالمية؛ إنه منطقة محاطة بأراضٍ برية تابعة لثماني دول وغير متنازع عليها إقليمياً. خلال الحربين العالميتين والحرب الباردة، كان القطب الشمالي مسرحاً رئيساً. منذ عام 1996، أصبحت إدارة القطب الشمالي أسهل بفضل "مجلس القطب الشمالي"، وهو منتدى دولي مشترك بين الحكومات يعزز التواصل والشراكات البيئية. في أعقاب الغزو الروسي الواسع النطاق لأوكرانيا في فبراير (شباط) 2022، قرر أعضاء مجلس القطب الشمالي تعليق عملهم في المجلس موقتاً لأن روسيا كانت تتولى رئاسته. وكانت النتيجة انسحاب روسيا بشكل فعلي من إدارة شؤون القطب الشمالي. ومع انتقال الرئاسة إلى النروج عام 2023، استؤنفت الأنشطة، ولكن من دون مشاركة روسيا. وفي فبراير الفائت، جرى الإعلان عن خطط لاستئناف تدريجي للاجتماعات الافتراضية الخاصة بمجموعات العمل، بعد أن دق بعض الباحثين ناقوس الخطر بشأن العواقب العالمية المترتبة على استمرار غياب بيانات المناخ القطبي الروسية. 

في المقابل، لم تضطر القارة القطبية الجنوبية إلى مواجهة نفس النكسات، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى معاهدة أنتاركتيكا. لقد صُممت هذه المعاهدة في البداية لمنع امتداد توترات الحرب الباردة إلى القطب الجنوبي من خلال تصنيف القارة كمحمية علمية. وكان النشاط العسكري واختبارات الأسلحة النووية محظورة هناك ما لم تخدم أغراضاً علمية. في الواقع، يُطلب من الأطراف في المعاهدة منح حق الوصول غير المقيد والعادل [الوصول بحرية وإنصاف] إلى محطات البحوث (والسفن) التي يمكن أن تخضع لعمليات تفتيش في أي وقت كان. والجدير بالذكر أن القواعد التي تحكم القارة القطبية الجنوبية هي قواعد راسخة، وقد نجحت في أغلب الأحيان في إبقاء القارة معزولة عن التوترات الجيوسياسية.

تترنح القارة على شفا انهيارات سياسية وبيئية

 

حاضراً، تضم معاهدة أنتاركتيكا 54 دولة عضواً، من بينها 29 طرفاً استشارياً لها حق التصويت في شؤون القارة القطبية الجنوبية. وظهرت عدة اتفاقيات تكميلية لاحقة عملت على توسيع المبادئ الأساسية المنصوص عليها في معاهدة عام 1961، على غرار حرية البحث العلمي، والبحوث والتعاون، والاستخدام السلمي للقارة. على سبيل المثال، صنف بروتوكول عام 1998 القارة القطبية الجنوبية رسمياً على أنها محمية طبيعية للسلام العالمي والعلوم، وحظر التعدين وغيره من أشكال استخراج الموارد، ما لم تكن تلك الأنشطة لأغراض علمية.

عند صياغة معاهدة أنتاركتيكا، صممها مهندسوها على نحو يضمن استمراريتها إلى أجل غير مسمى، فلم يحددوا لها تاريخ انقضاء. وفي حال رغب أي طرف في تعديلها، عليه الحصول على موافقة بالإجماع لعقد مؤتمر مراجعة. وعلى الرغم من أن أداة التغيير هذه كانت متاحة منذ عام 1991 إلا أنها لم تُستخدم قط، مما يشير إلى أن البلدان تفضل الحفاظ على الوضع الحالي في القطب الجنوبي عوضاً عن المخاطرة بمصالحها.

ومن أهم أسباب نجاح نظام معاهدة أنتاركتيكا هو تجنب مسألة السيادة، الأمر الذي يمكن الأطراف من الحفاظ على وجهات نظر مختلفة من دون صراع. وعلى رغم المطالبات الإقليمية التي قدمتها سبع دول، هي الأرجنتين وأستراليا وتشيلي وفرنسا ونيوزيلندا والنروج والمملكة المتحدة، إلا أن كل الجدالات والمناقشات حول شرعية هذه المطالبات وُضعت جانباً عند التوقيع على معاهدة أنتاركتيكا. في الحقيقة، إن لغة المعاهدة تؤسس لوضع راهن متميز ومصاغ بمهارة، الأمر الذي يسمح بتعليق موقت للنزاعات على السيادة.

شقوق وتصدعات

على رغم أن نظام معاهدة أنتاركتيكا نجح في الحفاظ على الاستقرار في المنطقة طوال عقود من الزمن، إلا أن عودة المنافسة بين القوى العظمى تؤدي إلى عدم استقرار جديد في القطب الجنوبي، إذ إن بعض الدول تحاول تقويض النظام. على سبيل المثال، بنت الصين محطتها البحثية الجديدة من دون تقديم التقييمات البيئية اللازمة إلى الأعضاء الآخرين في المعاهدة، على النحو المطلوب. في المقابل، زوّرت سفن الصيد الروسية بيانات مواقعها في المحيط الجنوبي في محاولة لإخفاء أنشطة صيد غير قانونية في المياه المحمية. هذه الأمثلة على تجاهل الالتزامات المختلفة توضح كيف تختبر الدول الحدود التي يمكن تجاوزها من دون مواجهة أي عواقب.

يؤدي غياب آليات إنفاذ قوية إلى تفاقم التحدي المتمثل في معالجة وردع الأنشطة المشكوك فيها. وعلى رغم أن بروتوكول التفتيش الدولي يهدف ظاهرياً إلى أداء هذا الدور، فإن الثغرات الموجودة في صياغة المعاهدة تمكن الدول من التهرب من عمليات التفتيش عند الضرورة. على سبيل المثال، أفادت التقارير بأن روسيا تجعل مدارج المحطات غير قابلة للوصول وتعطل أجهزة الراديو في المحطات لعرقلة الأطراف التي تحاول إجراء عمليات تفتيش داخلية. وتسمح المعاهدة بإجراء عمليات التفتيش جواً أيضاً، مما يعني أن فرق التفتيش يمكنها من حيث المبدأ فحص المحطات الروسية في القطب الجنوبي من دون الدخول إليها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إن تكتيكات المنطقة الرمادية، أي الأنشطة التي تحدث بين السلام والتعاون، والصراع أو الحرب، تستغل الغموض في نظام معاهدة أنتاركتيكا نفسه. والجدير بالذكر أن هذا الغموض سهل التعاون خلال الحرب الباردة، مما مكّن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي من الحفاظ على الخلافات حول السيادة الإقليمية مع الاستمرار في توسيع وجودهما في القارة. بعد الحرب الباردة، أدى غياب المنافسة بين القوى العظمى إلى وضع مسألة القارة القطبية الجنوبية في آخر أولويات الشؤون العالمية. حينذاك شهدت الولايات المتحدة مرحلة القطب الواحد [الهيمنة بلا منازع]، في حين كانت روسيا مشغولة في عملية إعادة البناء بعد انهيار إمبراطوريتها. ولكن خلال هذه الفترة، لم تكن المنافسة بين القوى العظمى متوقفة بشكل نهائي في القارة القطبية الجنوبية، بل كانت هامدة، واليوم عادت إلى الظهور بقوة.

لكن هذه المرة، تختلف الجهات الفاعلة الرئيسة، مع تحول الصين بشكل سريع إلى لاعب مقتدر في القارة، إذ إن قدرة الصين على بناء كاسحات الجليد الخاصة بها (مع تناقل إشاعات عن وجود كاسحة جليد تعمل بالطاقة النووية من المقرر أن تظهر للمرة الأولى في غضون سنوات قليلة) تميز بكين عن الولايات المتحدة وأستراليا من حيث الإمكانيات في القطب الجنوبي، وبالتالي النفوذ. في المقابل، تمتلك الولايات المتحدة كاسحتي جليد، هما "هيلي" و"بولار ستار"، تتعرضان بالتناوب لأعطال ميكانيكية وتُستخدمان باستمرار لفترة أطول بكثير من العمر التشغيلي المتوقع لهما. أما أستراليا، صاحبة أكبر مطالبة سيادية في القارة القطبية الجنوبية، فتمتلك كاسحة جليد واحدة، وعلى رغم أنها بحالة جديدة تماماً، فهي غير قادرة حالياً على التزود بالوقود بكفاءة في مينائها الرئيسي. لذا، تجد كل من الولايات المتحدة وأستراليا نفسيهما تستأجران كاسحات جليد لدعم أنشطتهما الوطنية في القطب الجنوبي.

إن عودة المنافسة بين القوى العظمى تؤدي إلى حالة جديدة من عدم الاستقرار في القطب الجنوبي

 

وبما أن الخطوط الفاصلة بين البحث العلمي والنشاط العسكري أصبحت أقل وضوحاً، بدأت الأنشطة الموجودة في هذه المنطقة الرمادية في تقويض الوضع السلمي الذي ظل قائماً لفترة طويلة. والموارد المهمة مثل مصايد الأسماك والطاقة والمياه العذبة لا تعود إلى دولة واحدة بمفردها، لذا فإن البلدان التي تتطلع إلى تحسين استراتيجيتها الطويلة الأمد تعمل على ترسيخ موطئ قدم لها من خلال البحوث العلمية المسموح بها عبر هذه القطاعات لكي تضمن موقعاً مميزاً لها (بعد إجراء مسح شامل للموارد المتاحة في القارة) في حالة انهيار النظام.

لنأخذ مثلاً مصايد أسماك الكريل. بعض أجزاء مياه القارة القطبية الجنوبية محمي بموجب اتفاقية موجودة ضمن نظام معاهدة أنتاركتيكا تنشئ مناطق بحرية محمية. وفي السنوات الأخيرة، نشرت الصين أساطيل مما يسمى سفن الصيد العملاقة لتعزيز قدرتها على الصيد، وهي قوارب ضخمة قادرة على البقاء في البحر لعدة أسابيع. علاوة على ذلك، استخدمت نظام المعاهدة لاستغلال مصايد أسماك الكريل تحت ستار البحث العلمي. وترى الصين مصلحة استراتيجية في احتكار سوق مصايد الأسماك العالمية، وتتموضع في موقع يسمح لها بالتحكم في تدفق سلاسل الغذاء العالمية وتأمين مثل هذه الموارد الحيوية لسكانها. من المؤكد أن المياه الغنية بالموارد في المحيط الجنوبي الذي يحيط بقارة أنتاركتيكا جاهزة للاستغلال، وقد كثفت بكين استراتيجيتها الخاصة بمصايد الأسماك في المياه البعيدة، مما أدى إلى توسيع وجودها في المنطقة.

في اجتماع عُقد عام 2021، استخدمت الصين وروسيا حق النقض لمنع إنشاء مناطق بحرية محمية جديدة في المحيط الجنوبي، وحثت بكين على إجراء "مزيد من البحث العلمي" لتحديد الحاجة إلى مثل هذه المناطق. قد يفسر البعض هذه الخطوة التي اتخذتها الصين على أنها محاولة لإحباط التقدم في مجال حماية المناطق البحرية، لكنها على الأرجح مناورة استراتيجية: بكين ترغب في معرفة مدى وفرة الأسماك في هذه المناطق، ومواصلة الصيد بحجة إجراء البحوث.

 العلم أم الأمن؟

من الأسباب التي تجعل القارة القطبية الجنوبية عرضةً للمنافسة الاستراتيجية هو أن الدول أنشأت مرافق علمية هناك يمكن تحويلها بسهولة إلى منشآت عسكرية. إن المركز العلمي الاستراتيجي الأميركي الذي يحمل اسم محطة "أمندسن-سكوت للقطب الجنوبي"، يغطي منطقة تتداخل فيها أراضٍ تشكل جزءاً من المطالبات الإقليمية المجمدة لسبع دول. وتستضيف القاعدة ما يصل إلى 150 عنصراً أميركياً لإجراء بحوث علمية ودعمها. وفي الصيف، بعيداً نحو الجنوب، يعمل ما يصل إلى 1500 فرد أميركي في محطة ماكموردو، في حين تستوعب المحطة الأميركية الثالثة التي تحمل اسم "بالمر"، نحو 40 فرداً أميركياً. وتشير هذه المحطات مجتمعةً إلى وجود أميركي قوي في القارة. فضلاً عن ذلك فإن الصين تتمتع بسجل حافل من التشابك بين البحث العلمي والمساعي العسكرية، وهي الاستراتيجية التي تم تدوينها الآن في القانون تحت مسمى "الاندماج المدني العسكري" من قِبَل الحكومة الصينية. يتطلب هذا التفويض من جميع المبادرات البحثية المدنية إظهار التطبيقات العسكرية المحتملة أو المنفعة للصين، بما في ذلك أنشطتها في القارة القطبية الجنوبية.

على رغم أن معاهدة أنتاركتيكا تحظر التسلح أو الانتشار العسكري جنوب خط عرض 60 درجة، الذي يغطي القارة بأكملها، إلا أن هناك استثناءات تسمح بوجود للأفراد والمعدات العسكرية إذا كان ذلك يخدم أهداف البحث العلمي. في الواقع، تعتمد دول متعددة على جيوشها للعمل في القارة القطبية الجنوبية. وتستخدم الأرجنتين وأستراليا ونيوزيلندا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة موارد عسكرية وأفراداً في بعثات بحثية في القارة. بطريقة موازية، يقدم الجيشان الصيني والروسي الدعم اللوجستي لبعض البعثات الوطنية في القطب الجنوبي.

وتتوافق هذه الممارسات تماماً مع اللوائح المنصوص عليها في نظام معاهدة أنتاركتيكا، بيد أن غموضها يخلق تداعيات أمنية واضحة. فمن الصعب تحديد ما إذا كان الأفراد ينفذون عمليات مدنية أو عسكرية. في الواقع، يقوم النظام على الثقة، مما يوفر فرصة سانحة لارتكاب انتهاكات. والأقمار الاصطناعية مثال واضح على ذلك. يعتمد تشغيل أنظمة مثل "جي بي أس" GPS في الولايات المتحدة، و"بيدو" BeiDou في الصين، "وغاليليو" Galileo في الاتحاد الأوروبي، و"غلوناس" GLONASS في روسيا، على أجهزة الاستقبال الأرضية في القطب الجنوبي. وعلى رغم أن هذه الأنظمة تعتبر أساسية للبحث العلمي في القارة القطبية الجنوبية، إلا أن لها استخدامات أمنية عسكرية واضحة أيضاً.

وقد سعت الصين إلى استخدام لوائح نظام معاهدة أنتاركتيكا لتعزيز مصالحها الخاصة. لنأخذ مثلاً نهجها المتعلق بالقبة أرغوس DomeArgus، أعلى نقطة في القارة القطبية الجنوبية. توفر هذه القبة الجليدية أوضح (وأقصر) مسار نحو الفضاء، مما يجعلها المكان المثالي لاستقبال نشاط الأقمار الاصطناعية. وتتمتع الصين بالحرية في إجراء بحوث على القبة من خلال محطتها الخاصة في المنطقة، لكنها ذهبت إلى أبعد من ذلك في عام 2019، إذ حاولت تأكيد سيطرتها بحكم الأمر الواقع على القبة. واقترحت إنشاء منطقة في القارة القطبية الجنوبية خاضعة لإدارة خاصة، وهي منطقة منصوص عليها في نظام المعاهدة، حيث يمكن لدولة ما تأمين أو منع الوصول إلى منطقة معينة (أو فوقها). ولا يُسمح لأي دولة بإنشاء مثل هذه المنطقة إلا إذا استطاعت أن تثبت أن الأنشطة البحثية الجارية هناك تقوض أجندة البحث العلمي الخاصة بها. وزعمت بكين أن هذه هي الحال [في منطقة قبة أرغوس]، بيد أن طلبها قوبل بالرفض نظراً لأن الصين كانت الدولة الوحيدة التي تجري أنشطة بحثية في المنطقة في ذلك الوقت.

صراعات خاملة

إن جوهر التحدي في القارة القطبية الجنوبية يكمن في التنفيذ: ما هي التدابير التي تمنع البلدان من القيام بأنشطة سرية؟ على رغم إحباط خطط الصين المخادعة في ما يخص قبة أرغوس، فمن المرجح أن تثار هذه القضية مرة أخرى. تقع قبة أرغوس في المنطقة التي تطالب بها أستراليا. ونظراً لأن هذه الأخيرة لها مصالح كبيرة في المنطقة، يجب عليها الاستثمار في قدراتها الداخلية من أجل تحسين إمكانية وصولها إلى المنطقة المعزولة، بما في ذلك عن طريق التزلج واستعمال الجرارات والمروحيات. الوجود هو مفتاح القوة والنفوذ في الأراضي الجرداء المقفرة التي تعرف بالقارة القطبية الجنوبية.

سوف يكون من المستحيل عملياً التوصل إلى إجماع بين الأعضاء التسعة والعشرين، وهو الشرط المطلوب لعقد مؤتمر مراجعة لمعاهدة أنتاركتيكا. من الناحية النظرية، يمكن استخدام آلية مؤتمر المراجعة، المتاحة للأطراف منذ عام 1991 وغير المستخدمة على الإطلاق، لبناء آليات الإنفاذ، مثل الغرامات والحظر. ولكن في المستقبل المنظور، من الصعب أن نتصور توصل الولايات المتحدة وحلفائها إلى إجماع مع الصين وروسيا للاتفاق على مناقشات حول تعديل المعاهدة.

ومع ذلك، هناك سياسات يمكن للغرب أن ينفذها بمفرده في سبيل كبح الأنشطة الهدامة. والنقطة الجيدة للبدء هي محاسبة الصين من خلال تسليط الضوء على أنشطتها في القارة القطبية الجنوبية. بطريقة موازية، يجب على الدول التدقيق في قطاعاتها البحثية القطبية للتأكد مما إذا كانت تمول أو تدعم الجهود البحثية التي تقودها الصين. وفقاً لقانون الاندماج العسكري المدني، ترى الحكومة الصينية أنه من الممكن استخدام أي نشاط بحثي لأغراض عسكرية استراتيجية. إذاً، ما هو حجم المساعدات المالية التي تقدمها الدول الغربية لدعم مشاريع بكين في القطب الجنوبي بسذاجة [عن غير قصد]؟ من المفترض تكثيف عمليات التفتيش الدولية. في الواقع، إن عمليات التفتيش بموجب إطار المعاهدة غير كافية، ويرجع ذلك في الغالب إلى القدرات المحدودة. ولذلك ينبغي أن توحد الدول جهودها التمويلية على نحو أكثر فعاليةً وانتظاماً لضمان مراقبة شاملة للمحطات الصينية.

في الصيف، يعمل ما يصل إلى 1500 فرد أميركي في محطة ماكموردو

 

من المفيد للولايات المتحدة ونظرائها أن يدعموا المجالات والمواقف التي يكون فيها التعاون مثمراً. وتشمل أجزاء نظام معاهدة أنتاركتيكا الفعالة تبادل البيانات العلمية بين الأطراف والتعاون في الاستجابة لحالات الطوارئ. في عام 2020، على رغم التوترات الأسترالية الصينية، أنقذ طاقم كاسحة جليد صينية في القارة القطبية الجنوبية مستكشفاً أسترالياً مريضاً. وفي الواقع، تمثل الزيادة الأخيرة في السياحة في القطب الجنوبي فرصاً لتعزيز التعاون، إذ يتعين على الدول أن تتعامل مع التأثير البيئي الهائل الذي تحدثه السياحة القطبية. ومن المتوقع أن يتجمع نحو 100 ألف سائح في القارة هذا الصيف، وهو عدد له تأثير مدمر على النظام البيئي الهش. على رغم الحرب في أوكرانيا، التقت الجهات المعنية في "الاجتماع التشاوري لمعاهدة أنتاركتيكا لعام 2023"، وتوصلوا إلى توافق في الآراء لوضع إطار ينظم السياحة في القارة.

إن الجهود المبذولة لتخريب نظام معاهدة أنتاركتيكا لن تؤدي إلى انهياره، بل إلى تقويضه وإضعافه تدريجاً. وفي مرحلة ما، يمكن أن يتضرر بشكل لا يمكن إصلاحه. ويتعين على الصين وروسيا والولايات المتحدة أن تدرك أنها تواجه تهديداً مشتركاً في القطب الجنوبي، يتمثل في الفشل المحتمل لنظام المعاهدة. في الوقت الحالي، تسهم المعاهدات القائمة في تسهيل المنافسة الاستراتيجية في القارة القطبية الجنوبية من خلال السماح للدول بتنفيذ أجندات واسعة في القارة من دون قيود حقيقية تُذكر. وقد أعدت الصين نفسها للاستفادة من الوضع الراهن، وهي على استعداد لاغتنام الفرص إذا تعثر نظام المعاهدة. إذاً، فالتخلف عن الركب ليس خياراً يمكن أن تتحمله بقية دول العالم.

إليزابيث بوكانان هي المديرة المشاركة في المشروع 6633 في معهد الحرب الحديثة في أكاديمية ويست بوينت العسكرية. وهي زميلة بارزة في معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي وخبيرة مشاركة في كلية الأمن القومي في الجامعة الوطنية الأسترالية.

مترجم عن "فورين أفيرز" 18 مارس 2024

المزيد من آراء