لعل أبرز ملامح المناظرة الثالثة بين الساعين إلى نيل ترشيح الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2020 هو استقرارها على الثلاثي جو بايدن – إليزابيث وارين – بيرني ساندرز في طليعة المتنافسين، والإبقاء على السبعة الآخرين في مستوى لاحق بعيداً من المنافسة الحقيقية، في ظل غياب عناصر مفاجئة يمكن أن تحدث انقلاباً في المعادلة القائمة.
وعلى الرغم من أنه لايزال هناك نحو ستة أشهر قبل بداية أول عملية اقتراع حقيقية في ولاية أيوا، إلا أن المناظرة التي عقدت مساء الخميس في مدينة هيوستن بولاية تكساس الأميركية، أظهرت حقيقة معاكسة للعناصر التي أحدثت تغييراً في مجلس النواب قبل أقل من عام، حيث ساعد كثير من الشباب وغير البيض في تحقيق انتصار للحزب الديمقراطي خلال الانتخابات النصفية، بينما تصدر المشهد الانتخابي على منصة المناظرة ثلاثة من البيض الذين تجاوزوا الـ70 من العمر، الأمر الذي يهدد بإفساد فكرة صراع الأجيال في المعركة الرئاسية ضد الرئيس الجمهوري دونالد ترمب، فضلاً عن إمكان خسارة عدد من أصوات غير البيض.
الرفاق يهاجمون بايدن
لم تسفر المناظرة الثالثة، التي جمعت أبرز المرشحين الديمقراطيين العشرة على منصة واحدة للمرة الأولى، سوى عن خسائر محدودة لنائب الرئيس السابق جو بايدن. فبينما لم يتبادل أي انتقادات مع السيناتور إليزابيث وارين، التي التقاها على المنصة للمرة الأولى، إلا أنه تلقى هجمات من خصوم معتدلين بشأن سياسة الهجرة التي اتبعتها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، والرعاية الصحية. لكن أبرز الانتقادات كانت تتعلق بعمره الذي بلغ 76 سنة، وجاءته من رفيق قديم هو جوليان كاسترو (44 سنة)، وزير الإسكان السابق في إدارة أوباما، الذي اتخذ طريقاً مغايراً مقارنة بالمناظرتين السابقتين، حين اتهم بايدن بأنه يكرر نفسه، قائلاً "هل نسيت ما قلته قبل دقيقتين؟". ما اعتُبِر تشكيكاً في الصحة العقلية لنائب الرئيس السابق، وهو ما جعل هذا التساؤل من أكثر التغريدات التي تناقلها الناس حول المناظرة على "تويتر".
الجديد الذي أتى به بايدن هذه المرة أنه تكلم بوضوح عن مواقفه السابقة في البيت الأبيض إلى جوار أوباما، بدلاً من أن يتملص من القرارات أو أن يشير إلى ضرورة وقفها. كما أن بايدن جاء إلى المناظرة مسلحاً بردود حاسمة في مجال الرعاية الصحية ليقارع بها منافسَيّه الرئيسيّين، وارين وساندرز، في تبنيهما نظام "رعاية صحية للجميع" باهظ التكلفة، مؤكداً التزامه نظام "أوباما كير".
لكن ارتباط بايدن بميراث أوباما شكل فرصة أمام خصومه للنيل منه، وإن لم يتمكن أي منهم من الفصل بين الرجلين. ومع ذلك، كان أداء بايدن متفاوتاً، خصوصاً حينما سُئِل عن تصريحات أطلقها قبل سنوات عن تعويضات العبودية في أميركا، وقال فيها إنه من الغباء أن يشعر بالمسؤولية وأن يدفع ثمن أخطاء وقعت قبل 300 سنة، مبتعداً في إجابته عن الموضوع.
غير أن بايدن خرج في النهاية من المناظرة مثلما دخلها، متصدراً المركز الأول من دون أن تهتز صورته كثيراً، بصرف النظر عن عدم قدرته أحياناً على بناء جملة بشكل صحيح أو التعبير عن وجهة نظره بدقة.
وارين في مأمن من الضربات
نجت السيناتور إليزابيث وارين من الضربات والحمم البركانية التي تطايرت عن يمينها ويسارها باتجاه خصوم آخرين. فخرجت من أكثر المناظرات سخونة بلا ضرر أو إصابات، فلم يهاجمها أحد ولم يستفسر أي من المتنافسين عن قدرتها على خوض السباق الانتخابي ولم يسألها أحد عن أخطاء وقعت فيها، وكان يجب عليها أن تتجنبها أو تتفاعل معها بشكل مختلف.
كانت وارين، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوسيتس، في المكان الذي أرادته. إذ تتزايد شعبيتها وترتفع أسهمها لتنافس ساندرز على المركز الثاني في السباق خلف بايدن، وفقاً لاستطلاعات الرأي التي سبقت المناظرة.
على طول الخط، كانت وارين قادرة على تحدي نفسها كمرشح يمتلك خططاً واضحة المعالم، من دون أن تضطر إلى خوض جدال حول محددات سياساتها.
وأسهم هذا المنهج في تغذية تقدمها الثابت في السباق الانتخابي، بينما يترقب الجميع المناظرة المقبلة لمعرفة ما إذا كان خصومها في السباق سيحاولون وقف تقدمها.
ساندرز يستهدف بايدن
السيناتور عن ولاية فيرمونت بيرني ساندرز، الذي نافس بضراوة هيلاري كلينتون في انتخابات الحزب الديمقراطي عام 2016، استهدف بايدن من بداية المناظرة، من الرعاية الصحية والتجارة إلى حرب العراق، مهاجماً تصويت بايدن، كعضو في مجلس الشيوخ، لمصلحة الموافقة على غزو الولايات المتحدة للعراق. وقال "لم أصدق مطلقاً" حجج الرئيس جورج دبليو بوش أو نائبه ديك تشيني لتبرير الغزو.
كانت هجمات ساندرز، الذي يصف نفسه بأنه "اشتراكي ليبرالي"، متعمدة. فقد سمح ذلك له بأن يبدو مدافعاً عن الجناح اليساري في الحزب الديمقراطي، بينما حاول أن يضع بايدن في خانة المحافظ على مصالح الشركات، وبالتالي لن يكون معبراً حقيقياً عن إحداث التغيير المنشود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن العديد من المحللين يتفقون على أن معركة ساندرز وبايدن تتعلق بفئة محددة من الناخبين وهي أصحاب الدخل المنخفض والأقل تعليماً، الذين لا يلتفتون كثيراً لمجريات الحملات الانتخابية بشكل يومي، ولا أحد يعلم ما الذي يمكن أن يحدث إذا بدأ بايدن في خسارة عدد من مؤيديه. والأرجح أن هذه الأصوات، التي يمكن أن يخسرها بايدن، ستذهب إلى أصحاب المواقف المماثلة لمواقفه مثل السيناتور إيمي غلوبوشار وبيت بوتيجيج وليس إلى ساندرز، على الرغم من أن استطلاعات الرأي في ولاية أيوا تشير إلى أن ساندرز هو الخيار الثاني للناخبين بعد بايدن.
ودافع بايدن عن نفسه وأطلق سهاماً ضد زميله السبعيني (78 سنة)، مذّكراً الحاضرين بأن ساندرز اشتراكي، مؤكداً ثقته بقدرة الشركات الأميركية على إصلاح النظام الصحي.
هاريس وكاسترو
السيناتور كامالا هاريس عن ولاية كاليفورنيا، التي تراجعت حظوظها في المنافسة خلال الأيام الأخيرة، عكست هذه المرة توجهها السابق في المناظرتين السابقتين بمهاجمة بايدن طمعاً في نيل الاهتمام الإعلامي، لتصب كل تركيزها على الرئيس ترمب، قائلة إنه يدير السياسة التجارية للولايات المتحدة عبر تغريداته على "تويتر". كما حاولت الحديث عن مفارقات مضحكة سعياً منها إلى جذب الانتباه، وبخاصة أن حملتها واجهت خطر وقف التمويل عنها من بعض الجهات بعد الانتكاسة التي تعرضت لها في استطلاعات الرأي الأخيرة.
أما كاسترو، الذي بالغ في مهاجمة بايدن، أحد أكثر رموز الحزب الديمقراطي شعبية، فمن غير الواضح ما إذا كان محقاً في هجومه. لكن المؤكد أنه حاول خفض شعبية بايدن على اعتبار أنه يستطيع بنفسه، لا بايدن، تنفيذ ميراث أوباما.
بيتو أورورك محلاً للإعجاب
المرشح الوحيد الذي أصبح محلاً للإعجاب وأثار غيرة خصومه على المنصة هو السيناتور السابق عن ولاية تكساس بيتو أورورك، حيث وصف بايدن تفاعله مع هجوم إل باسو الذي راح ضحيته 22 شخصاً من مدينته بالشجاع. كما أثنت إيمي غلوبوشار على تصرف بيتو، لكنها اختلفت مع مقترحه بسحب الأسلحة الهجومية من مالكيها وبيعها إلى الحكومة الأميركية.
وعلى الرغم من الإعجاب الذي ناله أورورك، إلا أن المؤشرات الأولى التي توقعت دخوله المنافسة، تراجعت الآن بعدما تراوحت نسبة مؤيديه بين 1 إلى 2 في المئة، ما سيحرمه من تشكيل أي تهديد للآخرين.
حظوظ الديمقراطيين ضد ترمب
وفي ظل تقدم المرشحين البيض الثلاثة الذين تجاوزوا من العمر الـ70 سنة، عبّر كثير من الديمقراطيين عن شكوكهم في إمكان تحقيق فوز سهل على الرئيس ترمب، على اعتبار أن المرشحين الشباب الذين لا يحملون حقيبة سياسية متخمة بالمواقف الخلافية الكثيرة، ربما ستكون حظوظهم أفضل في الفوز بالانتخابات الرئاسية المقبلة.
ويتساءل هؤلاء عما إذا كان بايدن المشتاق إلى ذكريات الماضي في البيت الأبيض والمعرض إلى الذلل والأخطاء يستطيع أن يُقنع الحزب الديمقراطي بأنه الشخص المناسب. وهل يمكن ساندرز، صاحب الصوت الجهير القادم من بروكلين، أن يُحرك الجماهير الغفيرة لإشعال الثورة السياسية التي يتعهد بها. وهل يمكن لإليزابيث وارين محو مشاعر القلق التي تنتاب الناخبين حول صلاحيتها لخوض الانتخابات؟
لكن مستشاري الحزب الديمقراطي يعتقدون أن الناخبين يرون المرشحين الثلاثة، بايدن – وارين – ساندرز، مقاتلين أشداء. ونقاط ضعفهم معروفة للأميركيين بدءاً من ذلة لسان بايدن، مروراً بتاريخ وارين باعتبارها من نسل الأميركيين الأصليين، وانتهاء باشتراكية ساندرز وتنافسه مع وارين على العقول والقلوب، وأن كل ذلك ليس إلا سوءاً في التشخيص وأن التغيير سيأتي بالتقدم التدريجي خلال الفترات المقبلة.
أما الرئيس الجمهوري ترمب فقد تحدث إلى النواب الجمهوريين قائلاً إن الديمقراطيين يؤكدون الحاجة إلى إعادة انتخابه، محذراً من أن الولايات المتحدة سوف تذهب إلى الجحيم إذا جاء أي من هؤلاء الأشخاص، في إشارة إلى المرشحين الديمقراطيين.