Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مآسي العالم من اللجوء إلى القمع في مهرجان تسالونيك   

أفلام وثائقية متعددة الهويات تتناول هجرات الحروب والتشرد والديكتاتورية

من فيلم "لا تعود" عن مراكب الموت للدانماركي مارتن غولدوف (ملف الفيلم)

ملخص

احتفل مهرجان تسالونيك السينمائي بالذكرى الـ50 لعودة الديمقراطية إلى اليونان وقدم أفلاماً وثائقية عن الأزمات المتعددة التي يعانيها العالم، اليوم، وعلى مستويات عدة، إنسانية وبيئية وسياسية واقتصادية ودينية و"هوياتية".

على مدار 11 يوماً تسنى لجمهور مهرجان تسالونيك الـ26 للفيلم الوثائقي من 7 - 17 مارس (آذار) الجاري اكتشاف أفلام وثائقية من جميع أنحاء العالم والاستزادة من الحكايات الفردية التي تهمشها عادة وسائل الإعلام التقليدية. هذا كله في إطار حدث ثقافي بدا كأنه يستميل كل مشكلات الدنيا المستعصية، بهدف جلبها إلى المدينة الساحلية اليونانية التي، على رغم كل ما يحدث هنا وهناك من اضطرابات تبقى على حالها، عامرة بالسهر والناس والبهجة المتواصلة. الصالات السبع التي حضنت العروض لم تكن دائماً مكتظة بالمشاهدين، كما هي العادة في كل عام. لم يحالفني الحظ في سماع عبارة "سولد أوت" التي تعني ان ما من مقعد شاغر داخل القاعة، وأنا أطلب تذكرة في الشباك المخصص للصحافة.

أما يوم الافتتاح والأيام الثلاثة التالية، فتزامنت مع الاحتفالات الشعبية التي تقام قبل دخول الصيام، حيث يأكل اليونانيون كثيراً من اللحوم، وهذا ما أثر سلباً في الحضور داخل الصالات، فالبعض فضل الشارع والتسلية والترفيه على الانزواء داخل الصالات للغوص في مآسي العالم ومشكلاته التي لا تنتهي. فمن يقول وثائقي، يفهم ان الأمر في مجمله يتعلق بعرض ما يعانيه العالم من أزمات متعددة وعلى مستويات عدة وإنسانية وبيئية وسياسية واقتصادية ودينية وهوياتية. فالأفلام الوثائقية التي تبتعد عن هذه الاطروحات قليلة ونادرة. الأشياء الإيجابية والقصص الوردية ليس لديها سوق، خصوصاً إذا كان المقصود السينما التي تسعى إلى نيل تمويل من صناديق الدعم الأوروبية الطامحة ضمناً، إلى تصحيح مسار العالم من خلال كشف المستور والتركيز على السلبيات في البلدان البعيدة أو مخاطبة حس الفضول عند الجمهور الغربي.

لكن، هناك بعض الاستثناءات، ولو أنه لا يمكن التعويل عليها لسحب البساط من تحت أفلام القضايا المصيرية الهامة. من هذه الاستثناءات في هذه الدورة: أفلام عن المؤلف الموسيقي الياباني ريوشي ساكاموتو، وعن المخرج الفرنسي السويسري جان لوك غودار، وعن زميله الإيطالي داريو أرجنتو. ثلاثة أفلام تستعرض فنهم ولا مشكلة إذا بدا هذا كله من خارج هموم العالم الغارق في صراعاته المتجددة، من الفساد الضارب جسد الدولة برمتها في سلوفاكيا إلى قضايا التحرش التي تطيح أصحاب المواهب الخارقة في أميركا، مروراً بظروف حياة المرأة المأسوية في ظل "طالبان" في أفغانستان.

المهرجان الذي تزامن انعقاده هذا العام مع الذكرى الـ50 لعودة الديمقراطية إلى اليونان بعد سقوط نظام الجنرالات، انطلق بفيلم بالغ الجمال ينسجم مع هذا الحدث: "أطلقوا النار على عازف البيانو" للمخرج الإسباني فرناندو تروييبا (أنجزه بالتعاون مع خافيير ماريسكال) الذي كرمه المهرجان بجائزة خاصة عن مجمل أعماله، وتسلمها الفنان من يد رئيسة الجمهورية اليونانية إيكاتيريني ساكيلاروبولو التي تحضر الافتتاح لأول مرة في تاريخ مهرجان، كان راهن عليه مؤسسه الراحل ديمتري أيبيديس لتغيير عقلية الناخب اليوناني، كما قال لي ذات مرة خلال مقابلة. 

فيلم تروييبا، وهو وثائقي تحريك، يوثق بدايات الموسيقى البرازيلية (البوسا نوفا)، إلا أن هذه الموسيقى ليست سوى الشجرة التي تخفي الغابة، فمن خلالها نكتشف ما هو أفظع. يبدأ الفيلم مع صحافي أميركي يدعى جف يعقد ندوة مع ناشرته لإطلاق كتابه عن الموسيقى، ثم نعود إلى الوراء كي نكتشف حكاية الكتاب. في الواقع، كانت الناشرة قد كلفته تأليف كتاب عن موسيقى "البوسا نوفا" التي أحدثت تجديداً في مجال الموسيقى في الستينيات والسبعينيات، لا بل كانت تجسد ذروة التحرر الفني والحرية الإبداعية. لكن، عندما حط جف في البرازيل، اكتشف أن أحد العازفين البارزين في تلك الفترة اختفى في ظروف غامضة، علماً أنه لم يكن على أي صلة بالسياسة. خطف أثناء وجوده في الأرجنتين خلال حقبة الأنظمة العسكرية التي حكمت دول أميركا اللاتينية بدعم أميركي.   

يحملنا الفيلم إلى تحقيق يجريه الصحافي جف، عله يكتشف ملابسات قضية الاختفاء هذه، في حين تميل غريزته الصحافية إلى جمع تفاصيل عن أنظمة البطش والقمع التي تسببت بمقتل آلاف المواطنين الأبرياء وتشريدهم، وغالب الظن أن العازف كان في عداد هؤلاء الضحايا. وعلى رغم أن الفيلم يستعين بتقنية التحريك النادرة جداً في مجال الوثائقي، فإنه يستند إلى عديد من المقابلات التي أجراها تروييبا طوال سنوات (يقال إنه أمضى فيها عقداً ونصف العقد)، ولكن بدلاً من أن نراها في الوجوه الحقيقية للناس الذين نطقوا بها، كما في كل الأفلام الوثائقية، تتجسد بتقنية التحريك، التي، ويا للغرابة، تفتح آفاقاً جديدة أمام النص وتضيف إليه سحراً خاصاً. 

يلامس الفيلم قضايا عابرة للأزمنة، كالديكتاتورية والقمع والاستبداد وجرائم العسكر وإرهاب الدولة، لكن من دون أن يتعمق كثيراً في كل واحدة منها، فموضوعه الأساس هو الموسيقى، لكن من خلال استطراده، ينتهي به الأمر إلى تصوير العلاقة بين الفن والقمع، لتتكون لدينا في النهاية صورة شاملة لحقبة مضطربة من تاريخ أميركا اللاتينية.

مسألة اللجوء وقضية الهاربين إلى أوروبا عبر البحر للتخلص من بلدان تعيش صراعات ولا توفر أدنى مقومات الحياة الكريمة لمواطنيها، تهيمنان على كثير من الأفلام الوثائقية التي شاركت في هذه النسخة. إنها باختصار واحدة من القضايا التي تتصدر المهرجان. في "غابة" للبولندية ليديا دودا الذي نال جائزة "الإسكندر الفضي"، تموضع المخرجة كاميراها في غابة، لتوثق يوميات زوجين اختارا العيش مع أولادهما في الطبيعة، طمعاً بحياة أفضل لهم، لكن تدفق اللاجئين الذين يعبرون الحدود البيلاروسية في اتجاه بولندا، لطلب اللجوء إلى بلدان أكثر رفاهية منها، يزج العائلة في دوامة الأسئلة الأخلاقية التي يكتمها الفيلم ولا يفصح عنها إلا في الدقائق الأخيرة. فهذه الغابة التي كادت تكون الجنة الموعودة لهذه العائلة سرعان ما تتحول أرضاً لمآسي يعيشها ناس مضطهدون يحملون معهم معاناتهم من مكان إلى مكان، وهذا ما لا تستطيع العائلة صرف النظر عنه في نهاية الأمر. كيف يمكن مواصلة الحياة في صورة طبيعي وكأن ما يحدث لا يعني الا من يعيشه؟ 

يحاول الفيلم أن يرى رد الفعل بدلاً من الفعل نفسه. لا يزخر بمشاهد لاجئين يهربون من الخطر الذي يهدد حياتهم، كما الحال في أفلام تقليدية كثيرة. لجأت المخرجة إلى خيار استعاري يطمح إلى جردة شاملة للمأساة الإنسانية التي تطرق أبواب أوروبا في القرن الـ21، عبر اختزال كل ما تريد قوله في وجه الزوجين في نهاية الفيلم. أما السؤال الذي يطرحه، فلا يحمل أي لبس: هل علينا الانصات إلى صوت الضمير أم التزام القانون؟ إذ يبدو أنهما لا يجتمعان في كثير من الأحيان.

المعضلة الأخلاقية في ما يتعلق باللجوء هي أيضاً المادة الأساس في "لا تعود" للمخرج الدنماركي مارتين غولنوف الذي تحدث مع الجمهور عن تفاصيل إنجازه هذه المرافعة السينمائية. حكاية الفيلم تذهب بنا إلى اليونان، تحديداً إلى جزيرة لسبوس، التي تشهد منذ سنوات تدفق أعداد كبيرة من اللاجئين القادمين من تركيا. هذا كله نتابعه من خلال شخصية محمد، الفلسطيني المولود في الدنمارك، الذي بدعم من المتطوعين، ساعد أعداداً من الواصلين إلى الجزيرة على متن قوارب الموت، لكن محمد يتهم بالاتجار بالبشر، مما اضطره إلى تكليف محامٍ للدفاع عنه. يقع محمد ضحية القانون الصارم الذي يمنعه من مد يد العون إلى ناس في محاولة لإنقاذهم. الفيلم مشغول بحرفة معينة، يحترم عقل المشاهد ولا يستسهله، لكن في النهاية لا جديد تحت الشمس، فهو عملياً تجسيد بصري لأفكار استهلكها الفيلم الوثائقي طوال العقود الماضية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في نقاش بعد العرض، أبدى المخرج اهتماماً كبيراً بآراء المشاهدين. علق قائلاً، "يعطي الاتحاد الأوروبي الحق لكل شخص يهرب من بلد في حالة حرب، أن يطلب اللجوء، ويمكن للاجئ أن يستفيد من هذا الحق في أول بلد يصل إليه، إذا كانت حياته في خطر، لكن في الوقت نفسه، هناك محاولات لإعادتهم إلى بلدانهم، وهذا يضعنا أمام معضلة أخلاقية. هذا يعني أنه يطلب من اللاجئين أن يخالفوا القوانين كي يحصلوا على حق قانوني. أما السلطة فتستغل أشخاصاً مثل محمد، فتجعله كبش محرقة ليصبح عبرة للآخرين كي لا يساعدوا غيرهم. ولهذا السبب، فإن محاكمات كثيرة تستغرق سنوات طويلة، لأنه، في رأيي، تسعى السلطات من خلالها إلى توجيه رسالة والقول إن هذا ما سيحدث لكم إذا مشيتم على هذه الطريق". 

حضر اللجوء والاغتراب بصور وأساليب مختلفة ليطاولا أجيالاً عدة. في "من عبدول إلى ليلى"، توثق المخرجة الفرنسية العراقية ليلى البياتي، لحظات من سيرة والدها الذي هرب من العراق أيام صدام، ليستقر في جنوب فرنسا ويؤسس عائلة. بعد سنوات عاشت فيها بعيداً من الأسرة، وبعد حادثة جعلها تفقد ذاكرتها، تحاول البياتي في هذا الفيلم أن تتصالح مع كثير من الأشياء، دفعة واحدة. تحاول أن تبحث في العلاقات الأسرية المكلومة، كما أنها تحمل هم الموسيقى والفن. ويأتي هذا كله في إطار بحثها المزمن عن هويتها، والرغبة في تطوير علاقتها مع والدها، لتفهم من هي في الحقيقة. الفيلم يتماهى مع هذا الصورة الوثائقية الضائعة بين الذاكرة والنسيان. صحيح أن المخرجة تتوه، ونتوه معها من فرط التفاصيل، لكن ضوءاً صغيراً يلوح في الأفق. 

اقرأ المزيد

المزيد من سينما