الغرب اليوم في مأزق. الشرق في محنة دائمة. لكن الدنيا تتغيّر للخروج من مقولة الشاعر كيبلينغ "الشرق شرق، والغرب غرب ولن يلتقيا". ففي مطلع الألفية الثالثة بعد عقد من انهيار الاتحاد السوفياتي والانشغال بنظرية فرنسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ"، كانت الرهانات كبيرة على تحولات جذرية: "عولمة، الديمقراطية عبر تقليد الشرق للغرب وتبنّي الديمقراطية السياسية واقتصاد السوق".
وقد حدث شيء من ذلك، ثم توقّفت الحركة. اليوم يبدو خيار الغرب المضروب بالشعبوية والذي يعاني أزمة داخل الديمقراطية كأنه "عولمة" السلطوية عبر تقليد الشرق. ففي كتاب "ديمقراطية وديكتاتورية في أوروبا: من النظام القديم إلى اليوم" لأستاذة العلوم السياسية شيري برمان أن "تنامي لا شعبية الاتحاد الأوروبي في العقد الماضي أعطى مبرراً للقومية والشعبوية اللتين تهدّدان الديمقراطية الليبرالية في أوروبا."
وفي كتاب "كونيون" نهاية الإمبراطورية وولادة النيوليبرالية"، يقول المؤرّخ البروفسور في هارفارد كوين سلوبوديان إن فريديريك هايك ورفاقه من النيوليبراليين أرادوا "ليس فقط مقاومة الفاشية والشيوعية بل أيضاً قمع قوة الجمهور الديمقراطي"، لا بل إن فريدريك هايك زار ديكتاتور تشيلي الجنرال بينوشيه وقال "ديكتاتور ليبرالي أفضل من حكومة ديمقراطية تنقصها الليبرالية"، وأقل ما قاله النائب السابق لوزير الخارجية الأميركي وليم بيرنز في كتابه "القناة الخلفية" إن الرئيس دونالد ترمب "دخل البيت الأبيض باقتناع قوي متحرر من التاريخ مفاده بأن الولايات المتحدة رهينة النظام الليبرالي الديمقراطي العالمي الذي خلقته."
والمشهد ناطق في أميركا التي خلقت ذلك النظام بعد الحرب العالمية الثانية، وفي بريطانيا التي هي "أم البرلمانات والديمقراطية".
ترمب يقول "الله اختارني لقيادة حرب تجارية ضد الصين"، وهو اختار جون بولتون ثم أقاله كمستشار للأمن القومي بعد عام واحد وفي أعقاب مستشارين اثنين سبقاه في أول عامين من الولاية.
ومن الصعب إيجاد من يأسف لرحيل بولتون، لكن من السهل القول إن مشكلة أميركا هي ترمب نفسه الذي كان أول رئيس يأتي في سنته الثالثة برابع مستشار للأمن القومي، وثالث وزير للدفاع بعد الجنرال ماتيس وآخر بالوكالة، ويختلف مع ثلاثة تعاقبوا على منصب كبير الموظفين في البيت الأبيض والذي يوازي منصب رئيس الحكومة في الأنظمة البرلمانية، ويقيل مساعديه بمن فيهم وزير للخارجية بتغريده على "تويتر".
ترمب كان يدرك أن بولتون صقر إيديولوجي يميني يعرف ما يريد. أما هو، فإنّه بلا أجهزة سياسية ولا إيديولوجيا ولا حرص على بناء إستراتيجيات. رجل أعمال نرجسي أدار سياسة الدولة العظمى بمزيج من إهانة الحلفاء والتودّد إلى الأعداء والخصوم. وبحسب جيمس بونيفونايك في كتاب "مشاهدو شخص واحد"، ترمب، تلفزيون، وتمزيق أميركا"، فإن الرئيس الأميركي "صناعة تلفزيونية" يعرف ما تريده الكاميرا وهكذا يعمل في السياسة. خلاصة الخلافات مع بولتون هي اعتراض المستشار على هوس الرئيس بلقاء طالبان وروحاني وكيم جونغ أون متوهماً القدرة على إنجاز الصفقات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أما بريطانيا التي صوّتت في استفتاء للخروج من الاتحاد الأوروبي تحت أوهام "استعادة المجد القديم والسيادة"، فإنها وقعت في أزمة بريكست التي كشفت أزمات كثيرة داخلية. إذ هي، بحسب جيني راسل من "التايمس" تفتقد "المهارات العاملة في الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا" وازدهارها مرتبط بالتجارة مع الاتحاد الأوروبي. وهي وجدت قيادتها تنتقل إلى مهرج جاء به ما سمي "التمثيل اللاديمقراطي" عبر اختيار حزب المحافظين له والذي يمثل 0.3 في المئة من الناخبين.
وأبسط ألقاب بوريس جونسون أنه "حرباء سياسية" و"لورد إساءة الحكم". أما كبير مستشاريه الإستراتيجيين دومينيك كامينغز الملقب "راسبوتين"، فقد أخذه إلى رهانات قادته إلى سلسلة من الصفعات والهزائم: خسر الأكثرية في البرلمان الذي فقد السيطرة عليه. فصل 21 برلمانياً من كبار الأعضاء في حزب المحافظين لأنهم عارضوه. وفقد قدرته على إنجاز بريكست في 31 أكتوبر (تشرين الأول) من دون اتفاق بعدما منع البرلمان ذلك بقانون.
وإذا كان حوّل "أم البرلمانات" في العالم إلى مسرح فكاهي ومأسوي معاً، فإنّ رئيس الوزراء سابقاً جون ميجور وصفه بأنه فوضوي سياسي يجب طرده قبل أن يسمم الحكومة. ووزير الخزانة المستقيل فيليب هاموند الذي صار له 45 عاماً في حزب المحافظين قال "سأدافع عن حزبي ضد الدخلاء الذين يريدون تحويله من كنيسة جامعة الى عصبة ضيقة."
في كتاب "أحزاب مسؤولة: انقاد الديمقراطية من نفسها" يرى المؤلفان فرانس ماكول روزنبلوث وإيان شابيرو "أن تغييرات سميت إصلاحات أساءت إلى نوعية الديمقراطية". والتعبير الجديد الذي صكّه البروفسور في هارفارد دانيال زيبلات عن فشل الديمقراطية هو "البايسبول الدستوري".
وليس من السهل نجاح السلطوية في أميركا وبريطانيا مهما يكن الإغراء قوياً في تقليد السلطوية في روسيا والصين وتركيا والمجر وسواها.