ملخص
بعد سنة من بدء تطبيع العلاقات بين البلدين، ما زالت السعودية وإيران عند مستوى إبداء حسن النوايا، فما هي الأسباب؟ ولماذا لا تأخذ خطوات التطبيع مسارات سريعة؟
قال لي دبلوماسي إيراني في بلد عربي إن "السعودية لم ترد على التحية الإيرانية حتى الآن بأحسن منها"، ولما سألته كيف ذلك؟، أجاب "ألم ترَ أننا أعفينا السعوديين من الفيزا، وبدلاً من اتخاذ الرياض خطوة مماثلة وهي التي فتحت أبوابها لكل الجنسيات تقريباً بإجراءات سلسة، إذا بها لا تزال تحظر على مواطنيها مجرد السفر إلى إيران".
بدا الدبلوماسي الذي تحدث بعفوية مستوعباً أن الموقف السعودي كان مقصوداً، إلا أنه لم ينكر أنه غير متوقع بعد كل الرسائل الإيجابية التي أمعنت بلاده في إظهارها لتجسير الهوة مع المملكة القوية في الإقليم، ومضى يقول "هل هناك أكثر من زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الرياض واجتماعه مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لإظهار حسن النوايا؟".
وأضاف "هل تعلم أنه حتى اليوم كي يزور سعودي إيران لأي غرض، عليه أن يذهب إلى بلد آخر، كي يأتي منه إلى إيران ونحن تفصل بيننا وبين مدن شرق السعودية أقل من ساعة طيران؟".
تقلب المواقف
لكن هذا الجانب من التقييم في النظر الإيراني غير الرسمي، له ما يبرره عند السعوديين الذين باتوا أكثر معرفة بسلوك النظام الإيراني إثر تجارب تصفية أجواء العلاقة المتكررة معه، فهم كما كان يقول السياسيون في الرياض باستمرار، سراً أو علانية "العبرة بما تفعل إيران لا ما تقوله".
ولهذا يرى رئيس المعهد الدولي للدراسات الإيرانية محمد السلمي أن "التحدي الأكبر هو في تقلُّب المواقف الإيرانية، ففي جل الأزمات السابقة غالباً ما كان الفعل يصدر من إيران، أما السعودية فكانت مواقفها رد فعل، لذا فإن هواجس التنصل من التزامات الاتفاق انطلاقاً من التجارب السابقة، يتوقع أن يكون مصدرها إيرانياً، خصوصاً في حال حصول تطورات جوهرية لعوامل داخلية أو خارجية، تدفع صانع القرار الإيراني إلى تأزيم العلاقات مع السعودية".
إلا أن السلمي نفسه يقر بأن الاتفاق بين الجارتين الكبيرتين في الإقليم، كان واضح الأثر والجدوى على الدولتين والإقليم، إذ "أظهرت الاختبارات التي اجتازها الاتفاق خلال عام فرصاً تتيح المجال لدفع علاقات الطرفين إلى مستوى أعلى، فعلاقات البلدين تعاني أزمة ثقة نتيجة 40 عاماً من الاضطرابات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استدعاء ورقة الحوثيين
لكنه حذر من إصرار الإيرانيين على التمسك بورقة الحوثيين في ملف "البحر الأحمر" بما يعقد مسار التسوية بين الفرقاء في صنعاء وعدن الذي تنشط فيه السعودية وعمان، فهو يعتبر أن دخول الميليشيات الحوثية على "خط المواجهة مع ما يسمى ’محور المقاومة‘ بعد عملية ’طوفان الأقصى‘، واستهدافها الملاحة البحرية في خليج عدن وباب المندب، وما أدى إليه من تشكيل تحالف لحماية الملاحة في باب المندب والبحر الأحمر... لا يخدم مسار الحل السياسي في اليمن"، كما أنه يؤشر إلى بقاء الرغبة الإيرانية في الاحتفاظ بالورقة الحوثية، وربما تؤدي بعض مآلاته إلى تقويض الثقة بين الرياض وطهران.
وفي هذا الصدد يشير المحلل السياسي اللبناني طارق وهبي في حديث إلى "اندبندنت عربية" إلى أن إيران اعتادت اللعب خلف الستار والتحايل على الاتفاقات والعقوبات، لذا فإن وفاءها بتعهدات الصفقة مع السعودية أمر مستبعد، حتى إن أظهرت بعض الالتزام به مرحلياً، على رغم ضغط بكين الراعية له.
اتفاق أم هدنة؟
ويؤكد أنه لا يرى اتفاقاً مستداماً وإنما "هدنة موقتة لأن الهوة عميقة سياسياً وعقائدياً وحتى اجتماعياً. الوضع في اليمن والموقف الأميركي الفاضح جرّاء ما يحصل في اليمن دفع المملكة إلى قبول مبادرة صينية لقيام جسر من المفاوضات بين المملكة وإيران، واستناداً إلى ذلك السعودية سعت إلى إبعاد شبح الإرهاب الحوثي منها ومن الخليج بوضع حد لهجماتها الصاروخية أو بالطائرات المسيّرة".
أما في ما هو أبعد من ذلك، فيعتبر أن "المفاوضات قائمة في الشأن السياسي لكن يصعب أن تترجم إلى ما هو أعمق، لأن إيران اتخذت خطوات لن تتراجع عنها، لا سيما في دعم الميليشيات والتدخل الدائم في دول الشرق الأوسط وأولها لبنان وسوريا والعراق واليمن وضرب كل قواعد الدبلوماسية في التعاطي مع القواعد السياسية في هذه البلدان".
لكن الجانب الذي يراه يمكن أن يترك آثار تقارب أعمق بين البلدين، فهو نظرتهما المشتركة إلى الموقف الأميركي بالريبة "فهناك نوع من الجفاء المتشابه بين إيران والسعودية إزاء الولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة، وثبت ذلك أكثر إبان موقف واشنطن حيال الحرب في غزة".
العقيلي: إيران قلمت بالاتفاق النفوذ الأميركي
من جهته رفض المحلل السياسي السعودي سليمان العقيلي أن يكون اتفاق المصالحة بين السعودية وإيران "اعتمد خريطة طريق لحل مشكلات المنطقة، وإنما توقع المراقبون أنها ستنعكس بصورة إيجابية على الوضع الإقليمي"، لكنه أعاد جانباً من عدم تمدد آثاره إلى أبعد مما نرى اليوم، إلى مقابلة الاتفاق منذ لحظة صدوره في بكين بـ"حملات أمنية إسرائيلية وأميركية وردود إيرانية مؤسفة، صعدت جميعها من حال عدم الاستقرار الإقليمي".
ونظر العقيلي إلى تقييم الاتفاق بعد عام من إطلاقه في أكثر من اتجاه، فهو يراه "مهماً لتحييد مصادر التهديد للبلدين السعودية وإيران، كما أنه في شق آخر قد يكون أسهم في التوتر النسبي بين واشنطن وطهران لأن تعاونهما الثنائي التالي لإرهاب الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 كان بالضرورة ضد المصالح السعودية والعربية".
ويرجح في المحصلة النهائية أن السعودية نجحت في الاعتماد على ذاتها وعلى قوتها الدبلوماسية والاقتصادية، وحيدت مصادر التهديد الإقليمية، وأنجزت الخطوات الأولى من خطة تصفير المشكلات وهي تسخر طاقاتها لإنجاح مشروعها الاقتصادي والاجتماعي والعلمي المتمثل في "رؤية 2030"، "فيما إيران تنجح أيضاً من جهتها في تقليم النفوذ الأميركي بالمنطقة، وخلف كل ذلك معادلة توازن الردع وتحييد الأخطار الإقليمية التي أرساها اتفاق بكين"، مضيفاً أنه "صحيح أن هذه نتائج مبهرة، لكنها غير محسوسة للوهلة الأولى".
التوترات الدولية التي أعقبت السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 والحرب في غزة، أضافت اختباراً آخر غير اليمن إلى صدقية النوايا الإيرانية نحو عقدها المصالحة مع العرب والإقليم ابتداء من السعودية التي اتجهت بعهدها إلى تسوية ملفاتها العالقة مع دول عربية وأخرى إسلامية، لا سيما مصر. فعلى رغم نفي إيران علمها بتوقيت هجوم حركة "حماس" في السابع من أكتوبر، إلا أن أطرافاً غربية لا تزال ترى أنها تستثمر في إفساد أي اتفاق بين السعودية وإسرائيل أو استراتيجية مع الولايات المتحدة الأميركية.
وربما يكون هذا المعطى، إلى جانب حال عدم اليقين في المنطقة التي أفرزتها الحرب وتداعيتها، جعلا الرياض تفضل ما سماه الباحث السياسي يحيى بوزيدي نوعاً من التأني الدبلوماسي، وفقاً لنهج التحوط الاستراتيجي الذي تنتهجه السعودية في هذه الحقبة من مقاربتها الجيوسياسية، مما جعلها أكثر حذراً في المضي قدماً نحو العودة بعلاقاتها مع طهران من حيث توقفت قبل سبعة أعوام.
لكن باحثين آخرين يشيرون إلى أن مسار الإدارة الأميركية بعد الانتخابات التي بدأ سباقها نحو البيت الأبيض سيكون هو الآخر مؤثراً في وضع النقاط على المشهد في الإقليم، بما في ذلك الاتجاه الذي تستقر عليه العلاقة بين السعودية وإيران.
التعلم من التجارب السابقة
ويرى بوزيدي أن "استراتيجية التأني التي تتبعها المملكة في تنفيذ بنود الاتفاق نابعة من التجارب والخبرات السابقة للعلاقات بين البلدين والتي كانت تصطدم بسلوك إيراني يتسم بالانفعالية والاندفاع البعيد من المنطق العقلاني لصانع القرار في مؤسسات الدولة، مما أدى في آخر المطاف إلى قطيعة السبعة أعوام، والعودة بالعلاقات للوضع الذي كانت عليه قبل الأزمة يحتاج من جهة إلى عمل كبير جداً وفق خطوات مدروسة بدقة".
أما من جهة ثانية، فيلاحظ البوزيدي أن بعض النخب الإيرانية تحمل مخرجات الاتفاق أكثر مما تحتمل و"تريد منه أن يكون عصا موسى التي تفك عن إيران القيود التي تفرضها عليها العقوبات الدولية وأن تصبح العلاقات مع المملكة بديلاً عن علاقتها المتأزمة مع الغرب".
ولفت في إطار الاستعجال الإيراني لترجمة بنود الاتفاق الاقتصادية والتجارية إلى أن "البطء في بعض المجالات له مبرراته الموضوعية والإيرانيون يبالغون من هذه الناحية، فعلى سبيل المثال التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري يحتاجان إلى وقت أطول وجهود كبيرة لتطويرهما، خصوصاً بالنسبة إلى القطاع الخاص، وذلك ليس وليد قرارات ارتجالية كما يتصور بعضهم".
على الصعيد الرسمي، لا تزال العلاقات تتسم بحيوية وسلاسة لدرجة دفعت وزيري خارجية البلدين إلى عقد نحو 10 لقاءات ومحادثات خلال عام، مما يعد أمراً نادراً، خصوصاً بين دولتين للتو تنهيان قطيعة طالت مدتها. ولئن كانت تلك الاتصالات متعلقة بمعظمها بقضية فلسطين، فإن انسجام البلدين في التعامل مع أزمتها المتفاقمة، على رغم تضاد المقاربة الجوهرية بين طرفي ما يسمى "المقاومة" ودول "الاعتدال" العربية يمثل واحداً من مخرجات صفقة بكين الإيجابية.
لسفير إيران في الرياض رأي آخر
لكن سفير إيران لدى السعودية علي رضا عنايتي يدعو عند تقييم العلاقة بين البلدين إلى النظر لتاريخها الممتد لنحو 100 عام، الذي كان حافلاً بكثير من القواسم المشتركة على الصعيدين الإسلامي والاقتصادي، وليس فقط فترة انقطاعها.
وقال في كلمته أمام السعوديين وجمع من السفراء الأجانب في أول مناسبة تنظمها سفارة بلاده بعد إعادة افتتاحها إن "تاريخ العلاقات الإيرانية- السعودية کاد يكمل قرناً، فإنه تم التوقيع علی وثيقة المودة بين إيران ومملكة الحجاز ونجد وملحقاتها في أغسطس (آب) 1929 وسنحتفل بإذن الله لاحقاً بذكرى مرور المئوية الأولى للعلاقات بين البلدين".
وخلافاً لمن يرون حصيلة متواضعة للعلاقة بعد تطبيعها خلال عام مضى، يعتبر عنايتي أن "إنجازات كثيرة حصلت في المجالات شتى على المستوى الثنائي من تبادل الزیارات واللقاءات بين الوفود السیاسیة والثقافية والاقتصادیة والدفاعیة وغیرها، توجت بزیارة الرئيس الإيراني إلى المملكة ولقائه ولي العهد علی هامش اجتماع القمة الاسلامیة في الریاض لدعم فلسطین"، مشدداً على أن ثمة "مساحات عمل واسعة لتنمیة العلاقات البینیة، ولا نری انحصارها بها، بل نری تأثیرها في المستويين الإقلیمي والإسلامي"، ومؤكداً أن بلاده "جادة في استمرار هذا المسار".
إذا كان الأمر كذلك ماذا ينقص العلاقة لتجاوز امتحان "حسن النوايا" حتى الآن بين البلدين؟ لا أحد يعرف حتى الآن ما ستسفر عنه الحقبة الجديدة من العلاقة.
الماضي قد يجيب عن الحاضر
إلا أن وثائق بريطانية أفرج عنها أخيراً، نشرتها "اندبندنت عربية" توثق بعض أسباب ذلك في الماضي، إذ تكشف عن مكالمة هاتفية أجراها السفير البريطاني في الرياض مع وزير الخارجية السعودي الأسبق سعود الفيصل في الـ14 من أبريل (نيسان) 1994، كان الحديث فيها يدور حول قضايا إقليمية والصعوبات التي تعترض السياسة البريطانية مع إيران حتى في عهد أكبر هاشمي رفسنجاني الذي كان يروّج له بأنه معتدل.
تسجل الوثيقة أنه "لا يزال السعوديون متشككين للغاية في شأن إيران"، وفصلت ذلك بأن لندن أخبرت الأمير سعود "أننا لا نزال نواجه صعوبات مع إيران. وقال إنه لا يرى أي تغيير في السياسات الإيرانية. وظل الموقف السعودي ثابتاً، وأن السعودية لن تتنازل في شأن قضية الحج".
في ذلك الحين تضيف الوثيقة أن "الإيرانيين واصلوا الحديث عن تحسين العلاقات مع المملكة، لكنهم اتخذوا بعد ذلك خطوات كثيرة لتقويضها. واجهت إيران عدداً من المشكلات الداخلية، وظل الوضع الداخلي غير متوازن. لقد أشرت إلى أن موقف رفسنجاني يبدو ضعيفاً تجاه خامنئي. قال الأمير سعود إنه عندما كان رفسنجاني قوياً لم يكن هناك فرق، سواء لم يتصرف بصورة معتدلة، أو لم يستطِع، كانت النتيجة هي نفسها".
وهي شكوك صدقتها الأيام لسوء الحظ، إذ لم تلبث أبراج الخبر شرق السعودية التي تقل عناصر من القوات الأميركية أن فجرت، وراح ضحيتها عشرات الأبرياء، قبل أن يتبين في ما بعد أن إيران هي التي تقف خلف العملية الإرهابية.