Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

من يحكم العالم؟

ترسم شركات دولية ومؤسسات مجتمعية وميليشيات مسلحة معالم كونية جديدة

مخاوف من فرض الميليشيات هيمنتها على الدول والمؤسسات الكبرى  (رويترز)

ملخص

معالم العالم الجديد تتشكل على فواعل غير دولية يوصفون بـ"الفواعل غير الحكومية"، مما يشير إلى نهاية زمن الدولة بمفهومها الحديث

هل أضحى عالمنا المعاصر على عتبات نظام دولي جديد، يلعب فيه الفاعلون غير الحكوميين دوراً مهماً يكاد يؤثر وبقوة في مقدرات شكل العالم؟ هل انتهى عصر ما عرف بالدولة الويستفالية مرة وإلى الأبد؟

رسم صلح ويستفاليا عام 1648 ملامح الدولة العصرانية الحديثة، وبلور سماتها وملامحها، من جهة الحدود، وأرسى قواعد تعاملاتها بين الواحدة والأخرى، مما أتاح فترة طويلة من الهدوء في أوروبا، بعد أن جرى احترام متبادل بين دول القارة.

ظل هذا المفهوم قائماً لنحو أربعة قرون، إلى أن ظهر أخيراً مفهوم مغاير يعرف بـ"الفواعل غير الدولية"، التي باتت فاعلة ومؤثرة، سواء كانوا أفراداً أم جماعات، عسكريين أو سياسيين، وراء الكواليس أو أمامها، مما جعل فكرة حكم العالم تتجاوز المؤسسات الدولية الكبرى كالأمم المتحدة ومجلس الأمن، أو حتى الحكومات المدنية التقليدية شرقاً وغرباً.

 أي ملامح لهذا العالم الذي تلعب فيه هذه الفواعل هذا الدور، وما الذي ينتظر علاقات الأمم والشعوب، طالما ظهرت قوى مؤثرة يمكنها أن تغير الأوضاع وتبدل الطباع حول الكرة الأرضية، ومن غير أن تعد دولاً مستقلة؟

 أظهر الدور الذي تلعبه الجماعة الحوثية في اليمن، كما أكدت جماعة "حماس" بدورها، أنه من الممكن لهذه التجمعات الفاعلة على الصعيد الدولي، أن تؤثر في سياقات الأحداث، وعلى الأمن والسلم الإقليمي والدولي، فما قامت به "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي يكاد يزج بإقليم الشرق الأوسط في أتون معركة واسعة النطاق، فيما الحوثيون يؤثرون بقوة وفاعلية في أمن الملاحة بمنطقة البحر الأحمر، مما يصيب العالم باضطراب جيوسياسي، ناهيك بالقلاقل الاقتصادية.

ماذا عن تعريف هذه الفواعل غير الدولية في الحال، وما المتوقع لها في المستقبل؟ ماذا عن أهم تلك الجماعات وما مآلاتها، لا سيما في عصر الفوضى الأنتروبي الذي تعيشه المسكونة وساكنوها هذه الأيام؟

ما الفواعل غير الدولية؟

طفا أخيراً على صعيد المصطلحات المرتبطة بالعلوم السياسية، تعبير non state actors أي الممثلين غير الدوليين، الذين يمكن اعتبارهم إفرازاً عولمياً، لم يكن ليظهر على سطح الأحداث لو لم تكن هناك هذه التشابكات والتقاطعات بين دول العالم، إذ لم تعد العلاقات ثنائية أو ثلاثية، بل متعددة متداخلة الخيوط ومتشابكة الخطوط.

ولعله من المؤكد أن العقود الثلاثة الأخيرة شهدت تنامياً غير مسبوق في أعداد هذه الفواعل وأنواعها نتيجة التطور الهائل في مجال التكنولوجيا والاتصالات، إضافة إلى التراجع في دور الدولة.

 تتمثل هذه الفواعل في عديد من الفئات الشائعة والمؤثرة، فمنها أقطاب الأعمال، أولئك الذين يمتلكون بشكل شخصي من الثروات ما يفوق ملكيات بعض الدول، ومنهم على سبيل المثال، بيل غيتس ووارين بافيت وجيف بيزوس وكثير من هؤلاء، إذ بات الجميع يتساءل عن الأدوار الخفية التي يقومون بها في تسيير شؤون العالم، وربما زيادة شجونه.

 من هؤلاء كذلك الشركات العابرة للقارات، التي تعرف كذلك بالمتعددة الجنسيات، ويليق بها المتعدية للجنسيات، إذ كياناتها المالية الفائقة تجعلها قادرة على ترك بصماتها على دول مستقلة بل وتوجه دفتها كيفما شاء لها.

 ظهرت كذلك في هذا الإطار المنظمات غير الحكومية، أو الـNGOs، وباتت قدراتها هائلة وتتقاطع مع السيادة الدولية بل وتنتقص منها، لا سيما أن حضورها يرتبط بالمفاعيل الخاصة بالمؤسسات المالية الدولية كما الحال مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.

 

تشمل هذه الفواعل الجماعات المسلحة لا سيما تلك التي تؤمن بالعنف، وقد عانى العالم في العقود الأخيرة صعود مجموعات إرهابية مثل "القاعدة" و"داعش" و"بوكو حرام" وغيرها، أحدثوا خسائر هائلة وتسببوا في شيوع وذيوع الذعر حول العالم.

 ووفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر فإن عدد الجماعات المسلحة الخارجة عن السياق الدولي تبلغ في السنوات الخمس الأخيرة نحو 450 جماعة، ويعيش نحو 195 مليون شخص تحت سيطرة مثل هذه القوات غير الرسمية، سواء كانت مستقرة أو مانعة.

 وفي كل الأحوال فإن مفهوم "الفواعل غير الدولية" يعد من المفاهيم التي تتسم بالغموض في مجالات العلاقات الدولية، إذ لا يتضح تعريفه وتحديده من قبل المنظمات الحكومية الدولية، ذلك أنه يعبر بوجه عام عن عناصر فاعلة منفردة ذات هياكل وموارد وطرق مختلفة في التأثير السياسي عن الكيان المؤسسي للدولة.

لعل أول ملاحظة يمكن أن تنتج من زمن الفواعل غير الحكومية تتصل بتراجع دور الحكومات الوطنية نفسها، لا سيما بعد أن صاغ الأكاديميون كلمة تعبر عن الفواعل من غير الدول، وهي "عبر الوطنية" أو             Transnational تأكيداً لعدم اقتصار الحكومات في التأثير بمجال العلاقات الدولية، بل إن هناك فواعل عبر وطنية Transnational actors، ذات تأثير فعلي.

هل من أمثلة على هذه النماذج غير الحكومية؟

الشركات عبر الوطنية كفاعل سياسي: تعد الشركات التي تقوم على الاستيراد والتصدير شريكاً في الأنشطة الاقتصادية عبر الوطنية، وغالباً ما تعتبر التغييرات في كل من معايير الصحة والسلامة، وتنظيم مرافق الاتصالات بين الدولي والسياسات الاقتصادية العامة المفروضة من الحكومات الأجنبية تؤثر مسارات التجارة لتلك الشركات، وعلى هذا لا تستجيب تلك الشركات بالضرورة لتطبيق تلك المعايير مع توقعهم الخسارة، ومن ثم يلجأون إلى الضغط على الحكومة الأجنبية من طريق أربعة طرق شائعة هي:

- مطالبة حكومتها بالضغط على الحكومة الأجنبية المصدر إليها.

- عرض سؤال متعلق بالسياسات العامة للدولة الأجنبية.

- الضغط من طريق البعثة الدبلوماسية.

- الضغط من طريق الوزارات الحكومية في بلد آخر.

المنظمات غير الحكومية كضاغط سياسي: هنا يمكن القول إنه لا يمكن التعرف إلى سياسات أية دولة من دون التعرف إلى الجماعات التي تضغط على الحكومة، وبذلك تعرف بـ"جماعات الضغط"، وهذه لها دور مؤثر في المجتمع المدني، ومن منظور بريطاني تعرف بأنها مجموعات المصالح المتحيزة لمجموعة تروج لقيمها وتدافع عن مصالحها مثل النقابات، بينما تطلق عليها الولايات المتحدة مصطلحات ذات دلالات أكثر معيارية، مثل: اللوبي lobby ومجموعات المصالح العامة، والتنظيمات التطوعية الخاصة.

ما الذي يمكن استنتاجه بادئ الأمر من هذين النموذجين؟

 قطعاً يبدو زمن الاختصام من المقدرات الحكومية ماضياً قدماً، لا سيما أن الأنظمة الدولية لا تخضع لبنى ثابتة، فهي تتعرض لتحولات مستمرة استجابة للتغييرات الدينامية في داخل تلك الأنظمة، سواء كانت السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية.

 تعكس تلك التحولات في واقع الحال التغيرات المهمة التي لحقت بالقواعد المتعارف عليها في بنى الأنظمة الدولية، حيث يمكن للتحولات أن تكون واسعة النطاق وتحل محل الأنظمة الموجودة بالفعل أو تطغي عليها، وتقوم تلك التحولات على الإخفاقات التي تشهدها الأنظمة المترابطة داخلياً نتيجة الضغط المتزايد عليها، وقد تأخذ تلك الإخفاقات شكل النزاعات غير القابلة للاستقرار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هل يعني ذلك أن النظام الدولي يتغير إلى شكل مجهول أو ما أطلق عليه غرامشي "فترة خلو العرش"؟

 الثابت أنه يمكن لعديد من التحولات التي تؤثر في بنية النظام الدولي أن تتفاعل مع بعضها لتنشئ نمطاً معقداً، ومثال على ذلك أن التطورات التكنولوجية الحديثة في العالم قد غيرت كثيراً من الأنماط التقليدية للنظم الداخلية بالدولة، لا سيما أنها أثرت في سلوك الفرد الذي يعد المحرك الأساس في تلك الأنظمة، ومن ثم فإن الأنظمة الدولية يمكنها أن تقع تحت تأثير تغيرات قوة خارجية، وكغيرها من عوامل التأثير الخارجي يكون ذا شكل هيكلي أكبر من السلطة يتكون أحياناً بوجود بعض العوامل التلقائية أو المتفاوض عليها أو المفروضة.

الشركات العالمية وهيمنة سلطوية

هل أضحت للشركات العالمية المتعددة الجنسيات سلطة تفوق سلطات الدولة، مما يجعل منها فاعلاً قوياً متقدماً في عالم الفواعل غير الحكومية؟

 من أفضل التحليلات التي تقدم جواباً عقلانياً لهذا التساؤل، البروفيسور الفرنسي إيفان دو روي، المؤسس المشارك لموقع "كفى" ولمرصد الشركات المتعددة الجنسيات.

 يبين لنا دو روي كيف أن الضخامة الاقتصادية الهائلة لهذه الشركات باتت لا تقبل الشك، وأكبر الشركات المتعددة الجنسيات وأعظمها على الصعيد الاقتصادي العالمي شركات المال والصناعة النفطية والسيارات والطاقة، التي باتت تنافس الدول.

 

تبدو العلامة المكملة للاسم التجاري لمتاجر "وول مارت" Walmart" المركزية الكبرى الأميركية، هي أنها تستخدم 2.2 مليون شخص، أي ما يناهز عدد سكان باريس، وتحقق "وول مارت" مبيعات سنوية تقدر بـ485 مليار دولار سنوياً، أي ما يعادل الناتج المحلي القائم للأرجنتين أو لتايوان.

 أما الموازنة المصرفية العمومية لبنك باريس الوطني "بي أن بي باريبا"، فتبلغ تريليوني يورو، أي ما يوازي الناتج المحلي القائم للبلد الذي اتخذه مقراً فيه أي فرنسا التي تحتل مرتبة القوة الاقتصادية السادسة في العالم، وهذا مع أن بنك "بي أن بي باريبا" لا يحتل سوى المرتبة الثامنة بين المصارف العالمية، أي إن ترتيبه يأتي بعد المؤسسات المالية الصينية والأميركية.

رؤوس أموال عمالقة الإنترنت الجدد "غوغل" و"أبل" و"إكس"

 المؤكد أنها تتجاوز الناتج المحلي القائم للسويد وبولونيا، ونيجيريا التي هي أعظم بلدان أفريقيا سكاناً، إذ تضم قرابة 180 ألف مليون نسمة.

لا تقتصر هذه السلطة الاقتصادية على أرباحها ذات الـ10 أو الـ11 رقماً، ولا على السيولة النقدية التي تولدها.

 باتت الشركات المتعددة الجنسيات تمارس سلطة تقريرية حقيقية لا جدال فيها، في عديد من المجالات الحساسة الحاسمة، التي تراوح ما بين تلك التي تتعلق بالحياة اليومية أو بتوازن المعمورة كلها. وهي سلطة لا يراقبها ولا يتحكم بها أحد ما خلا المساهمين.

ولعل أول وأقدم تجل من تجليات هذا الجبروت هو ذاك الذي يمارس على الاستخدام والحماية الاجتماعية المرتبطة به، بينها مستوى الأجور وشروط العمل والعطل والحرية النقابية.

هنا التساؤل كم من المدن أو من المناطق أو من الأقاليم تجد نفسها تحت رحمة نقل صناعة وترحيلها أو إقفال موقع؟ هذه السلطة لم تعد تمارس على مستوى قاري فحسب، بل على مستوى الكرة الأرضية كلها أيضاً.

من ميليشيات "فاغنر" إلى الحوثي

تتجاوز الفواعل غير الحكومية إطار العمل المدني والسياسي، إلى حيز السياقات العسكرية وجماعات العنف الميليشياوي، ولنا في الحاضر القريب مثالان يؤكدان ما يمكن أن تفعله مثل تلك الحاضنات في السياقين الإقليمي والدولي على حد سواء.

المثال الأول في هذه القراءة موصول بجماعة "فاغنر" الروسية، تلك التي نشأت على يد يفغيني بريغوجين، طباخ بوتين، التي استخدمت لتحقيق أهداف عسكرية بصورة غير رسمية، وإن جاءت لتصب في صالح الكرملين في كل الأحوال.

 قدمت "فاغنر" خدماتها لكل من وزارة الخارجية ووزارة الدفاع الروسية، وتحركت في شتى بقاع الأرض لتحقيق أوامر القيصر، وقامت فكرتها الرئيس على صيانة الأهداف الاستراتيجية الروسية، وإن بطريقة غير مباشرة.

 

 لم تكن "فاغنر" مجرد جماعة عنف مسلح عشوائي، بل بدت أقرب ما تكون إلى الجيوش النظامية فقد امتلكت مهارات عالية تفتقر إليها بعض جيوش الدول الاعتيادية، واتسمت بقدرتها على التخفي بين المدنيين وكلفتها المادية المنخفضة مقارنة بالجيوش النظامية، إضافة إلى توفيرها الوقاية من التبعات السياسية والقانونية للدولة التي تملكها.

 استطاعت "فاغنر" أن تلعب دوراً مؤثراً وفاعلاً خلال الحرب الروسية - الأوكرانية، هذا على الداخل الجغرافي الروسي، واعتبرت بذلك ذراعاً عسكرية روسية في الداخل يرفع عن كاهل بوتين تبعات العمليات العسكرية التي تقع تحت طائلة جرائم الحرب.

 ولعل كثراً لا يعلمون أن بريغوجين لم يكن أول مؤسس حقيقي وفاعل لـ"فاغنر"، بل ديمتري أوتكين، العقيد السابق في القوات الخاصة بالجيش الروسي والمحارب القديم في الشيشان، وقد قاتل بالفعل في شرق أوكرانيا إلى جانب المتمردين الانفصاليين.

تجاوز دور "فاغنر" الحدود الجغرافية لروسيا، فخرج إلى أفريقيا ليلعب دوراً مثيراً ضمن سياق لعبة الشطرنج الإدراكية بين روسيا وأميركا والصين في القارة السمراء.

 وعلى رغم وفاة بريغوجين المثيرة، التي توضح أصابع القيصر الطويلة، فإن جماعته لم تمت ولم يتوقف عملها من بعده، فقط تغير الاسم إلى "الفيلق الروسي"، الذي بدأ مباشرة عمله في ليبيا وعدد من دول أفريقيا.

 

 ما ينطبق على "فاغنر" يمكن كذلك أن ينسحب على ميليشيات الحوثي، تلك الجماعة التي تجمع بين الإطارين الدوغمائي من ناحية والأيديولوجي من أخرى.

 ليس سراً القول إن الحوثي جماعة ميليشياوية ذات خلفية عقدية ترتبط بالجمهورية الإسلامية الإيرانية.

هنا يمكن القطع بأن إيران نجحت نجاحاً باهراً في تحويلها إلى مخلب قط في خاصرة منطقة الخليج العربي والبحر الأحمر.

 تحولت هذه الجماعة غير الحكومية إلى رقم صعب في المعادلة الدولية الأممية، لا سيما بعد تهديداتها المباشرة للملاحة في منطقة البحر الأحمر.

 تبدو جماعة الحوثي اليوم معضلة للولايات المتحدة بنوع خاص، ذلك أن واشنطن وإن وجهت لها بعض الضربات الجوية الخاطفة خلال الشهر الماضي، إلا أن المراقبين الدوليين العسكريين يقطعون بأنها لم تزد على "دوي من غير صوت، من بندقية فارغة"، ولهذا جاءت خسائر الجماعة شبه منعدمة.

 هل يعني ذلك أن واشنطن مالئة الدنيا وشاغلة الناس غير قادرة على مواجهة الحوثيين سكان الجحور والمغائر وشقوق الأرض؟

 بالقطع يمكن لواشنطن بأسلحتها الظاهرة والخفية أن تمحو هذه الجماعة من فوق سطح الكرة الأرضية لو شاءت، لكن إدارة بايدن التي رفعت في بداية عهدها اسم الحوثيين من قوائم الإرهاب لا تود في الوقت الراهن أن تتورط في حرب واسعة النطاق مع إيران.

هل يعني ذلك أن هذه الجماعة الميليشياوية أرغمت واشنطن على تعديل مساراتها السياسية والعسكرية؟

 غالب الظن أنها نجحت في هذا السياق بفعل أمر مهم للغاية وله جذوره التاريخية، والمحدثة في الوقت ذاته... ماذا عن ذلك؟

هل هناك شبكات دولية تمثل فواعل نافذة بشكل غير اعتيادي منذ القديم إلى الحديث؟

 مؤكد أن ذلك كذلك، وهو ما يستفيض في شرحه المؤرخ الأميركي الجنسية الاسكتلندي الأصل نيل فيرجسون، في مؤلفه الشهير "الساحة والبرج"، الذي يتناول فيه تاريخ الشبكات والسلطة من الماسونيين الأحرار إلى "فيسبوك".

هناك أمثلة تحضر إلى الذهن حول الشبكات الدولية التي ظلت خارج إطار الدول على نحو غالب، والتي كان تدخلها مبكراً وسابقاً لأوانه، ولكنه كان حاسماً أحياناً.

 نورد من هذه ومن دون ترتيب حركات الدفاع عن الحيوانات لا سيما المنزلية منها، التي ظهرت مجدداً في إنجلترا، وشبكة الجمعيات الكاثوليكية التي كانت في أساس تكوين التيار الديمقراطي في أوروبا الغربية والجنوبية وصولاً إلى أميركا الأنديز، والشبكة البروتستانتية لروابط مكافحة الكحول، التي هي في أصل الحركة العمالية الإسكندنافية، أو الشبكات الموغلة في القدم والمناهضة لعقوبة الإعدام.

في هذا الإطار يقطع الأستاذ الفخري في معهد العلوم السياسية في باريس البروفيسور غي هيرميه، بأن هذه الشبكات الدولية في أحوالها كافة غائيات متعددة، وذلك بغض النظر عما إذا كانت، أي الشبكات، مؤتلفة مع فاعلي الدول وفعالياتها، أو كانت "منعتقة نسبياً من السيادة"، أي متمردة على الخضوع لدولة أو لعديد من الدول.

 

ولعل مما يزيد من الحيرة حول أهداف الفواعل غير الدولية في إطار الشبكات ضبابية الحدود بين الأهداف المعلنة للفاعلين في تلك الشبكات، ومشتقاتها وامتداداتها المتزايدة، التي تقودها وتفضي بها إلى التحول إلى فاعلين متعددي الوظائف يتقاسمون هم أيضاً سمات أقرب إلى أن تكون سمات دول.

ولعل من بين تلك الشبكات ذلك التنظيم المعلن والخفي في الوقت ذاته والمعروف باسم "منظمة بيلدربيرغ"، الذي تحكى من حوله الأساطير.

منذ عام 1954 يجتمع نحو 100 شخصية أو أزيد قليلاً من أكثر الشخصيات البارزة في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، بشكل سري للغاية، وتحت حماية مكثفة لمدة ثلاثة أيام، في لقاء لا تتسرب أي من أخباره إلى الميديا العالمية بحال من الأحوال.

أعضاء الجماعة باتوا يعرفون بـ"جماعة بيلدربيرغ"، وهم من الشخصيات النافذة ورجالات النخبة والصفوة من سياسيين ومفكرين، رجال أعمال واقتصاديين، صيارفة وعلماء.

يتناول الكاتب الفرنسي المثير للجدل تيري ميسان مهمة "مجموعة بيلدربيرغ"، فيصفها بأنها من إنشاء منظمة حلف شمال الأطلسي، وهدفها الرئيس والتخطيط للتلاعب بالرأي العام حول العالم، ليؤمن بما تقدمه الجماعة من أفكار تخدم بطرق غير مباشرة أهداف ومدركات حلف الأطلسي.

وفقاً للائحة التعريف بالمجموعة، فإن الاجتماعات تعقد وفقاً لقاعدة "تشاتام هاوس"، التي تنص على أنه يحق للمشاركين استخدام المعلومات الواردة خلال الاجتماع، لكن لا يجوز الكشف عن هوية أو انتماء المتحدثين، أو أي شخص آخر من المشاركين.

هل يمكن اعتبار "بيلدربيرغ"، على هذا الأساس أحد أهم الجماعات اللادولتية؟

تحمل جماعة "بليدربيرغ" علامات تحملنا على القول بعلاقتها بحركة حكومة العالم الخفية، ولهذا نجد الكاتب الصحافي أندرو ميللر من مجلة "ذي ترمبيت" يصرح بأنه نظراً إلى السرية التامة التي يحيط بها أعضاء الجماعة اجتماعاتهم، أضحى شائعاً أن "بيلدربيرغ" امتداد عصراني من مجموعات كثيراً ما سمع بها البشر من نوعية الماسونيين والمتنورين، وصولاً إلى عصابات أسستها الملكة البابلية سميراميس.

الذين يشاركون في أعمال لقاءات "بيلدربيرغ"، وهو اسم أول فندق عقد فيه أول لقاء في هولندا عام 1954، يشاركون كأفراد وليس بصفاتهم الرسمية، من ثم ليسوا ملزمين باتفاقات أو مناصب، مما يقطع بأنهم بالفعل جماعة فاعلة بعيداً من السياقات الحكومية الأممية القائمة حول العالم بحسب النظام الويستفالي الذي يبدو تفككه واضحاً وقريباً جداً.

من كارلوس الحلو إلى مردوخ وجونسون

هل من أمثلة حية على رجالات أفراد من أصحاب المليارات يمثلون فواعل غير دولية ويؤثرون في مسافات العالم ومساراته؟

 في مؤلفه "الطغمة الحاكمة" يعطينا المؤلف ديفيد ج روثبكوف، عالم السياسة والصحافي، عدة أمثله على الفواعل الأفراد حول العالم، وفي مقدمهم كارلوس سليم الحلو، أحد أثرى الرجال على وجه الأرض بثروة تفوق 67 مليار دولار، الذي يسيطر على 94 في المئة من خطوط الهاتف الأرضي في المكسيك وعلى 70 في المئة من سوق الإنترنت السريعة في البلاد من خلال الشركات التي يملكها.

 بين عامي 2006 و2007 ازدادت ثروته بمقدار 19 مليار دولار أو بمعدل 2.2 مليون دولار في الساعة، وفي عام 2007 باتت توازي نحو ثمانية في المئة من الناتج القومي المحلي في المكسيك. من خلال شركاته مارس سلطة احتكارية فاعلة ونفوذاً سياسياً كبيراً بهدف رفع الأسعار.

 أما روبرت ميردوخ فسيطر على وسائل الإعلام التي تصل إلى مئات الملايين من الناس حول العالم.

فيما إدوارد سي نيد جونسون الذي شغل منصب مدير التنفيذي لشركة "فيديلتي" الاستثمارية، وهي أكبر شركة مستثمرة للأسهم في العالم ومسؤولة عن 24 في المئة من السوق العالمية للمشاريع التقاعدية وعن أكثر من 12 في المئة من سوق الأسهم في العالم. وتدير أكثر من 3 تريليونات دولار في أصول مالية. ومن ناحية النفوذ، تسيطر "فيديلتي" على 10 في المئة في الأقل من الحصص في أكثر من 100 من كبريات شركات الولايات المتحدة.

والمثير بحسب هذا الكتاب أن الفواعل هنا لا تتوقف عند حدود المثلث الرأسمالي التقليدي "الولايات المتحدة وأوروبا واليابان"، بل تمتد إلى القطب الصاعد الصين.

إذ تسيطر "وو زياو لينغ" على المال الاحتياط الأجنبي في مصرف الصين الاشتراكي وتصل قيمة هذا الاحتياط إلى أكثر من 1.4 تريليون دولار.

 وربما لم يقدر لروثكبوف أن يتوقف عند أبطال لمع نجمهم لاحقاً من أمثال مارك زوكربيرغ وإيلون ماسك وجيف بيزوس.

هل من خلاصة؟

 قد نكون بالفعل على عتبات نهاية العالم الويستفالي وصعود الفواعل غير الدولتية، مما يعني أن نظاماً عالمياً جديداً حاكماً في الطريق.

المزيد من تحقيقات ومطولات