Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هيلينا فايغل تمنع عرض الفيلم الذي أنصف تراث بريخت المسرحي

"بعل" شلوندورف أطلق الفورة السينمائية وشغف فاسبندر بالفن السابع الاستفزازي

فاسبندر في مشهد من "بعل" لفولكر شلوندورف (غيتي)

ملخص

نظرة إلى أفلام فاسبندر ستكشف لنا كم أنه كان بريختياً بامتياز

من بين الحكايات العديدة التي تحكى عن العلاقة الملتبسة التي قامت دائماً بين السينما والكاتب المسرحي الألماني الكبير برتولد بريخت حكاية لعل أغرب ما فيها كونها تتعلق بما يمكن اعتباره اليوم أفضل فيلم حقق عن عمل مسرحي لبريخت، ونعني به فيلم "بعل" الذي حققه فولكر شلوندورف حين كان لا يزال يعمل لصالح التلفزيون، ولم يكن قد صار بعد، ذلك السينمائي الذي سيقال كالعادة إن بداياته كانت أفضل كثيراً مما تلاها في عمله. ولا ننسى هنا أن ذاك الذي عرفته شوارع بيروت وأزقتها في بداية حرب لبنان الأهلية حين أتى عند المرحلة الفاصلة بين السبعينيات والثمانينيات ليحقق فيلمه "المزيف" الذي ربما يصح اعتباره مع فيلم "نهلة" للسينمائي الجزائري فاروق بلوفة واحداً من أفضل الأفلام التي حققها غير اللبنانيين عن تلك الحرب. غير أن شلوندورف كان حين صور "المزيف" في لبنان واحداً من السينمائيين الألمان الكبار الذين حققوا في ذلك الحين نهضة سينمائية كبيرة في بلادهم، وكان من بينهم فيم فندرز وفاسبندر وهرتزغ، الذي لا بد من التذكير بأن الناقد البحريني أمين صالح وضع، في العربية، واحداً من أفضل الكتب التي صدرت عنه، غير أن هذا ليس موضوعنا هنا.

 

لولا منع عرضه

موضوعنا هو فيلم "بعل" الذي لولا منع عرضه عند إنجازه في عام 1969، لكان من الإنصاف للنقد أن يعده من أفضل التجارب السينمائية التي انطلقت من عمل لبريخت، على رغم أن ذلك العمل ينطلق من واحدة من مسرحيات المرحلة الأولى من نتاجات ذلك الذي سيصبح لاحقاً مسرحي القرن الـ20 بامتياز، وسيموت وقد استبدت به حسرة أنه لم يتمكن من غزو السينما على رغم تجارب عديدة خاضها في هذا المجال. ومع ذلك، كان منع الفيلم بقرار اتخذته فنانة المسرح الألماني الكبيرة هيلينا فايغل، ليس تماماً بصفتها فنانة ولا حتى وريثة الكاتب الكبير في إدارة فرقتهما برلينر إينسامبل، بل بصفتها أرملته الأمينة على تراثه، والتي ما إن شاهدت الفيلم في عرض خاص حتى صرخت، "هل تعتقدون أن كل من ارتدى سترة جلدية سوداء ووضع في طرف فمه بقية سيجارة غبية، يحق له أن يعتبر نفسه برتولد بريخت؟".

والحقيقة أن هذه الصرخة الغاضبة كانت كافية لإحالة الفيلم إلى وهدة النسيان وليس فقط في ألمانيا الشرقية التي تعد بريخت عادة صرحاً قومياً، بل حتى في ألمانيا الغربية التي أنتجت الفيلم. والسبب بسيط: كان الفيلم من إنتاج التلفزيون الألماني الغربي الرسمي، وكانت ثمة أعراف متداولة "تمنع تعدي إحدى الألمانيتين على حقوق الأخرى"، وكان تراث بريخت جزءاً من حقوق برلين.

غياب طويل

ومن هنا، غاب الفيلم بعد ذلك طوال ما يقارب ثلث قرن ليعود إلى الظهور عند بدايات قرننا الجديد فيثير تعجباً وإعجاباً: تعجباً لأن معظم الذين شاهدوه لم يستسيغوا المصير الذي كان لعمل قدم كاتبه على الشاشة (ولو الصغيرة في حالتنا هنا) بأفضل مما قدمه أي عمل مصور آخر وليس فقط ككاتب، بل كذلك انطلاقاً من لغة ذاتية، إذ إن الفيلم قد أمعن في تقديم شخصية بطله الشاعر بعل بوصفه الأنا - الآخر لبريخت نفسه، والذي بدا في هذا النص كما سيفعل، وإنما بصورة أقل في مسرحيتين تاليتين له، هما "في أدغال المدن" و"طبول في الليل"، مؤسساً لتلك الأنا المضخمة التي ستطغى لاحقاً على حياته وسلوكه، ولكن بالكاد تلوح من خلال شخصيات مسرحه. ففي نهاية الأمر نعرف أن شلوندورف، وفي السيناريو الذي كتبه حينها شراكة مع رفيقته مرغريتا فون تروتا، أبرز تلك الناحية الذاتية من خلال رسمه السينمائي، وسنشرح بعد سطور استخدامنا هذه الصفة على رغم تلفزيونية الفيلم لشخصية "بعل".

تفسير منطقي ولكن...

ففي النهاية، لئن كان هذا التفسير للشخصية من منطلق التصاقها بالكاتب ذاته الذي كان في عام 1918، يوم كتابة مسرحيته الأولى تلك، لا يزال شاباً استفزازياً بوهيمياً، بل حتى فوضوياً، هو التفسير المنطقي المتفق عليه اليوم، فإنه كان طوال العقود اللاحقة من مسار بريخت وحياته، مسكوتاً عنه بالنظر إلى أن الكاتب كان يعتبر "شاعر البروليتاريا" و"مسرحي الثورة" الأول، بالتالي يجب السكوت عن بوهيميته! المهم هنا هو أن كشف الستار عن الفيلم بعد زوال تلك الموانع كلها، أعطى للفيلم قيمة جديدة، بل حتى قيمة مختلفة تماماً، وذلك بالتحديد لأنه مكن المتابعين من سبر أمرين كان من النادر تلمسهما في الظروف السابقة، أولهما يتعلق بلغة شلوندورف السينمائية الكامنة وراء ذلك الفيلم التلفزيوني هنا، ففي سنوات نهاية الستينيات حين كانت السينما الألمانية الجديدة تعيش بداية بداياتها، كانت تلفزتها لا تزال مرفوضة، ولم يكن ثمة بعد تمازج بين الوسيلتين الإبداعيتين، ومن هنا كان من النادر أن يعتبر عمل صنع للتلفزيون، ذا قيمة فنية حقيقية تؤهله لاحتلال مكانة تأسيسية في مسار مبدعه، وبخاصة إن كان قد أصبح فناناً سينمائياً مرموقاً. وفي الأزمنة الأكثر جدة، بات هذا الأمر وارداً، بل يفتح المجال لإعادة الاعتبار في المسار الإجمالي لفنان من الفنانين: هو شلوندورف في حالة "بعل".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بداية سينمائية

وفي هذا السياق لن يكون غريباً أن يتمكن هذا الفيلم بالتحديد أن يعد نوعاً من بداية سينمائية حقيقية لمخرجه وفي ركابه ربما رفيقته فون تروتا، بعد أن كان ينظر إليه وكأنه يشغل مرتبة أدنى في تراتبية مخرجي الصف الأول في "الفورة الألمانية". ومن هنا تجاوزت أهمية استعادة هذا الفيلم وتاريخه تلك الأهمية البريختية الخالصة التي كانت له وبررت بها فايغل إصرارها على إخفاء الفيلم! هذا بالنسبة إلى أول الأمرين، أما الثاني فيتعلق بفاسبندر نفسه. ففي وقت حقق فيه شلوندورف هذا الفيلم جاعلاً البطولة فيه لفاسبندر في الدور المزدوج "بعل - بريخت"، لم يكن فاسبندر معروفاً بعد، بل إن هيلينا فايغل رفضت أول ما رفضت أداءه لدور زوجها الكبير الراحل. وإن كنا لا نعرف ماذا كان رأيه في كلام فايغل هو الذي كان بعد في الـ24 حين مثل الدور إلى جانب فون تروتا نفسها، وإلى جانب هانا شيغوليا كذلك، لكننا نعرف أنه انطلق بالتحديد من ذلك الفيلم في شغفه الثلاثي: بريخت والسينما والإخراج نفسه.

درس في المرونة الإبداعية

فالحقيقة أن نظرة إلى أفلام فاسبندر التي يقرب عددها من 35 فيلماً، وسيعد معظمها علامات أساس في تاريخ السينما العالمية الجدية خلال الربع الأخير من القرن الـ20 ستكشف لنا كم أن فاسبندر، وحتى انتحاره العبثي في صيف عام 1982، كان بريختياً بامتياز، إن لم يكن في اختياراته السياسية، ففي اختياره مواضيعه وأشكاله السينمائية و"واقعيته الشعرية أحياناً"، وهي الواقعية التي تسم حقاً "بعل"، وربما المرحلة الأولى من نتاجات بريخت الكتابية بما في ذلك تعاليمه التي كانت هي ما مهد لتحليله "الماركسي" للتاريخ ولـ"أزمات الإنسان المعاصر".

ومن هنا لا مفر من أن ننظر اليوم إلى سينما فاسبندر، كمخرج وكاتب للسيناريو بوصفها قد تأسست انطلاقاً من الشغف الذي أدى به دوره كبريخت و"بعل" في الوقت نفسه، في فيلم يمكننا في نهاية المطاف أن نعيد إليه، الفضل في تأسيس سينمائية فاسبندر بقدر ما نربط به إعادة اعتبار بريخت نفسه ككاتب سينمائي فات السينما أن تعرف كيف تكشف عن ذلك البعد السينمائي في إبداعاته، حتى قيض له سينمائي في وزن شلوندورف عرف كيف يشتغل على تلك السينمائية، ولو تحت ظل التلفزة التي لا شك أنه بات من الصعب عليها اليوم أن تنفصل عن السينما وليس فقط، بالطبع، بفضل انفتاح التلفزة على ذلك الوسيط الذي كانته ولا تزاله السينما، بل بفضل مبدعين سينمائيين باتوا يعرفون جيداً، ولكن فقط بعد رحيل برتولد بريخت، أن الوسيط الإبداعي الذي يشتغلون عليه هو من المرونة إذ جعل من البديهي اللقاء، بل التمازج بينه وبين التلفزيون الذي لا شك أن أهم درس تعلمه من السينما كان تلك المرونة نفسها، أو هذا في الأقل ما مكن شلوندورف من أن يكون في "بعل" واحداً من كبار المبادرين!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة