ملخص
تأخرت 20 عاماً وأكثر عن موعدها الطبيعي وجرت وقائع حكاية الغراك فيما كان الكاتب العجوز يعجز عن إنجاز "أنطيغونا"
في ذلك الحين بدت كل الضربات ملائمة لخوض معارك أيديولوجية، كان الزمن قد عفا عنها على أية حال. فالستالينية كانت قد انتهت منذ زمن بعيد وما كان يسمى بـ"المعسكر الاشتراكي" لم يعد له وجود جدي. وحتى العصر الليببرالي الذي ولد بشكل أو آخر لمناهضة الستالينية ومعسكرها ذاك، بات من نوع لزوم ما لا يلزم. فالأعداء تبدلوا و"المنشقون" لم يعودوا منشقين، هذا إن كانت لا تزال لهم ضرورة لدى من شقهم حقاً. أما بريخت فكانت سمعته قد ترسخت بوصفه واحداً من كبار المسرحيين في العالم، لا سيما في القرن العشرين، بصرف النظر عن مواقفه الأيديولوجية وعما إذا كانت مخطئة أو مصيبة. بل إن تاريخ الرجل نفسه كان قد أراح الباحثين من عبء استمرارهم في التنقيب عن ذلك. ومع هذا ظل ثمة من يحن إلى أزمنة الحرب الباردة، لا سيما في الحلقات الثقافية في فرنسا، حيث كان لا يزال مزعجاً لكثر من أصحاب ذلك الحنين القبول بترسخ مكانة مبدع "أوبرا القروش الثلاثة" و""دائرة الطباشير القوقازية". ومع هذا كان في رأيهم أن الحرب التي كانت قائمة ضده في أوساط اليمين الفرنسي والأوساط اليمينية المتطرفة في أوروبا كلها، لم تعد مجدية ولا يمكنها أن تنقص من قيمته شيئاً. ومن هنا لئن كان الواقع قد بات ثابتاً ولا يمكن تبديله علمياً، لم لا يصار إلى ذلك باللجوء إلى التخييل الروائي؟ وفي هذا الإطار راحت تكتب وتنشر روايات مبتكرة تحاول من ناحية الحط من شأنه بالتركيز على ستالينية مزعومة لديه، ومن جهة أخرى تخترع له حكايات لا أخلاقية من النوع الذي قد يلطخ سمعته. وفي هذا الإطار ظهرت في باريس في عام 2003 "رواية" بعنوان "عشيقة بريخت" للكاتب جاك – بيار آميت كان من سوء حظ هذا الأخير أنها لم تلفت الأنظار...على رغم حبكتها الجيدة وعلى رغم أنها تتعلق بـ"أسرار مفترضة" حول حياة بريخت.
تنويع على الفضائح
فهل كان هذا الكتاب رواية حقيقية أم مجرد تنويع على سلسلة "فضائح" تراكمت في ذلك الحين متحلقة حول بريخت لنسفه ونسف سمعته؟ قال الكاتب إنها رواية لا أكثر. لكن كثراً رأوا فيها سلاحاً في معركة وهمية لا تزال تخاض على رغم كل شيء من حول المسرحي الكبير ومن خلاله من حول ما كان يسمى سابقاً بألمانيا الشرقية (الشيوعية – الستالينية بالتأكيد)، تحاول أن تستفيد من رواج إبداعات مدهشة وصادقة (مثل الفيلمين البديعين والعميقين، "وداعاً لينين" و"حياة الآخرين")، راحت تتناول الماضي القريب لذلك البلد الذي منذ عاد إليه بريخت من منفاه الأميركي واختاره مقراً لسكناه ونشاطه، اتخذ قيمة فكرية لا شك فيها. قيمة كان لا بد من تحطيمها على رغم أن البلد نفسه لم يعد موجوداً عند صدور "عشيقة بريخت"!. المهم أصدر الكاتب الفرنسي روايته وسط لامبالاة تامة فقرأتها قلة من الناس قبل أن تغيب في النسيان ويبقى بريخت ومكانته صامدين. بل إن الرواية عززت على عكس مما كانت تسعى إليه، ولو على نطاق ضيق، الفكرة التي تستند إلى المثل القائل: لا تقدم القروض إلا لمن لا يحتاجون إليها. إذ إن الردود القليلة التي تصدت للرواية التي حاولت الصحافة اليمينية الترويج لها بقوة على اعتبارها "ضربة نهائية وقوية" توجه إلى ما تبقى من بريخت، أعادت إلى الأذهان أن هذا الأخير لئن كان شيوعياً بشكل عام، فإن شيوعيته لم تبرز من خلال مسرحه إلا عبر نظريات سرعان ما كانت تتهاوى. وإنه كان فوضوياً أكثر كثيراً مما كان شيوعياً. وإنه أبداً لم يسكت عن جرائم ستالين ونظامه الدكتاتوري...
فائدة مواربة
المهم أن بريخت أفاد من تلك الرواية ولو على نطاقها الضيق بأكثر مما تضرر، أما "ألمانيا الشرقية" فلم تتنبه إليها لأنها أصلاً لم تعد موجودة! وفي المقابل عوملت الرواية على رغم جمالها الشكلي وحسن كتابتها بوصفها "بروباغندا سياسية" تأخرت عن موعدها. فعم تتحدث هذه الرواية بالتالي؟ عن عشيقة مفترضة للكاتب المسرحي الكبير تسللت إلى حياة بريخت بعد عودته من منفاه الأميركي ما إن انتهت الحرب العالمية الثانية لتصبح عشيقته. وهذا في ظاهر الأمور، أما في حقيقتها، وكما يفترض آميت، فإن هذه الفتاة الصبية وتدعى ماريا، لم تدخل حياة بريخت طواعية بل لأن المخابرات الألمانية ("الستاسي" الرهيبة وذات السمعة السيئة والتي تبدو منسية اليوم) هي التي طلبت منها ذلك من طريق المدعو هانز، عميل ذلك الجهاز الذي لم يكن يحمل ذلك الاسم "الرهيب بعد"، كي يتمكن الجهاز عبرها من مراقبة المسرحي ومعرفة حقيقته ولحساب من يعمل؟ وكانت ماريا حسناء فاتنة وممثلة مسرحية موهوبة تعرف كثيراً عن فن بريخت وتفضل أن تكون بالتالي قريبة منه وتستفيد من شخصيته ومكانته. فاستجابت لطلب هانز هي التي كان أبوها نازياً وزوجها نازياً بدوره ولها طفلة صغيرة ما يوحي للكاتب الكبير بقدر لا بأس به من البراءة. وهكذا قامت علاقة سياسية – عاطفية – فنية بين بريخت وماريا كان فيها طرف ثالث هو هانز طبعاً. أما موضوع العلاقة فكانت رغبة ماريا في أن تلعب دور أنطيغونا في مسرحية جديدة يكتبها بريخت، و"يسعى" هانز "صديق الثنائي النافذ" إلى تسهيل شؤون إنتاجها.
علاقة مثلثة
غير أن الذي يحدث هنا هو أن فرانز نفسه يقع رغماً عنه في غرام ماريا ويعدها بمكافأتها على عملها بجائزة لم تكن لتحلم بها: تمكينها من العبور إلى الغرب من طريق البرتغال. والحقيقة أن هذا الجانب من الحكاية موثق تاريخياً بالنظر إلى أن بريخت وبالفعل حين كتابته "أنطيغون" كان يكتب الدور لممثلة شابة بالغة الطموح. وقد تكون الأمور بالنسبة إلى بريخت قد توقفت هنا. غير أن الروائي الفرنسي راح يوسع من لجوئه إلى الخيال، ليحول ذلك كله إلى رواية يستعمل في بنائها فصلاً بعد فصل كل ما يمكن تجميعه من "حكايات" و"فضائح" تجمعت من حول الحياة الشخصية لبريخت و"ولعه بالشابات" في غفلة غالباً عن امرأته هيلينا فايغل، التي كان يكوّن معها فرقتهما الشهيرة "البرلينر إنسامبل" التي طبعت المسرح الألماني والمسرح العالمي بطابعها بعد الحرب. ولئن كان الواقع التاريخي يفيدنا بأن "العلاقة" بين بريخت وماريا اقتصرت على تبادل الحديث والوعود الفنية تحت سمع هيلينا وبصرها، فإن آميت بدل الكثير ليجعل روايته المتخذة على أية حال طابعاً "توثيقياً"، تشكل محضر اتهام أخلاقي ضد الكاتب الكبير، ولتصور إلى أي حد كانت فيه بيروقراطية الدولة تتدخل في الحياة اليومية للناس. ويقيناً أن هذا كان صحيحاً كما يشهد على ذلك فيلم "حياة الآخرين" الدامغ، لكن الأمور لم تكن على مثل تلك البساطة بالنسبة إلى بريخت الذي تصوره الرواية لعوباً يمكن لممثلة شابة أن تتلاعب به وتغض زوجته النظر عن سذاجته العاطفية. لقد كان من الواضح أن الروائي الفرنسي يعتبر أنه في هذه الرواية قد أصاب من بريخت مقتلاً. بخاصة أن روايته التي من الواضح أنها كتبت على عجل، إنما كتبت لتستفيد من ضجيج كان قد قام قبل فترة تسببت به صبية ألمانية أخرى عملت سكرتيرة لبريخت وزعمت أنها هي التي ابتكرت مواضيع "بل معظم حوارات عدد من مسرحياته الأكثر شهرة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
سنوات تأخير طويلة
والحال أن آميت كان من شأنه أن ينجح في مشروعه "التشهيري" لو أنه أصدر روايته هذه قبل صدورها بعقدين. فأسلوبها التوثيقي الخالي من أية زينة تنميقية توحي بالابتكار التخييلي المفتعل، جعلها تبدو وكأنها تروي واقعاً تاريخياً. ومن هنا لو أنها كتبت قبل كتابتها لما بدت وكأنها تركب موجة تريد الاستفادة الترويجية، بل حتى الأيديولوجية من ركوبها. لكنها إذ صدرت في موعدها المتأخر فقدت جدتها وطرافتها وبدت كأنها عمل أدبي يضع موهبة كاتب قدير ومتمرس في خدمة استراتيجية تقف خارج الزمن. وتشتغل ضد الزمن!