Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الصوم حتى الموت... طقوس غريبة لرهبان الهند

تثير تلك الممارسات انقساماً عمودياً في الآراء بين مختلف مكونات الشعب

شهدت مراسم جنازة أشاريا فيديا ساغارمهراج مشاركة المئات من أتباعه وعشاقه في مدينة دونغراغر وسط الهند (مواقع التواصل)

ملخص

وفق إحصاءات حديثة، بلغ عدد حالات الانتحار في الهند خلال عام 2022 حوالى 164033 شخصاً

توفي الراهب الجايني البارز، أشاريا فيديا ساغارمهراج، في الـ18 من فبراير (شباط) الجاري في الهند عن عمر يناهز 77 سنة ولم تكن وفاته ناتجة من أسباب طبيعية، بل اختار الراهب أن ينهي حياته بالصوم حتى الموت، وعلى رغم علم الحكومة الهندية بقيام الراهب بالصوم لإنهاء الحياة عمداً ووجود قوانين صارمة ضد الانتحار، ابتعدت من اتخاذ أي إجراء. 

وشهدت مراسم الجنازة مشاركة المئات من أتباعه وعشاقه في مدينة دونغراغر وسط الهند.

وشهدنا على القنوات المباشرة، جثة الراهب مربوطة بعمود باستخدام "خيوط مقدسة" تسمى "الكلاوة"، ووضِع جسمه في وضعية الجلوس. حمل أتباعه الجثة على أكتافهم في مشهد حزين تأثر به عدد كبير من المشاركين. وقبل أيام قليلة من وفاته، عندما أعلن الراهب عن قراره بالصوم حتى الموت، كان يظهر بحال صحية جيدة. ولكن مع تقدم فترة الصوم، تأثر جسده بصورة كبيرة، فنزل وزنه وتقلصت عضلاته ودهونه وتغير لون بشرته إلى اللون الأسود.
وشهدت مراسم الجنازة محاولات من أتباع الراهب لمس الحطب الجنائزي بغرض الحصول على البركة، إذ يعتقدون بأن الإله يرافق الجسد. وتم نقل جثمانه إلى مراسم حرق الجثة، وأشعل أتباعه النيران في نعشه بمرافقة هتافات وشعارات دينية، وأدوا الطقوس الأخيرة لوداع الراهب البارز.

"نوع الموت" يحظى بالاحترام

على رغم أن احتضان الموت عن طريق الاختيار قد يثير صدمة في بعض أنحاء العالم، إلا أن الموت في الهند بهذه الطريقة يعتبر جزءاً من التقاليد القديمة في البلاد، ولا يتم فقط قبوله، بل يعامل أيضاً بكل احترام وحب. وصرح بارول جاين الذي يعمل ككاتب في إحدى مؤسسات الطبع والنشر، وينحدر من مجتمع جاين إلى "اندبندنت عربية" بأن "وكالات الأنباء والصحف تنشر مثل هذه الأخبار كل عام عند وفاة أي راهب جايني اختار هذا المسار. وتتعامل الشرطة في هذه الحالات بطريقة خاصة، فلا تتخذ أي إجراءات قانونية، بل تشارك بصورة فاعلة في مواكب الرهبان المتوفين كما لا تصنف وكالات تسجيل الجرائم مثل هذه الوفيات على أنها حالات انتحار".


الدولة تنعي

بعد وفاة الراهب الجايني الشهير، عبّرت شخصيات بارزة في الهند عن تعازيها ونشرت رسائل التعاطف، من دون الإشارة صراحة إلى طبيعة موته.
وفي تغريدة على منصة "إكس"، عبر رئيس الوزراء ناريندرا مودي عن تعازيه في وفاة أشاريا فيديا ساغارمهراج، قائلاً إنها "خسارة لا تعوض"، وأضاف أن "جهود الراحل القيمة لتعزيز اليقظة الروحية بين الناس ستظل خالدة في الأذهان دائماً"، وقال "طوال حياته، ظل ملتزماً بتخفيف حدة الفقر، إضافة إلى تعزيز الصحة والتعليم في المجتمع. ولحسن الحظ، ما زلت أتلقى بركاته. كان لقائي به في معبده في العام الماضي لحظة لا تنسى بالنسبة لي. لقد تلقيت كثيراً من الحب والبركات من أشاريا جي".

" حالات الانتحار لا تُسجَّل على أساس الدين"

وأوضح الكاتب بارول جاين أنه يتم الاحتفاظ بسجلات المواليد والوفيات في الهند على مستوى البلديات، حيث تقوم الحكومة الهندية بتجميع هذه السجلات سنوياً على المستوى الوطني لإنشاء إحصاءات وطنية، فيسجل المكتب الوطني لسجلات الجرائم الوفيات غير الطبيعية والجرائم، وينشر الإحصاءات السنوية. ويصنف المكتب الوفيات غير الطبيعية تحت مؤشرات مختلفة، بما في ذلك الوفاة العرضية والقتل والأنواع الأخرى.

وفق إحصاءات حديثة صادرة عن المكتب، بلغ عدد حالات الانتحار في الهند خلال عام 2022 حوالى 164033 شخصاً. وتباينت أسباب الانتحار، فكانت "المشكلات العائلية" و"المرض" السببين الرئيسين بنسبة 31.7 في المئة و18.4 في المئة على التوالي. وتضمنت الأسباب الأخرى "تعاطي المخدرات والكحول" (6.8 في المئة) و"قضايا الزواج" (4.8 في المئة) و"شؤون الحب الفاشل" (4.5 في المئة) و"الإفلاس والعجز عن تسديد الديون" (4.1 في المئة) و"البطالة" (1.9 في المئة)، في حين لا يتم تسجيل حالات الانتحار على أساس الدين، لذا لا توجد إحصاءات حول الخسائر في الأرواح بسبب الانتحار على أساس الدين.


إحصاءات الوفيات؟

وصرح سانت كومار جي، وهو زعيم ديني بارز في معبد بدلهي إلى "اندبندنت عربية" بأن "كثيراً من الرجال والنساء يختارون بصورة متعمدة مغادرة هذا العالم من خلال امتناعهم عن تناول الطعام وشرب الماء ولكن إحصاءات الوفيات لا تُعرف".
من جهته، قال جاين إنه "لا يوجد سجل رسمي يوثق هذه الوفيات"، مضيفاً أنه وفقاً لتقديراته، "قد تكون هناك ما بين 100 إلى 200 حالة وفاة تتم في هذا السياق"، وأشار إلى أن "بعض الرهبان يختارون بصمت التخلي عن الحياة من خلال ممارسة "السانتارا/ ساليخانا" (الموت الإرادي التدريجي)، ولكن قصصهم غالباً ما تبقى غير معروفة بسبب عدم شهرتهم الواسعة أو لأنهم يعيشون في مدن صغيرة".

وتقول الدكتورة كاتارينا بوجندورف-كاكار، الكاتبة المقيمة في ولاية غوا الهندية، في كتابها إن "هذه الممارسة تُعتبر احتفالاً بالموت، إذ يعدّ الصوم حتى الموت وسيلة لتحرير الروح"، مشيرة إلى أن "هذه الممارسة تجذب احتراماً كبيراً في تقاليد الجاينة". وفي ما يتعلق بانتشار هذه الممارسة في الهند حالياً، لفتت إلى أن "ما بين 200 إلى 600 جايني في الهند يمارسون الصوم حتى الموت سنوياً، وتم توثيق ذلك في مقالات الصحف الهندية والموسوعات وعبر الإنترنت".

"لا يعتبرها الجاين انتحاراً"

في المقابل، أصدر معبد الديانة الجاينية بياناً يفيد بأن "مهراج" كان يقيم في تيرث (مكان ديني) في دونجارجاره (مدينة في ولاية تشهاتيسجاره الهندية) خلال الأشهر الستة الماضية وكان مريضاً في الأيام الأخيرة. وأثناء أيامه الثلاثة الأخيرة، كان ملتزماً بساليخانا، وهي شعيرة صيام طوعي حتى الموت، فيقلل الإنسان تدريجاً من تناول المأكولات والمشروبات حتى يفارق الحياة. ووفقاً للبيان، كان هذا الفعل نذراً للتطهير الروحي. ولا يعتبرها الجاين انتحاراً لأنها ليست محفوفة بالشغف ولا تشمل استخدام السموم أو الأسلحة. يسمح للزهاد الجاينيين وغيرهم من أرباب البيوت بأن ينذروا أنفسهم بنذر الساليخانا. تشير الأدلة التاريخية، بما في ذلك نقوش نيشيدي، إلى أن الساليخانا كانت متاحة للرجال والنساء.

"النذر عند فراش الموت"

وأوضح الكاتب بارول جاين أن "هذه الطقوس تكون شائعة فقط عند الأشخاص الذين يصلون إلى سن معينة أو يعانون أمراضاً مميتة، إذ يفقدون الأمل في الحياة"، مشيراً إلى أنه لم يسمع عن راهب سليم اختار الموت بتلك الطريقة إلا في حالة كان الموت فيها مؤكداً. وأضاف أنه "على رغم أن شخصيات جاين الدينية، مثل الرهبان إضافة إلى الأتباع العاديين، يمكنهم أن يتعهدوا بتولي سانتارا/ ساليخانا، إلا أن ذلك ليس شائعاً جداً. ويقوم بعض الرهبان بتنفيذ هذا النذر عند فراش الموت، ولكن يعتبر ذلك نادراً. في الغالب، يمارس هذا الفعل فقط من قبل الأفراد الذين يكونون في المرحلة الأخيرة من حياتهم، إما بسبب كبر السن أو تعرضهم لأمراض خطرة. ويتم تنفيذ النذر على مراحل، فيتخذون قراراً بتخفيف استهلاك الطعام الصلب تدريجاً، والانتقال إلى الأطعمة السائلة، وأخيراً التخلي عن تناول الماء".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


المعركة القانونية والجدل المستمر

في 2015، أصدرت المحكمة العليا في ولاية راجاستان الواقعة في شمال غربي الهند، قراراً يمنع شعيرة "الساليخانا" واعتبرتها شكلاً من أشكال الانتحار. وفي العام ذاته، رفعت المحكمة العليا الهندية الحظر عن هذه الممارسة الدينية التي يعتبرها بعضهم جزءاً من التقاليد الدينية في مجتمع الجاين. وفي العام التالي، توفيت فتاة تبلغ من العمر 13 سنة في مدينة حيدر أباد، عاصمة إقليم أندرا براديش الواقعة على مفترق الطرق بين شمال الهند وجنوبها، بعد صيام دام 68 يوماً كجزء من طقوس ديانة الجاين. وبعد ذلك في سبتمبر (أيلول) 2018 توفي راهب جاين معروف، يدعى تارون ساجار في دلهي عن عمر يناهز 51 سنة حين كان يعاني مرض اليرقان.
يتميز رهبان الجانتية بالتجرد من الملابس، وكان ساجار من بينهم، ودُعِي إلى إلقاء كلمة من قبل المشرعين في ولاية هاريانا، وألقى خطبته عارياً أمام المشرعين، بمن فيهم النساء.

والأمثلة على اختيار الرهبان الموت بالصيام عدة، وحينما تحدث مثل هذه الوفيات، ينقسم المجتمع الهندي بين من يعتبر ذلك جزءاً من التقاليد والممارسات الدينية، ومن يرى أنه جريمة إنسانية، ويعكس هذا الانقسام بين مؤيدين ومعارضين الجدل المستمر في المجتمع الهندي حول مثل هذه القضايا.

ازدواجية في الهند؟

في سياق متصل، قالت "الناشطة المؤيدة للحياة" نيتراديبا باتيل لـ"اندبندنت عربية" إن "الهند تشهد ازدواجية ساخرة في قضايا الحقوق الإنسانية، إذ يظهر بعضهم تأييدهم لخيارات الرهبان لإنهاء حياتهم، في حين يعارضون حقوق الإجهاض للنساء بحجة أن الحياة ثمينة"، وأشارت إلى أنه "عندما يتعلق الأمر بخيار الموت، يصبح من الصعب إصدار الحكم" وامتنعت عن التعليق المباشر على أحداث وفاة الرهبان بسبب صيامهم، ولكنها دعت الناس إلى "فهم الإنسانية أكثر من التمسك بالتقاليد القديمة".
من ناحية أخرى، انتقد الناشط السياسي تسليم رحماني صمت حكومة حزب "بهاراتيا جاناتا" القومي الهندوسي الحاكم الذي يتزعمه رئيس الوزراء ناريندرا مودي، قائلاً إن "الحكومة لا تزال تصر على تشريع تاريخي يوحّد قوانين الأحوال المدنية بين الأديان. وأقرت ولاية أوتار كاند الواقعة في منطقة جبال الهيمالايا هذا القانون، مما يجعلها أول ولاية في البلاد تتبنى قانوناً مدنياً موحداً ينفَّذ على الهندوس والمسلمين والمسيحيين والأقليات الأخرى، ويحظر على الأقليات اتباع قوانين وأعراف شخصية خاصة بها في مسائل الزواج والطلاق والتبني والميراث".
ويتهم تسليم رحماني الحكومة بتبني "قوانين تتعارض مع عقيدة الأقليات الإسلامية". أما في ما يخص مجتمع جاين، فيلاحظ رحماني أن الحكومة لا ترى مشكلة في ممارسات الموت الرهباني، ويشير إلى أن "مجتمع جاين يدعم حزب بهاراتيا جاناتا، إذ يأتي وزير الداخلية امت شاه من طبقة جاين، مما يثير تساؤلات حول نقص التوازن والتمييز في المعاملة بين المجتمعات الدينية في الهند".


نبذة من الجاين

وتعتبر الديانة الجاينية ديناً مستقلاً عن الهندوسية، نشأت في الهند منذ أكثر من 2500 عام وتعدّ إحدى أقدم الديانات في العالم. هدفها الروحي هو تحقيق التحرر من دورة الميلاد الجديد والوصول إلى حالة المعرفة الشاملة المعروفة باسم "موكشا"، ومن خلال التأكيد على أسلوب الحياة اللاعنفي، تتبع الجاينية تعاليم 24 تيرثانكارا (الآيات الجاينية الشهيرة). 

ويتميز مجتمع الجاين في الهند بمستويات تعليمية عالية وثروة، فيحمل 34 في المئة من أفراده شهادة جامعية في الأقل، مقارنة بنسبة تسعة في المئة في بقية الطوائف الدينية. وتتفق ممارساتهم الغذائية مع مبادئ الـ "أهيمسا" (اللاعنف)، إذ يعتبر 92 في المئة من الجاين نباتيين و67 في المئة منهم يمتنعون عن تناول الخضراوات الجذرية كما يتجنبون أيضاً تناول الأطعمة غير النباتية في المنازل أو المطاعم الأخرى.

وعلى رغم الاختلافات العقائدية، يشترك الجاينة في بعض التشابهات مع الهندوس، وتشير انتماءاتهم السياسية إلى توجه قوي نحو حزب "بهاراتيا جاناتا" (اختصاراً BJP)، إذ يشعر 70 في المئة من الجاينة بأنهم ينتمون بشكل أقوى إلى هذا الحزب، ويمكن أن ينبع هذا التوافق من مشاعر مشتركة حول الدين والهوية الوطنية. (البيانات والمعلومات تم الحصول عليها من قبل مركز أبحاث بيو Pew وهو مؤسسة فكرية أميركية غير حزبية).

المزيد من تحقيقات ومطولات