Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اقتباس فرنسي لـ"سيرانو دي برجيراك" حقق "أعجوبة" فنية غير متوقعة

عندما تغزو اللغة السينمائية لغة المسرح في تحويل فن الحوار إلى إبداع حقيقي للشاشة الكبيرة

مشهد من فيلم "سيرانو دي برجيراك" لرابنو (1990) (موقع الفيلم)

ملخص

عندما تغزو اللغة السينمائية لغة المسرح في تحويل فن الحوار إلى إبداع حقيقي للشاشة الكبيرة

ليس في الفن ما يمكن اعتباره مسلمات. ومن ذلك ما يمكن أن يتحقق على يد أصحاب الفن الحقيقي من إنجازات كانت قد انطلقت من منظور همه الأساس أن يتفادى المجازفات. والحقيقة أنه كلما كان فن ما يشكل أساس عمل إبداعي معين وله مكانته وشعبيته، بدت المجازفات في بداية الأمر أكثر خطورة. وهنا كيلا يبدو ما نقوله أشبه بألغاز الكلمات المتقاطعة، لا مفر من أن نوضح المسألة منذ البداية. وهي تتعلق بما يحدث حين يريد سينمائي ما أن ينقل إلى الشاشة الكبيرة – وربما الصغيرة أيضاً – عملاً مسرحياً له مكانته وجمهوره. ولا سيما إن كان هذا يحدث ضمن إطار سينما فرنسية تبدو على رغم كل شيء شديدة المحافظة، وتريد أن تحقق ذاتها في مناخ سينمائي عرف دائماً بسلوكه درب الثرثرة التي لا تنتهي. في شيء من الاختصار: السينما الفرنسية ثرثارة بطبعها حيث غالباً ما يكون فيلم من أفلامها حوارات لا تنتهي حتى من قبل العناوين وإلى ما بعد كلمة "النهاية". فكيف حين يكون الفيلم مقتبساً عن مسرحية كلاسيكية لها من المكانة والشهرة ما يجعل حواراتها حوارات يحفظها طلاب المدارس الثانوية عن ظهر قلب، ويستخدمون تلك الحوارات حتى في أحاديثهم اليومية ورسائلهم الغرامية؟ ونتحدث هنا عن مسرحية "سيرانو دي برجيراك" للكاتب إدمون روستان (1868 – 1918) التي على رغم أنها ظهرت وقدمت على الخشبة في عام 1897، تبدو دائماً وكأنها تمت بصلة عضوية إلى تاريخ أقدم من ذلك بكثير؟

مسرحية أغرت السينمائيين

لقد اقتبست السينما تلك المسرحية مرات عديدة وتحديداً لأنها تجمع بين حركية تبدو وكأنها صيغت للسينما وحوارات تفوق في ذكائها وعاطفيتها ما قد تحتاج إليه العروض المسرحية. وكثيراً ما كانت الاقتباسات عنها أمينة لبنيانها المسرحي، سواء حققت في فرنسا أو في أميركا. ومن هنا كان الشعور في تلك الاقتباسات بأن المتفرج يحضر نوعاً من المسرح المؤفلم وهو أمر حقق قبولاً في أحيان كثيرة لكنه في أحيان أخرى لم يكن مستساغاً. ولقد ظلت الحال كذلك حتى عام 1990 حين حقق الفرنسيون بأنفسهم فيلماً مقتبساً عن تلك المسرحية مكن النقاد والمتابعين ولا سيما المتخصصون منهم في العلاقة بين المسرح والسينما من أن يقولوا عن صناع الفيلم إنهم تمكنوا أخيراً من تحقيق أعجوبة صغيرة تكمن في تحويل الحكاية وحواراتها وربما للمرة الأولى، إلى عمل سينمائي حقيقي، وتحديداً إلى فيلم بدا معه السيناريو ولغة عماد فيلم حقيقي يصبح الحوار جزءاً من موضوعه وقوته من دون أن تبدو الكاميرا وكأنها تطارده وتنهل منه وجودها. في اختصار أيضاً لم يشعر المتفرجون هنا أنهم في إزاء مسرح مؤفلم كما يحدث غالباً إزاء الاقتباسات السينمائية عن المسرح.

دور استثنائي للسيناريو

والحقيقة أن مزيداً من التحليل لهذا العمل سيكشف عن أن الفضل في ذلك ربما كان ناتجاً جزئياً عن براعة مخرج الفيلم، جان بول رابنو، الذي كان قبل خوضه الإخراج قد اشتهر بكتابته سيناريوهات وصفت بأنها تكاد تكون على النمط الأميركي مثل "زازي في المترو" و"الحياة الخاصة" و"رجل من ريو"، وهي في معظمها أفلام تعتمد الحركة والتوغل في الشخصيات عبر تصويرها في التفاصيل بأكثر من الإصغاء إلى ما تقول. وذلكم هو ما يميز عادة السينما الأميركية الأكثر جدية. ومع ذلك كان لا بد للنقاد أن يتوجهوا باهتمامهم في ما يخص بالتحديد أفلمة "سيرانو دي برجيراك" ناحية أخرى لا يمكن عزوها إلى كون رابنو في الأصل كاتب سيناريو. حتى وإن كانت شهرته قد قامت على عمله ككاتب من هذا النوع. فإذا كان صحيحاً أن جزءاً كبيراً من العمل السيناريستي هنا كان من إنجاز رابنو نفسه، فإن المهمة الأساس هنا في هذا الفيلم كانت في الحقيقة من إنجاز مشاركه في كتابة السيناريو، جان كلود كاريير الذي كان في ذلك الزمن من كبار الكتاب السينمائيين في فرنسا وأوروبا. وعلى رغم أن كاريير كان في الأصل ذا تكوين مسرحي، فإنه عرف تماماً كيف يكون كاتباً سينمائياً كبيراً، ولا سيما في أفلام قليلة الحوار كأفلام لويس بونيول في المرحلة الفرنسية الأخيرة من حياة وعمل هذا السينمائي الكبير الذي بدأ سيريالياً في الثلاثينيات لينتهي فوضوياً عبثياً عند بدايات الربع الأخير من القرن الـ20. فالحقيقة أن الميزات التي جعلت من كاريير كبيراً من كبار كتاب السينما في العالم، بدت واضحة تماماً في ذلك الاقتباس السينمائي الجديد لمسرحية إدمون روستان، حتى وإن كانت تقنيات كتابة رابنو حاضرة أيضاً. ففي النهاية بدا واضحاً أن حرفية رابنو ومهارته و... أميركية لغته، قد تضافرت مع عبقرية كاريير – ولنستعمل هذه الكلمة هنا من دون تحفظ – لتجعلا من "سيرانو" فيلماً استثنائياً في مجاله.

تبديل مهمة الحوار!

ولعل الميزة الأولى التي طبعت اشتغال كاريير على الحوارات هنا تكمن في أنه قد أعاد إليها وظيفتها كذات دور أساس في الفيلم. فهي هنا ليست لإدارة تبادل لفظي بين الشخصيات يقدم أخباراً ومعلومات، بل بوصفه جزءاً أساسياً من موضوع الفيلم نفسه. فلئن كنا قد أشرنا أول هذا الكلام إلى أننا أمام عمل يلعب فيه الحوار وما يلتحق به من رسائل دوراً أساسياً، بل ربما حتى بالتأكيد الدور الأساس فإن كاريير كان مدركاً لهذا الأمر وهو الذي سيقول لاحقاً إنه يعرف مسرحية روستان كما لم يعرف أي عمل فني آخر في حياته. وأنه من ثم قد أدرك منذ البداية أن أية أفلمة لهذه المسرحية يجب عليها أن تفلت من الأفخاخ التي سينصبها النص في وجه كل من يحاول تلك الأفلمة، فيكتفي بأن يزيد من عنصر الحركة فيها ولو على حساب الحوارات، التي من الواضح مع ذلك أن روستان قد صاغها بمهارة لا تضاهى لكنها إذا أسيء استخدامها لن تتمكن من إحداث أي خرق في عالم ثرثرة السينما. ومن هنا قرر كاريير منذ البداية أنه بدلاً من الاشتغال على الحوارات بالشكل المعتاد، سيمعن في استخدامها والتركيز عليها كجزء أساس من "اللغة الفيلمية" هذه المرة، لا كمجرد نقل من النص المسرحي الأصلي، بل كجزء أساس من اللغة السينمائية نفسه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثورة فرنسية على الشاشة

حسناً قد يبدو هذا الكلام شديد التقنية هنا وذا علاقة بالتخصص، لذا سنكتفي بأن نتحدث وقد رمينا إشاراته الأولى، عن تاريخية الاستقبال الذي خص به فيلم روستان/ رابنو هنا باعتباره حمل ثورة فرضت نفسها منذ ذلك الحين على النقد الفرنسي الذي تناول الفيلم وحدد له مكانة لم تتضاءل من يومها باعتباره تجديدياً في سينما (فرنسية) كانت قد بدأت تجتر ما كان جيل الستينيات والسبعينيات في تاريخ تلك السينما قد بدأ يجتره، أو في الأقل يدرك من خلال مسراه الصعوبات والمجازفات الكامنة في "الخروج من الدروب الممهدة" التي تفرض أن تواصل ثورة ذلك الجيل لا بد له من أن يلجأ إلى كتابة السيناريوهات الذاتية أو أفلمة سيناريوهات ذاتية تغلب عليها الثقافوية إن هي أرادت مواصلة ماضيها القريب مما يحتم عليها الهرب من الكلاسيكيات خصوصاً! هنا مع هذا التعامل الذي قد يبدو اليوم بديهياً بعد ربع قرن من تمكن كاريير من التقاط الخيوط الحقيقية للعبة فنية تقوم على التعامل الأمثل مع حوارات هي في هذه المسرحية بالذات، وعلى رغم كلاسيكيتها، مكتوبة وكأنها حوارات سينمائية من النوع الذي قد يشتغل عليه أي سينمائي طليعي أميركي، ومن ثم مجمل سينمائيي الموجة الجديدة الفرنسية. ومن هنا، على رغم أن التاريخ الراهن للسينما الفرنسية لا يحفل كثيراً بالإنجاز السيناريستي الذي تجلى في هذا الفيلم، لا بد بين الحين والآخر من التذكير به وربما لفائدة الأجيال الجديدة من السينمائيين، بمن فيهم السينمائيون العرب من الذين لا بد ألا يفوتهم على الإطلاق الدور الجوهري الذي يجب أن تلعبه كتابة السيناريو في العملية السينمائية بمجملها وهو دور يأتي هذا الاقتباس لـ"سيرانو دي برجيراك" ليذكرنا به.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة