Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جان جاك بينيكس أبدع الموجة الثانية في السينما الفرنسية

رحل من غير أن يكمل مسيرته ويواصل صناعة أفلام متفردة بجمالياتها

بياتريس دال في فيلم بينيكس "37 درجة مئوية صباحاً" (الخدمة الإعلامية للفيلم)

أتذكّر جيداً أن الحرف x في الكتابة اللاتينية لاسم المخرج الفرنسي جان جاك بينيكس أدهش الطفل الذي كنته في الثمانينيات، عندما قرأته للمرة الأولى. كان لاسمه وقع غريب وكأنه ينتمي إلى شخصية من شخصيات أدب علم الخيال الأميركي، وكان محيراً كذلك لأنه لا يدل على جنسية معينة. لا هو أميركي ولا هو فرنسي، تماماً مثل السينما التي قدمها هذا العصامي والتي لا تقع في أي خانة. سينما خارج أي تصنيف ويتعذر زجّها في نوع محدد.

من الصعب ان تنتمي إلى الجيل الذي اكتشف بينيكس وأفلامه التي أطلت كبريق ضوء في الثمانينيات، ولا تبيكه أو أقله لا تشعر بالحزن بعد خبر رحيله عن 75 عاماً بعد صراع طويل مع المرض. وعلى الرغم من أنه كان قد توقف عن إخراج الأفلام الروائية الطويلة قبل عقدين من الزمن، فالخسارة هي الشعور الذي يدهمنا ونحن نتبلغ خبر الوفاة. الإحساس بالخسارة لا يأتي ممّا حققه فحسب، بل ممّا لم يستطع تحقيقه وهو حيّ. كلّ هذه الموهبة أفضت إلى ستة أفلام روائية طويلة فقط لا غير، استغرق إنجازها عقدين من الزمن، من بداية الثمانينيات حتى مطلع الألفية. ثم، بعد ذلك، شغل نفسه بتنفيذ بعض الأفلام الوثائقية، قبل أن ينصرف إلى كتابة سيرته الذاتية، "ورشات المجد"، حيث روى تفاصيل حياته منذ طفولته إلى جزء من مسيرته الفنية من خلال تناول كواليس صناعة أفلامه الثلاثة الأولى. عنوان كتاب السيرة تحية إلى "دروب المجد" لستانلي كوبريك، المخرج الذي عشقه بينيكس وكان "يحلف" باسمه. 

إنطلاقة قوية مع "ديفا"

في بداية انخراطه في السينما، خلال السبعينيات، عمل بينيكس مساعد مخرج لرينه كليمان وجيري لويس ونادين ترانتينيان، ثم تدرب على يد كلود زيدي الذي كان متخصصاً في كوميديات شعبية لها حضورها في السوق. الأفلام التي عمل عليها كانت بعيدة جداً من المناخات التي اشتغل عليها لاحقاً. يتردد أن ثورة أيار 68 هي التي دفعته إلى التخلي عن الطب، والتوجه إلى الفن السابع. حاول الالتحاق بمعهد السينما الأشهر في هاتيك الأيام، الـ"إيديك"، لكنه سقط في امتحان الدخول. 

بعد فيلم قصير في نهاية السبعينيات في عنوان “كلب السيد ميشال”، دخل بينيكس الثمانينيات بـ"ديفا"، باكورته الروائية الطويلة، العمل الذي أشهره وفتح أمامه الأبواب. كان فيلماً بالغ الأهمية في تلك الحقبة، ترك أثراً عميقاً في نفوس جيل كامل. لا يشبه "ديفا" إلا نفسه. هو فيلم بلا سلف وبلا وريث، لا يأتي من أي مكان. اقتبسه بينيكس من رواية بالعنوان نفسه لدانيال أودييه، فجعلها نصاً سينمائياً تتغلب فيه الجمالية الشاعرية والجريئة والطليعية على سواها من العناصر، محدثاً قطيعة مع تراث فرنسي عريق في إيلاء الحوارات الأهمية الكبرى، مع العلم أنه توجه إلى الكتابة في سنواته الأخيرة، معانقاً الكلمات بعد حكاية غرام طويلة مع الصورة. 

تركيزه على الصورة (أحياناً على حساب السيناريو)، جعله يُتهم من لدن نقاد كبار مثل سيرج دانيه باستخدام لغة الإعلانات التجارية أو الفيديو كليبات التي كانت سائدة في الثمانينيات. لم تجمع الصحافة المتخصصة على عظمة الفيلم، ولم يحقق سوى 300 ألف مشاهد في مرحلة أولى، إلا أن فوزه بأربع جوائز "سيزار" ("أوسكار" السينما الفرنسية) من بينها جائزة العمل الأول، جعل الفيلم يتربع على عرش شباك التذاكر بمجموع إيرادات بلغت 3 ملايين مشاهد، وكان إصرار صاحب صالة باريسية صغيرة على إبقاء الفيلم في صالته هو الذي ساعده في الوصول لهذا النجاح. ولا شك أن أميركا اضطلعت أيضاً بدور بارز في الترويج للفيلم. فالجمهور الفرنسي لم يقبل عليه في مرحلة أولى إلا بعدما ذاع صيته في الولايات المتحدة، البلد الذي كان بينيكس سيتلقى منه عدة عروض في السنوات اللاحقة، لكنه لم يستجب لها لأسباب مختلفة. 

لحظات الحياة

يتمحور "ديفا" على جول، شاب يعمل ساعي بريد. لا شيء مميزاً فيه سوى أنه مأخوذ بمغنية أوبرا تدعى سينتيا هوكينز وصوتها الجذاب. هذه المغنية تتميز بدورها في كونها ترفض تسجيل صوتها على أسطوانة. لكن جول، وخلال حفل موسيقي لها في باريس، يسجّل صوتها سراً، ثم يسرق ثوبها ويهرب. وسرعان ما يطارده شخصان يريدان الاستيلاء على التسجيل وبيعه. إلا أن هذه المغامرات كلها سينتج منها لقاء بين جول والمغنية في المشهد الأخير للفيلم. عناق، ودفء إنساني وانفعالات، فيما الجنريك يعلن الختام على وقع موسيقى ألفريدو كاتالاني. 

على غرار زملاء له مثل ليوس كاراكس ولوك بوسون، كان بينيكس، الذي يعتبر نفسه "انتهازياً يستخدم كل لحظات الحياة التي تمر أمامه من أجل توظيفها فنياً"، مجدِّداً في "ديفا". مجِّدد في ولعه لباريس التي يصوّر أزقتها وأنفاقها. ولكنه مجدد ليس فقط بسبب خياراته الجمالية التي لم يعتدها الجمهور في تلك الفترة من الثمانينيات، بل لأنه مزج بين الأنواع السينمائية، فلا هو فيلم حب ولا هو فيلم ثريللر ولا هو ميوزيكال، بل خليط هجين من هذا كله. ما كان عيباً تحول مع الوقت إلى ميزة، خصوصاً ان هذا النوع من الأفلام التي لا تقوم على نوع محدد تصدّر المشهد السينمائي، لا بل أصبح نوعاً في ذاته. في عمر الخامسة والثلاثين، ومن دون أي دعم يذكر، اخترع بينيكس ما يمكن اعتباره اليوم "الموجة الفرنسية الثانية". الفيلم أطلق أيضاً ممثلين مهمين: ريشار بورانجيه وجيرار دارمون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

منذ فيلمه الثاني، "القمر في المزراب" (1983)، استطاع بينيكس استدراج كبار الأسماء إلى سينماه. فأعطى جيرار دوبارديو دور البطولة في هذا الفيلم الذي يروي قصة رجل مهووس بالبحث عن الشخص الذي اغتصب شقيقته، ما أدى إلى انتحارها. الفيلم عُرض في مهرجان كان ولاقى النصيب نفسه من الهجوم الذي كان لقيه "ديفا". اتُهم بالإذعان لأسلوب جمالي رخيص ومتهافت؛ كادرات مستمدة من عالم الدعايات، فيها اعتناء كبير لدرجة التصنّع على حد قول المنتقدين. النقد الفرنسي لم يرحمه يومها ولم يسامحه أنه أعاد إلى الضوء ما حاربته "الموجة الفرنسية الجديدة" بأفلام خرجت من الأستوديو إلى الشارع. بينيكس كان يذكر دائماً جملة للمخرج الفرنسي أبيل غانس، "على كل صورة أن تكون شمساً"، ويعرّف عن نفسه بأنه يصنع أفلاماً لا هي إنتاجات ضخمة ولا سينما مؤلف.

الفيلم التحفة

عندما أنجز "37 درجة مئوية، صباحاً" في عام 1986، كان الرجل قد قطع نصف مسيرته الفنية في وقت قياسي. مع هذا الفيلم المقتبس من رواية لفيليب دجيان، قدّم عملاً حميمياً بات له أتباع في العالم أجمع، وبلغ به ذروة تكريسه الفنّي. هذا النجاح لم يستعده مجدداً في حياته. إنها قصة اللقاء بين زورغ وبيتي (شخصيتان غير مألوفتين)، وإصرار الأخيرة في جعل زورغ يكرس حياته للكتابة إيماناً منها بموهبته. لكنّ لأصحاب دور النشر رأياً آخر. الفشل يغرق بيتي في الكآبة. فتصبح كائناً خارج السيطرة. الفيلم المشبع بموسيقى اللبناني غبريال يارد، رُشِّح لتسع جوائز "سيزار"، وكذلك لـ"أوسكار" أفضل فيلم أجنبي، وشاهده نحو أربعة ملايين في الصالات الفرنسية. وكيف يُمكن نسيان الثنائي الذي شكّله جان هوغ أنغلاد وبياتريس دال في واحد من أجرأ أدوارها.

الفيلم يجمع بين العنف والجمال. جمال المشاعر وعنفها. يؤكد بينيكس أنه أكثر من مجرد حرفي يجيد تحريك الكاميرا والاعتناء بالكادر وما في داخله، بل يعرف أيضاً ما في دواخل الشخوص الذين يعانون قبل النزول إلى الجحيم. عمل حسّي وجسدي يروي عقد الثمانينيات المضطربة من خلال شغف عاطفي يحملنا إلى أقاصي الأشياء، وذلك بلا حسابات أو مساومة. جيل كامل وجد نفسه في هذا الجو من التمرد والحرية وتدمير الذات.

في سنواته الأخيرة، حاول بينيكس إنجاز أفلام "ميتافورية قاسية بلا مساومة"، كما قال في مقابلة له. لكن الاخفاق، سواء النقدي منه أو الجماهيري، الذي كان من نصيب أفلامه الثلاثة الأخيرة ("روزالين والأسود" و"IP5" "ونقل قاتل")، جعله يبتعد عن السينما مبكراً وهو في سن الخامسة والخمسين، طاوياً واحدة من أجمل روايات السينما والأكثر طموحاً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة