Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حياة بشروط مسبقة... للزواج "مآرب أخرى" في مصر

زيجات موقتة وأخرى لا إنجابية وثالثة إنتاجية أنماط جديدة شغلت أذهان الشباب الحائر والظروف الاقتصادية المتهم الرئيس

نتيجة الضغوط الاقتصادية غير المسبوقة والخوف من المستقبل يفكر الطرفان ألف مرة قبل اتخاذ قرار الإنجاب (فري بيك)

ملخص

هل يتمرد شباب المجتمع المصري على الأنماط التقليدية للزواج أم أن الضغوط الاقتصادية تضطرهم للجوء إلى علاقات بعيدة من رقابة الأهل؟

في منتصف سبعينيات القرن الماضي كان الجمهور على موعد مع ظهور بارز للشخصية الإنجابية على شاشة السينما العربية، إذ هجر المهندس المعماري ذو المستقبل الواعد شفيق (نور الشريف) زوجته الشابة الجميلة نبيلة (ميرفت أمين) بعدما علم بحملها، وهددها بالطلاق متهماً إياها بخداعه نظراً إلى رفضه تماماً إنجاب الأطفال، وهي الآتية من أسرة كبيرة العدد لا تعترف أصلاً بالزواج من دون إنجاب أبناء.

إنها إحدى القصص الفرعية في فيلم "الحفيد"، فيحن قلب الزوج في النهاية إلى الأولاد حينما يحضر "سبوع" ابن شقيقة زوجته، وقبلها بوقت قصير تتراجع نبيلة عن محاولاتها المستميتة للإجهاض.

العمل الذي أخرجه عاطف سالم عن قصة لعبدالحميد جودة السحار، أغلق الستار على فكرة مناهضة الإنجاب بمجرد مشهد عاطفي على هامش الاحتفال بمولود جديد، فذابت أفكار عدم التناسل التي دافع عنها البطل باستماتة وكأنها كانت تقليعة طائشة بمجرد النظر إلى عيني الصغير.

هذا التفكير الذي اعتبره بعض الناس عابراً كان يلقي الضوء على ظاهرة لم تكن منتشرة كثيراً في المجتمع المصري حينها، لكنها الآن باتت تياراً رائجاً وله أنصار حتى لو كانوا قلة، ولكن ظهورهم بدا ملحوظاً في تجمعات الأصدقاء بصورة لم تكن على هذا القدر من قبل، والأسباب والتبريرات عدة ومتشعبة ولها أنصارها.

لكن الزواج اللاإنجابي تقابله أيضاً نوعيات أخرى من الزيجات، بينها ما يشابهه مثل الزواج السياحي والزواج الموقت، وبينها ما يناقضه مثل "زواج الإنتاج" أي بغرض الإنجاب فقط وبعدها ينفصل الشريكان بناء على اتفاق له بنود واضحة حتى لو لم تكن مكتوبة، وهناك أيضاً زواج المسيار والزواج العرفي وزواج المتعة.

فهل تتغير تركيبة وأفكار أفراد المجتمع المصري بفعل الانفتاح على ثقافات متعددة وسهولة استخدام وسائل الاتصال وعالم المشاركات اللانهائية، أم أن هناك ضغوطاً حقيقية وواقعية جعلت الناس تفكر في تسيير أمور حياتها وفقاً لحلول غير مألوفة قد توصف بالشطط، أم أن الأمر مجرد تمرد على نمط الزيجات المعهودة من فئة محدودة العدد ولا يرقى الأمر إلى مستوى الظاهرة؟

ثقافات المهاجرين

في ما يتعلق باللاإنجابية على سبيل المثال، من الصعب الحصول على نسب أو أرقام في شأنها، نظراً إلى أنها حتى لو كانت ظاهرة فهي غير موثقة، بعكس الزواج العرفي مثلاً، كما أن تلك الحالات لم تخضع للدراسة بصورة واسعة في المجتمع المصري حتى الآن، وإن كان هناك مشاهير عبروا عن موقفهم اللاإنجابي، ومنهم الكاتب الراحل أنيس منصور على سبيل المثال.

لكن بالحديث مع أكثر من متخصص وبينهم أستاذة علم الاجتماع الأكاديمية سامية خضر، فإن هناك عزوفاً عن الزواج نظراً إلى الضغوط الاقتصادية غير المسبوقة والخوف من المستقبل، لذا فإن حدث وتزوج الطرفان فإنهما يفكران ألف مرة قبل اتخاذ قرار الإنجاب في ظل هذا الوضع المقلق للغاية بالنسبة إليهما.

 

 

أما استشارية الأمراض النفسية والمتخصصة في العلاقات الأسرية صافنياز المغازي، فترى أيضاً أن المشكلات الاقتصادية عامل أساسي للغاية في تغير مفاهيم الزواج، وفي البحث عن أنماط مختلفة لم تكن منتشرة في المجتمع المصري من قبل، لكنها لفتت الانتباه أيضاً إلى عامل آخر يسهم في رأيها بصورة كبيرة في إحداث تغييرات مهمة في ديموغرافية المجتمع، وهو الاختلاط مع جنسيات وثقافات متعددة من المهاجرين، مشيرة إلى أن جنسيات عدة تعيش في غالبية المحافظات المصرية ويختلط أبناؤها عن قرب بالمصريين ويجاورونهم في أحيائهم السكنية، كما يرتبطون معهم بعلاقات مصاهرة، وتبادل الثقافات هنا يحدث تلقائياً.

وتابعت أن "الشعب المصري مؤهل بفعل ظروف عددية لامتصاص عادات الآخرين، خصوصاً أننا كشعب للمرة الأولى منذ عقود طويلة نختبر تلك الظروف الاقتصادية الصعبة، وحتى على المستوى الاجتماعي هناك ما يشبه الصدمة"، مضيفة أن جميع الطبقات تأثرت بهذه العوامل، ومن واقع خبرتها فهي ترى أن النزعة اللاإنجابية آخذة في الازدياد بسبب الخوف من المستقبل، نظراً إلى أزمات المعيشة التي تواجه الزوجين الشابين بصورة عامة، إذ يجدان صعوبة في استكمال بنود زفافهما، لذا يحسبانها مراراً قبيل قرار الإنجاب، أما في ما يتعلق بالطبقة الأكثر ثراءً فإن السبب لديها عادة يكون متعلقاً بالتشبع بالثقافة الغربية التي تنتشر فيها تلك التوجهات.

مكافحة الإنجاب

نغمة رفض الإنجاب، بعيداً من الأسباب الاقتصادية، عادة ما ترتبط بطبقة ثقافية بعينها بالفعل، فبالنظر إلى كثير من المجموعات عبر موقع "فيسبوك" التي تنتصر لتلك الأفكار، نجد أنها تضم عشرات الآلاف وبعضها يتجاوز مئات الآلاف، وتدور ضمنها نقاشات حامية حول كيفية مواجهة الأهل والأصدقاء المقربين بتلك الأفكار، بخاصة أن كثيرين منهم من ميسوري الحال، لكنهم يعتقدون بأن الأسباب ليست مادية بالأساس بقدر ما هي فلسفة عادلة، من وجهة نظرهم، ويرفضون اتهامهم بالسوداوية ويعتبرون أن أفكارهم واقعية وليست تشاؤمية.

من هؤلاء طارق رضا الذي يقول إنه يؤمن تماماً بأن العالم مكان غير قابل للعيش وإنه لن يكرر من جديد مأساة طفل يولد على غير إرادته في عالم ظالم وحزين مليء بالأوبئة والحروب.

 

 

ورضا مهندس تكنولوجيا في إحدى الشركات الدولية ويتقاضى راتباً ممتازاً وفق تأكيده، ويضيف أنه "على رغم أنني نشأت في عائلة مرفهة من الناحية المادية، لكنني عشت طفولة بائسة بسبب أبي الذي كان يعاملني بقسوة صدمتني، وأرى أن من الأنانية أن أصر على الإنجاب لمجرد أن أستمتع بكائن صغير مرح من دون أن أضع في الاعتبار أنه ربما لا يحب أن يختبر تلك الحياة، كما أنني أيضاً لا أريد أن ألتزم بأية مسؤوليات ناحية ابن خوفاً من التقصير في حقه من دون أن أشعر، فعاطفياً سيكون هذا تصرفاً لا أقبله".

على رغم أن بعضهم يرى أن الاتفاق بصورة نهائية على عدم الإنجاب بعد الزواج أمر مرفوض دينياً لأنه يمنع فكرة الاستخلاف في الأرض، فإن دار الإفتاء المصرية كانت قالت في منشور لها إنه يجوز أن يتفق الطرفان على عدم الإنجاب إذا كان هذا في مصلحتهما، مع التشديد على أن القرار يجب أن يكون من الطرفين وألا يختص به طرف دون آخر. ولكنها أيضاً قالت "لا يجوز المنع المطلق من الإنجاب لما فيه من الإخلال بنسبة التوازن التي أقام الله الخلق عليها، ولا يدخل في هذا ما تقوم به الدول من إجراءات للعمل على تحديد النسل، طلباً للحياة الكريمة لشعوبها وفق الدراسات المفصحة عن إمكانات هذه الدول، كما أن تصرف ولي الأمر منوط بالمصلحة".

حول الزواج المشروط

في دولة يفوق عدد سكانها الـ100 مليون نسمة مع دعوات متزايدة إلى تنظيم النسل بسبب الانفجار السكاني، لا تتوقف حملات تنظيم الأسرة، ولكن أيّاً منها لم يدعُ إلى عدم الإنجاب بصورة مطلقة كي لا يحدث تصادم مع المؤسسة الدينية وكذلك المجتمع الذي يحمل أبناءه توجهاً عاماً يقضي بحب العزوة والأسر الكبيرة العدد، حتى لو ظهرت أطياف تتبنى وجهة نظر نقيضة لتلك، فيما تشير عضو المجلس القومي للمرأة القانونية صفاء عبدالبديع إلى أن الزواج اللاإنجابي أمر مختلف تماماً عن فكرة تأجيل الإنجاب، لافتة إلى أن الأمر يحدث عادة باتفاق الطرفين، وكلاهما من الناحية القانونية يستوفي بنود عقد الزواج السليم، بخاصة أن أيّاً من تلك الأمور لا يتم تضمينه كشرط مكتوب في وثيقة الزواج، وإذا تضمن العقد أي شرط يجد المأذون أنه يخالف المعمول به فلن يوافق من الأساس على تحريره.

وتتابع المحامية والناشطة في مجال حقوق الأسرة والأطفال أنه "دائماً ما نرى أن بعض الشباب يتفقون شفوياً على تأجيل خطوة الإنجاب لبعض الوقت وفقاً لظروف حياتهما مثل الانتهاء من تسديد ديون الزفاف، أو لأسباب صحية موقتة، أو للتأكد من وجود توافق تام بينهما"، متابعة أن الزواج شرّع للتكاثر وإقامة أسر، وهدفه أصلاً الاستمرارية وتكوين عائلة وتربية أطفال صالحين.

الفتيات يفسدن الخطط

بالعودة للمهندس الشاب النشط في الصفحات العربية الداعية إلى عدم التناسل، يشير طارق رضا إلى أنه يضيق ذرعاً بأن المحيطين به يرون الناس أنماطاً متطابقة غير مدركين لفكرة أن كل شخص مختلف عن الآخر، وأن هناك من هو غير مؤهل لتربية الصغار، ومن يريد أن يعيش حياة سعيدة ويتقدم مهنياً من دون معوقات، لهذا فهناك أزمة أساسية تواجهه هي أنه لا يجد فتيات كثيرات يعتنقن تلك الأفكار، ولذلك يعتقد بأن فرصه في الارتباط الجدي محدودة للغاية، إذ إنه منفتح على قرار الزواج لكن في ما يتعلق بالأطفال فإنه لن يغير موقفه أبداً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتلك الصعوبة متعلقة بطبيعة الغالبية الكبرى من الفتيات اللاتي يتمنين تحقيق حلم الأمومة، بل إن بعضهن يسعى إلى الزواج من الأساس من أجل تحقيق تلك الرغبة، وإن كان كثير من المجتمعات غير العربية يسمح للنساء بالإنجاب عن طريق الحقن المجهري والحصول على نطف من متبرع إذا لم يكنّ يرغبن في الزواج بهدف الحصول على لقب أم، فإن القيم الدينية والقوانين والأعراف والتقاليد المجتمعية ترفض تلك الطريقة في المجتمعات العربية وبينها المجتمع المصري، ولهذا فلا سبيل أمامهن إلا الزواج حتى لو كنّ يرفضن تلك المؤسسة، وحتى إن لم يكنّ مقتنعات بالعريس نفسه.

توضح جميلة أن الأمومة بالنسبة إليها هاجس لا يريد أن يغادرها على رغم تحققها مهنياً وعدم ضغط عائلتها عليها للارتباط سريعاً، لكنها فشلت في أن تجد شخصاً ملائماً تقيم معه أسرة، مشيرة إلى أنها ترفض تماماً فكرة التبني وترغب في أن ترزق بطفل بيولوجي.

وتقول "ناقشت مع مجموعة من صديقاتي فكرة أن أتزوج أول شخص يتقدم لي من أجل هذا الغرض فقط، وليس مهماً أن أستمر معه بعد الإنجاب فأنا قادرة على إعالة طفلي، وأخشى أن يتقدم بي العمر بعد أن أوشكت على بلوغ الـ35 وأفقد القدرة على الحمل من الأساس".

تبدو طريقة التفكير هذه قاسية وغير مألوفة أيضاً، لكنها باتت منتشرة بين قطاع كبير من الباحثات عن الأمومة وتعوقهن أمور متعددة، فيما تنفتح أخريات بصورة صريحة على فكرة "زواج الإنتاج" وهو أحد أنواع الزواج الموقت الذي يقوم على اتفاق الطرفين من البداية أنهما يتزوجان بغرض إنجاب طفل وبعدها ينفصلان من دون خلافات.

هذه القضية كانت أثارت جدلاً حينما طرحها فيلم "بشتري راجل" (2017) من بطولة نيللي كريم ومحمد ممدوح وإخراج محمد علي، فكانت البطلة التي تعمل في وظيفة مرموقة تبحث عن الأمومة بأسرع وقت نظراً إلى أن مخزون بويضاتها أوشك على النفاد، واختار العمل الكوميديا وسيلة لطرح هذا الأمر الشائك، وسعت البطلة الحالمة بالأمومة إلى نشر إعلان تطلب فيه زوج بمواصفات صحية معينة ويوافق على الزواج الموقت المرهون بعقد شرعي، بشرط أن يتم الحمل عن طريق الحقن المجهري وليس بطريقة طبيعية، نظراً إلى رفض العروس منظومة الزواج من الأساس.

ثم تتطور الأمور ويحدث انجذاب عاطفي وتصبح أماً عن طريق الحمل الطبيعي، لكن صدامية الفكرة جعلت العمل محط نقاش طويل، إذ كان الرجل هنا بمثابة السلعة ويوافق على الزواج مقابل أن تحل له العروس مشكلاته المادية، وفي العام نفسه أيضاً تمت مناقشة التوجه ذاته في مسلسل "سابع جار" عن طريق شخصيتي هالة (رحمة حسن) وعلي (محمد علاء).

عقد زواج التجربة

فكرة الزيجات الموقتة بصورة عامة والمرهونة بمدة محددة رفضتها المؤسسة الدينية المتمثلة في الأزهر ومراكز الفتوى، واعتبرتها باطلة ومنافية لأحكام الزواج في الإسلام، كما كانت دار الإفتاء علقت بحسم قبل أعوام قليلة على تداول عقد زواج موقت يسمى زواج التجربة، بالقول "صورة عقد الزواج المسمى ’زواج التجربة‘ تتنافى مع دعائم منظومة الزواج في الإسلام، وتتصادم مع أحكامه ومقاصده، إضافة إلى ما فيها من امتهان للمرأة وعدم صون لكرامتها وكرامة أهلها، وهذه الصورة عامل من عوامل هدم القيم والأخلاق في المجتمع".

 

 

وتتضمن الزيجات الموقتة التي باتت تجد لها مكاناً في المجتمع المصري أيضاً بما يسمى "الزواج السياحي" وزواج المسيار وغيرهما من العلاقات التي اعتبرها علماء الدين نوعاً من أنواع زواج المتعة الذي يجعل النساء سلعة تباع وتشترى، فيما تنبه استشارية الطب النفسي والعلاقات الأسرية صافيناز المغازي إلى أنه بات شائعاً أيضاً نوع آخر من العلاقات الزوجية الموقتة، فـ"نظراً إلى أن متطلبات إنشاء منزل وتوفير متطلبات أسرة بالنسبة إلى غالبية الشباب أصبحت صعبة للغاية في ظل معدلات التضخم الاقتصادي، بات عدد لا بأس به من الأزواج الشبان يعيشون في منزل الزوجية ليوم أو يومين في الأسبوع فقط، وبقية الأيام يتم توزيعها على عائلتي الزوج والزوجة توفيراً للنفقات، فيعيش الزوجان أياماً عدة هنا وأخرى هناك ويسهمون بمبلغ بسيط في الموازنة ولكن العبء المادي الأكبر يكون على الأبوين بالطبع".

وأضافت أنه "بصورة عامة ومن خلال متابعتي لكثير من الحالات، فإن هناك عدم اكتمال وجداني لدى الشباب المتزوج حديثاً، حتى إن فكرة التأقلم مع الشريك في أول الزواج أصبحت تستغرق ثلاثة أعوام وليس عاماً واحداً مثلما كان الأمر في السابق، كما انتشرت فكرة عدم الرغبة في تحمل المسؤولية سواء في الإنفاق أو في تربية طفل، مما يؤدي بدوره إلى انتشار نزعات وشطحات غريبة في ما يتعلق بفكرة الزواج".

حرية غير صحية

أما الطبيبة النفسية إيمان عبدالله، فترى أن انتشار الأنماط غير التقليدية في مسارات الزواج نوع من التمرد على السائد ينتج من الرغبة في محاكاة ثقافات ومجتمعات أخرى، معتبرة أنها تنشئ مساحة من الحرية غير الصحية، وتجعل الثنائي يلتقيان بصورة عابرة وطارئة وكأن كلاً منهما ليس منتظماً في علاقة جادة، فالخروج عن المألوف هنا قد ينتشر بسبب تقليد بعض القصص الدرامية في أعمال فنية تحمل أفكاراً مشوهة أو حتى تقليد نماذج عبر الإنترنت، وبينها فكرة المساكنة.

وأضافت أن "ما يحدث هو اكتساب عادات ذميمة للغاية تفسد المجتمع، وتبدو وكأن الرجل يشتري أيامه التي يعيشها مع شريكته، مما يسهم في مبدأ تسليع النساء، وفي ما بعد يجد من يحترفون تلك العلاقات شعوراً بالخسارة والخواء، ويصابون باضطرابات نفسية جراء عدم الاستقرار".

جانب من حالات الزواج العرفي أيضاً تندرج تحت تلك النوعيات من الزيجات التي تهدف إلى التنصل من تحمل المسؤولية، وهو يعتبر أكثرها انتشاراً. ووفقاً للأرقام الرسمية وبحسب ما أقر نقيب المأذونين إسلام عامر قبل أشهر قليلة، فإن نسبة الزواج العرفي في مصر تصل إلى 25 في المئة من إجمالي عدد الزيجات سنوياً، لافتاً إلى أن تلك الزيجات بالطبع غير مسجلة رسمياً وفقاً لتصريحات تلفزيونية للنقيب المعني بمتابعة شؤون المكلفين بعقد القران على الطريقة الإسلامية بموجب عقود شرعية وقانونية.

من جهته كشف الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء عن إجمالي عقود الزواج عام 2021، إذ وصلت إلى 880 ألف تقريباً، وبالقياس إلى تصريحات نقيب المأذونين فإن هناك 200 ألف حالة زواج عرفي سنوياً، ومن المعروف أنه كلما زاد عدد حالات هذا الزواج ارتفعت نسبة قضايا إثبات النسب في حال وجود أطفال ورفض الزوج نسبهم إليه.

البحث عن بدائل

تدعو المتخصصة في الطب النفسي والعلاقات الأسرية إيمان عبدالله إلى محاربة الزيجات السرية والموقتة بأنواعها، درامياً وإعلامياً وأيضاً من قبل الهيئات الدينية عن طريق حملات مستمرة، لافتة إلى أن معظمها يصنف على أنه زواج متعة، وهو مرفوض من قبل التشريعات الإسلامية.

وقالت، "هناك مشكلات كثيرة تترتب على تلك العلاقات، أبرزها التهرب من المسؤولية المادية والعبء المجتمعي، لكن أيضاً ينبغي على العائلات أن لا تنفّر الشباب من فكرة الزواج التقليدي، سواء بالضغوط المستمرة على الفتيات أو المبالغة في المتطلبات مثل الشبكة والمهر، مما يجعل الشباب يلجأون إلى طرق بديلة، وهي عوامل بدورها تجعلهم يستهترون بالرباط المقدس وبالشكل الصحي لتكوين عائلة".

جرت العادة أن الزواج العرفي أقل كثيراً في المتطلبات مقارنة بالزواج الشرعي المعلن، سواء في ما يتعلق بالإجراءات أو الكلف وكذلك العواقب الاجتماعية، بخاصة أنه لا يوثق ولا يتطلب سوى شاهدين، وفيه يوقع طرفا العلاقة على صيغة بسيطة، لكن في بعض الأوقات يتم الاستغناء عن الشاهدين لتحقيق مبدأ السرية الكاملة، وهنا يختلف القانون مع الشرع، فيمكن هنا رفع دعوى لتوثيق الزواج في حال كان العقد صحيحاً والتوقيع سليماً، لكن الدين الإسلامي يشترط الإشهار كي يعترف بالزواج، ووفقاً لما أقره الأزهر في ما يتعلق بالزواج العرفي فهو زواج "مكتمل الأركان، ولكن سمي عرفياً لعدم توثيق العقد في المحكمة"، فالفرق هنا فقط في التوثيق، ولكن في حال وجود شهود وولي وموافقة الطرفين فإنه يعد زواجاً شرعياً لكنه فقط غير موثق.

 

 

وعلى رغم انتشار تلك الحالات في المجتمع فإن أسبابها متشعبة، وقد يكون أكثرها هو استمرار حصول الزوجة على المعاش الشهري الذي يتركه لها الأب أو زوجها الأول المتوفى على سبيل المثال، وبينهن "ن. ص" الأم لطفلين، إذ قالت إنها اضطرت إلى الزواج العرفي كي لا تفقد حقها في الحصول على معاش والدها، نظراً إلى أنها أرملة منذ أعوام، وزوجها الأول كان عاملاً وليست له أية حقوق مادية، لذا فإنها خشيت ألا تستمر الزيجة الثانية وتدخل في متاهات تحرمها من هذا المعاش.

ولفتت إلى أن الزواج كان عرفياً ولكنه تم بمعرفة عدد من أفراد أسرتها، ولذلك فهي تعتقد بأنها لم تخالف الشرع، وما لا تعلمه ربة المنزل التي باتت تعول طفلين بمفردها بعد أن انفصلت بالفعل عن الزوج الثاني عقب ثلاثة أعوام قضياها معاً، أنه وفقاً لعلماء الدين فإن المال الذي حصلت عليه طوال تلك الفترة من معاش الأب ليس من حقها شرعاً لأنها أخذته بالتحايل وبما يخالف القوانين، إذ باتت في عصمة رجل يجب أن يتولى هو عملية الإنفاق عليها.

الدراما تواجه الظاهرة

لكن بصورة عامة ارتبط الزواج العرفي في بداية انتشاره داخل المجتمع بفئة الشباب المراهق، وبالأثرياء ممن يقدمون عليه للتنصل من أية مسؤولية، وهو ما تمت مناقشته في أعمال فنية متعددة بينها فيلما "جواز في السر" (1988) و"جواز عرفي" (1990) اللذان تناولا القضية من منظور نمطي للغاية ظهرت فيه النساء كضحايا لعبة السرية من دون تشريح فعلي لأزمات المجتمع، في حين شهد عام 1998 إعادة فتح هذا الملف من خلال سهرة تلفزيونية حققت نجاحاً واسعاً وهي "جواز على ورق سوليفان" لأحمد السقا ومنى ذكي، فأسهمت في فتح النقاش حول هذا الأمر باعتبار أنه كان منتشراً بين الشباب في بداية المرحلة الجامعية، إذ يلجأون إليه عن غير وعي وبسبب الوضع الاقتصادي أيضاً، ويعتبر بالنسبة إليهم أرخص كثيراً من الزيجات المعلنة، والطرح نفسه أيضاً جاء ضمن مسلسل "الرقص على سلالم متحركة" (2001)، وكان الاتهام هنا لطيش الشباب والهروب من ضغوط العائلة وبالطبع الوضع المادي الصعب.

حملات توعية ولكن

في بعض الأوقات قد يلجأ الأهل أنفسهم إلى تزويج بناتهم عرفياً بحسب ما تكشف عنه المحامية صفاء عبدالبديع، إذ تشير إلى أن العائلة أحياناً تلجأ إلى العقد العرفي إذا كانت الفتاة قاصراً، أي دون السن القانونية، وبالطبع تحدث مشكلات كثيرة أبرزها عدم تسجيل المولود إذا حدث وأنجبت الابنة قبل أن تكمل الـ18 سنة، أو في حال وفاة الزوج أو تركه لها، وفي ما يتعلق بأنشطة المجلس القومي للمرأة في التوعية بأخطار هذه الظاهرة، أكدت أن المجلس يركز دوماً في حملات طرق الأبواب على أزمة الزواج العرفي وزواج القاصرات عن طريق توعية أفراد الأسرة بالكامل، لافتة إلى أنه يتم عقد دورات مجانية للمقبلين على الزواج، يحاضر فيها متخصصون نفسيون واجتماعيون وقانونيون لتأهيل المخطوبين والحديث معهم عن كيفية اختيار الشريك وشروط الزواج الصحيح وضرورة التوافق العمري والاجتماعي والثقافي والتقارب الفكري، في سبيل إقامة أسرة ناجحة كي لا تنتهي العلاقة سريعاً بالطلاق.

بالفعل ترتفع نسب الطلاق في البلاد عاماً بعد آخر، وبحسب الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء فقد سجل عام 2022 ما يقارب 270 ألف حالة طلاق بزيادة تقترب من ستة في المئة مقارنة بـ 2021 الذي سجل 260 ألف حالة، وتعتقد المتخصصة في العلاقات الأسرية واستشارية الطب النفسي صافيناز المغازي بأن للأهل دوراً كبيراً في إفشال تلك العلاقات بسبب تدخلهم الزائد في العلاقة، بدءاً من المتطلبات المادية الباهظة، مروراً بالتدليل الزائد الذي يجعلهم يلبون كل متطلبات الثنائي لرغبتهم في ألا يعيشا الحرمان الذي عاشوه هم كأهل متوسطي الحال مثلاً، مما يجعل الشريكين يعتادان على فكرة عدم تحمل المسؤولية، كما أن دورات الإرشاد الأسري في رأيها كثيراً ما تكون صورية ولا تلقى إقبالاً على رغم أن حضورها يضمن في الأقل أن يتمتع الثنائي بنسبة معقولة من الوعي والمعرفة.

المزيد من تحقيقات ومطولات