كشف تقرير حديث أن بعض الاقتصادات النامية بدأت ترى ضوءاً يلوح في نهاية النفق خلال الفترة الماضية، إذ إن التضخم العالمي في طريق الانحسار ويبدو أن أسعار الفائدة العالمية قد بلغت ذروتها مما حفز هذه الاقتصادات إلى الاندفاع نحو إصدار السندات لإعادة تمويل ديونها قبل أن تتضاءل الفرصة.
فمع مطلع يناير (كانون الثاني) الماضي، تمكنت المكسيك وإندونيسيا واقتصادات نامية عدة من تعبئة أكثر من 50 مليار دولار بسهولة من مستثمري السندات، لكن في المقابل هناك 31 بلداً آخر معظمها من البلدان منخفضة الدخل وليس لها تصنيف ائتماني تعاني بالفعل حال مديونية حرجة أو أنها معرضة لأخطار عالية.
في غضون ذلك، قال البنك الدولي إنه لا يزال هناك 28 اقتصاداً نامياً (اقتصادات ذات تصنيف ائتماني أضعف) وعالقاً في شرك الديون من دون أمل في الخروج منه في أي وقت قريب، إذ بلغ متوسط نسبة الدين إلى إجمال الناتج المحلي في هذه الاقتصادات نحو 75 في المئة نهاية عام 2023، أي بزيادة قدرها 20 نقطة عن مثيلاتها من الاقتصادات النامية العادية.
وأشار البنك إلى أن هذه الاقتصادات تمثل ربع جميع الاقتصادات النامية ذات التصنيف الائتماني وتعادل 16 في المئة من سكان العالم، مستدركاً "لكن نشاطها الاقتصادي الجماعي لا يشكل سوى خمسة في المئة من الناتج العالمي"، مضيفاً أن "ذلك ما يجعل من السهل على بقية العالم تجاهل محنتها ونتيجة لذلك، فإن أزمة ديونها صامتة ويمكن أن تشتد حدتها".
الفائدة المرتفعة تزيد أوجاع البلدان النامية
من جانبه، قال المتخصص في الشأن الاقتصادي في مجموعة "آفاق التنمية" بمجموعة البنك الدولي فيليب كينورثي إنه على مدى العامين الماضيين ارتفعت أسعار الفائدة الحقيقية في الولايات المتحدة بأسرع وتيرة خلال أربعة عقود، مشيراً إلى أنه "من الناحية التاريخية فهو يشبه ما حدث في ثمانينيات القرن الـ 20 عندما تسبب التشديد السريع للسياسة النقدية الأميركية في مشكلات مالية لاقتصادات نامية عدة"، لافتاً إلى أنه "في هذه المرة، نجحت الاقتصادات النامية ذات التصنيف الائتماني الجيد في الإفلات من هذا المصير"، مستدركاً "لكن الخطر لم ينته بعد بالنسبة إلى الاقتصادات ذات التصنيف الائتماني الضعيف، إذ زادت كلفة اقتراضها بصورة حادة على مدار العامين الماضيين، وتواجه الآن أسعار فائدة أعلى بنحو 20 نقطة من السعر القياسي العالمي وأكثر من تسعة أضعاف أسعار الفائدة للاقتصادات النامية الأخرى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وختم كينورثي أن "هذه الاقتصادات باتت محرومة من الوصول إلى أسواق رأس المال العالمية لأكثر من عامين، إذ لم تصدر هذه الاقتصادات أية سندات دولية تقريباً خلال تلك الفترة، وهي فترة عقم من النوع الذي لم نشهده منذ الأزمة المالية العالمية، وليس من المستغرب أن 11 اقتصاداً منها تخلفت عن السداد منذ عام 2020، وهو عدد يقترب من إجمال العقدين السابقين"، مشيراً إلى أن "الآثار الاقتصادية شديدة، فبحلول نهاية عام 2024 سيكون الناس في نحو نصف الاقتصادات النامية ذات التصنيف الائتماني الضعيف أكثر فقراً في المتوسط مما كانوا عليه عام 2019 عشية تفشي جائحة كورونا، وبالنسبة إلى الاقتصادات النامية التي تتمتع بتصنيف ائتماني أفضل فإن النسبة المقابلة لا تتجاوز ثمانية في المئة، ومن غير المرجح أن تتحسن التوقعات في أي وقت قريب"، لافتاً إلى أن "الاقتصادات النامية ذات التصنيف الضعيف ستنمو بنحو نقطة مئوية كاملة بصورة أبطأ خلال الفترة 2024 - 2025 مقارنة بالعقد السابق على الجائحة، وتحتاج هذه الاقتصادات إلى مساعدات خارجية فورية في صورة تخفيف لأعباء الديون لبعضها، وتحديث شامل للإطار العالمي لإعادة هيكلة الديون الذي لم يقدم حتى الآن سوى قدر ضئيل من تخفيف أعباء الديون للبلدان التي هي في أمس الحاجة إليه، ولكن هذه البلدان لديها أيضاً عمل كبير يمكنها القيام به لمساعدة نفسها".
من جهته، قال نائب رئيس الخبراء الاقتصاديين ومدير مجموعة "آفاق التنمية" بمجموعة البنك الدولي أيهان كوسى إن "البداية الجيدة تتمثل في بناء الحيز المالي اللازم لتحقيق النمو الاقتصادي في هذه البلدان وبناء قدرتها على الصمود، إذ أدت الأزمات المتداخلة التي شهدتها الأعوام الخمسة الماضية إلى تعميق تحديات الديون"، مستدركاً "لكن عدم حصافة الممارسات المالية العامة كان في كثير من الأحيان السبب الأصلي لمشكلاتها".
زيادة الفائدة ضاعف حجم الديون المقومة بالدولار
إلى ذلك، وقبل أن تفقد هذه البلدان إمكان الوصول إلى أسواق رأس المال العالمية كانت حكوماتها تقترض أكثر مما ينبغي وخصوصاً بالعملات الأجنبية، إذ اقترضت ما يعادل نحو 30 في المئة من إجمال ناتجها المحلي في المتوسط، مما تسبب في إدخال كثير منها في حلقة مفرغة في ظل ضعف العملات المحلية، إذ ارتفعت كلفت الديون مما دفع العائدات على السندات المقومة بالدولار إلى ما يصل إلى سبع نقاط مئوية فوق معدلات النمو في اقتصاداتها.
ويعني بناء الحيز المتاح للإنفاق في المالية العامة توسيع قواعد الإيرادات الحكومية وتحديد أولويات الإنفاق العام، فعلى سبيل المثال من الممكن التخلي عن الدعم الذي يشجع على الإسراف.
أما على الجانب النقدي فيمكن لهذه الاقتصادات أن تساعد نفسها من خلال إنشاء أنظمة أسعار صرف تكون جديرة بالثقة وتعزيز استقلال البنوك المركزية، وسيتعين استكمال هذه الإصلاحات بتحسينات في نوعية المؤسسات المحلية حتى يمكن تهيئة بيئة أكثر ملاءمة للاستثمار، ولن يكون من السهل تنفيذ هذه الإجراءات التدخلية المتعلقة بالسياسات، لكن لا غنى عنها لاستعادة الاستقرار الاقتصادي واجتذاب الاستثمارات التي تشتد الحاجة إليها، فضلاً عن تعزيز النمو.
وبالنسبة إلى الاقتصادات النامية ذات التصنيفات الائتمانية الضعيفة فقد تكون كلف الاقتراض أكثر حدة بتسع مرات مما هي عليه في الاقتصادات ذات التصنيف الائتماني الأعلى.
وإلى جانب هذه الاقتصادات النامية، وعددها 28 اقتصاداً، فهناك 31 بلداً آخر معظمها من البلدان منخفضة الدخل وليس لها تصنيف ائتماني، تعاني بالفعل حال مديونية حرجة أو أنها معرضة لأخطار عالية تهدد ببلوغها، مما يعني أن واحداً تقريباً من بين كل ثلاثة اقتصادات نامية يعاني ارتفاع الديون في بيئة تتسم بضعف النمو وكلف الاقتراض الباهظة، وكثير من أخطار التطورات السلبية.
ويمكن أن تتسبب أية صدمة أخرى في دفع مزيد منها إلى حافة الهاوية، وإذا حدث ذلك فإن أزمة الديون الصامتة ستصبح صاخبة على نحو متزايد.