Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سؤال الفلسفة: ماذا يعني أن نحب في عصر الذكاء الاصطناعي؟

العشق من أجمل المشاعر الإنسانية وأعمقها لكن حالته ليست ثابتة خصوصاً بعد انطفاء شعلته

الحب في عصر الذكاء الاصطناعي (موقع كونساي)

قد يكون الإنسان "حيواناً" عاشقاً أكثر مما يكون "حيواناً" ناطقاً، بحسب المقولة الفلسفية القديمة، بل قبل أن يكون ناطقاً. إنه آلة راغبة، بحسب تعبير الفيلسوفين الفرنسيين دولوز وصديقه غاتاري، في العشق وفي مزيد منه أكثر مما هو آلة ناطقة بالمنطق والعقل. لذا اقترن العشق بنوع من الجنون لا يحلو من دونه. وكلما كان العشق بعيداً من العقل الحساب، كان أجمل وأشد تأثيراً وفاعلية. وعليه، فالعشق ليس حالة عاطفية ثابتة ونهائية. ولعله من أجمل المشاعر الإنسانية. لكنه، ويا للأسف، ككل شيء آخر له بداية، وقد تكون نهايته وخيمة. وقد قيل قديماً: ما يبدأ ينتهي. من هنا، نرى قصص العشق الكبيرة تنتهي أحياناً على نحو دراماتيكي. لكن، ويا لحسن الحظ، هناك قصص نادرة لا تعرف الموت، بل على العكس يزيدها الزمان اشتعالاً ومودة؟  ما العمل إذاً؟

لنعد إلى البداية. قد تبدأ العلاقة بتدفق عاطفي كبير يحسم موقفاً لطالما يتردد فيه الانسان، أي بحب من نظرة أولى، فتكون أحاسيس جارفة طاغية، لا شيء يقف في طريقها. وقد تبدأ العلاقة باختيار عقلاني، فيعتقد الرجل أن خياره مبني على أسس سليمة، مما يجعله صامداً أكثر من غيره. وقد يجمع سعيد الحظ بين القلب والعقل في اختياره. لكن في جميع هذه الحالات، يبقى هناك شيء عصي على التفسير. 

لماذا هذا وليس ذاك؟ لماذا هذه وليس تلك؟ قد يقوم المرء بتحليل الأسباب التي جعلته يحسم موقفه، فيبدأ العقل الحساب بتعداد العوامل الذاتية والموضوعية التي حسمت موقفه، لكن يبقى، في الغرام والانتقام، شيء ما  لا يمكن تفسيره بحجج المنطق وبراهينه.

يحلو لي القول: كما أن هناك أرواحاً تتلاقى، هناك أيضاً أجساد تتلاقى. ونحن لا نعرف سلفاً ما العلاقات التي تناسب الجسد وتلائمه. وقديماً قال سبينوزا: "لا نعرف ما الذي يستطيعه الجسم"، أي لا نعرف سلفاً ما الذي يناسب هذا الجسد عندما يدخل في علاقات خارجية. فقد تكون هناك علاقات تسمم الجسد، وقد تكون هناك بالعكس علاقات تنعش الجسد وتزيده رونقاً وجمالاً على جمال. 

لكن، على رغم ذلك كله، قد يموت الحب وتنتحر الأشواق على ما كان يغني العندليب الأسمر. والسؤال: هل بالإمكان المحافظة على شعلة الغرام والانتقام متقدة؟ ما العمل لكي لا تنتحر المشاعر؟ أذهب إلى القول إن الحب، كأي شيء آخر يتقدم ويتأخر، يعلو ويهبط، يشتد ويخف، يقوى ويضعف، يعيش وينتحر، يدوم ويزول. وأذهب أيضاً إلى القول إن العشق الحق لا يتأتى إلا عن علاقة كاملة. فكل المشاعر والعواطف الجياشة قد تتبدد إذا لم يتلاق هذا الجسد مع ذاك. فنحن لا نعرف سلفاً ما الذي يناسب هذا الجسد أو ذاك.

 ماذا يعني أن نعشق اليوم؟

ماذا يعني أن نعشق، اليوم، في بداية الألفية الثالثة وفي ظل هيمنة الرأسمالية وتوحشها على الكوكب وفي ظل تحكم التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في حياتنا؟ ماذا يعني أن نعشق، اليوم، في ظل تراجع الحداثة وقيمها وفي ظل ما يعرف بالدولة العميقة التي تهيمن على العالم؟ ماذا يعني أن نعشق اليوم في ظل حرب أوكرانيا في قلب أوروبا - الحداثة وفي ظل حرب الإبادة في غزة؟ ماذا يعني أن نعشق اليوم في ظل عودة البربرية والتوحش وعودة الأصوليات والإيديولوجيات الدينية؟ ماذا يعني أن نعشق، اليوم، في ظل  طغيان العالم الافتراضي واندثار اللقاءات العينية؟ بل ماذا يعني أن نعشق، اليوم، في عصر الإنسال أي الإنسان - الآلة ومكوناته من الذكاء الاصطناعي؟ هل ما زال العشق ممكناً في ظل انهيار الاقتصاد وتراجع العملات في بلدان وازدهاره وارتفاع العملات في بلدان أخرى؟ أما زال العشق أولوية من أولويات الإنسان المعاصر الذي لم ينس بعد جائحة كورونا بحيث جعلنا فيروس ننظر إلى الآخر بوصفه "قاتلاً"؟

نلحظ تراجعاً مخيفاً، اليوم، في أدبيات العشق وخطاباته وأشعاره، بل نشهد ندرة في قصص الحب الجميلة والناجحة. فنحن لم نعد نسمع عن قصص العشق الكبيرة، بل لم نعد نكترث لذلك. ويقلقنا ما نشهده من رتابة قاتلة بين الأزواج بعد مدة قصيرة نسبياً من الزواج، إذ يقول المختصون إن عمر الزواج الافتراضي هو في أحسن الأحوال 10 سنوات. كما نشهد عزوفاً عن كل ما يؤسس لعلاقة سوية بين الرجل والمرأة حتى صارت هذه العلاقة عابرةً أكثر مما هي أصيلة. لماذا وصلنا إلى هنا؟ هل هذا قدرنا؟

ومع ذلك، يبقى العشق توجهاً أصيلاً في الإنسان. لذا نشهد دائماً انتعاشاً للحب وتجدداً له على رغم كل الظروف. فالحب يبقى سبيلاً أكيداً إلى السعادة لا تتحقق من دونه. وهو الذي يعطي الحياة معنى تفتقده دائماً. لكن الحب ليس غريزة فحسب، بل فن وتفنن وتمرين دائم وممارسة حية. وما لا يولد من دون الجنون، يحتاج إلى العقل كي يبقى ويستمر. الجنون يولد الحب والعقل يديمه.

من معاني العشق الممكنة اليوم

أن نعشق اليوم يعني أولاً أن نبقى نسعى إلى السعادة في حياتنا على رغم قساوة الحياة وعبثيتها أحياناً كثيرة. لكن من الحكمة أن نقنع برجاء السعادة، لا أن نطمع في تحققها والحصول عليها، أو بالأحرى من الحكمة أن نقنع بالقليل منها.

أن نعشق اليوم يعني ثانياً أن نحاول دائماً أن نعطي حياتنا معنًى راقياً ونبيلاً. ولا شيء كالعشق يهب حياة الرجل والمرأة معنى راقياً جميلاً. فالمودة بينهما كافية للتخلص من غياب المعنى وعدمية الحياة وعبثيتها وكافية للتغلب على مآسي الحياة وقتل الرتابة.

أن نعشق اليوم يعني ثالثاً أن نقاوم الابتذال الثقافي والاجتماعي المعمم والانحطاط المنتشر حتى تكون لنا القدرة الكافية على تحمل الحياة وعيشها بنوع من الفرح حتى النهاية. 

أن نعشق اليوم يعني رابعاً أن نقاوم التفاهة المنتشرة حتى في العلاقات بين الجنسين. فالتفاهة دخلت كل شيء وأفسدت كل شيء. 

أن نعشق اليوم يعني خامساً أن نعزز الحياة ونعيد الاعتبار إلى الحياة على هذه الأرض. فنحن أبناء هذه الأرض أولاً. وعلينا أن نعيش هنا. لذا علينا أن نحافظ على البيئة وأن نرعى الأرض، ذلك الكوكب الجميل الفريد الذي لا مثيل له الذي شهد ولادة الإنسان - الدازاين الذي يسأل عن الكينونة ويسائلها.

أن نعشق اليوم يعني أخيراً أن نبقى نبحث عن الحقيقة، أن نبقى نتفلسف حتى في علاقتنا بالآخر المختلف. فالحب، في جوهره، بحث عن الحقيقة قبل أن يكون شيئاً آخر، أي قبل أن يكون سعياً إلى اللذة والمتعة والأمان. ولا نتعرف على حقيقتنا الأنطولوجية إلا من خلال علاقتنا بالآخر المختلف هذا. فأنا، بما أنا، رجل لا أتعرف على حقيقتي وحقيقة رجولتي، بل حقيقة الله والكينونة إلا من خلال علاقتي بالمرأة. قد نجد حقيقتنا وحقيقة الكون هنا، في علاقاتنا الحميمة أكثر مما نجدها في الكواكب والمجرات والثقوب السود. قد يظن المرء أن اللذة محرك العلاقة بين الجنسين. لكنها، في الواقع، مجرد بعد سطحي من أبعاد العلاقة بينهما. وهي ليست البعد الأهم والأعمق على الأرجح. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قد يكون السعي إلى المتعة واللذة مجرد خداع بصري لشيء أعمق منه بكثير وهو البحث عن الحقيقة، حقيقة الإنسان والحياة والكون. فالعاشق باحث عن الحقيقة أولاً. فيلسوف يبحث عن سر الحياة والكون أولاً. ولعلنا في علاقتنا بالمرأة نبحث عن الحقيقة، عن حقيقة ذواتنا وحقيقة الكون، بل حقيقة الله أكثر من أي شيء آخر. لذا تبقى العلاقة بالمرأة مثيرة للانتباه، إذ يبقى يدهشنا هذا التلاقي، جسدياً ومفصلياً ونفسياً، بين الرجل والمرأة، بل يبقى يدهشنا هذا الاختلاف العميق والكبير الذي يجمع ولا يفرق. ولعل التلاقي النفسي أكبر وأعمق بكثير من التلاقي الجسدي. التلاقي الحميم والأرفع والأجمل عبر الاختلاف. وكلما كانت المرأة امرأة، تعرف الرجل من خلالها إلى حقيقته أكثر. والأمر سيان، بل أكثر مع المرأة. 

المرأة طبقات وأعماق

المرأة تبقى ذلك المجهول حتى بالنسبة إلى نفسها، وبالأخص بالنسبة إلى نفسها، حتى تتعرف إلى الرجل الذي يناسبها ويكون على مزاجها وتقيم معه علاقة، فتبدأ عندئذ رحلة اكتشاف ذاتها التي لا تنتهي. أعماق وطبقات جسمية ونفسية تبحث عمن يسبر غورها، وسطوح وتضاريس تبحث عمن يوقظها ويكتشفها، وأسرار لا تنتهي يتم التعرف عليها على التوالي، وألغاز تفك شيفراتها تباعاً. كيف نجمع بين مختلفين؟ ذلك السر الأكبر الذي نحاول جميعاً أن نعرفه، لكن من دون جدوى.

ئي. إنه يصير مسألة فن. وعلى الطرفين أن يكونا فنانين كبيرين، كأي فنان كبير، وأن يعملا ويجتهدا بشكل دائم للحفاظ عليه.إنهما يرسمان لوحتهما الفنية التي قد تساوي ملايين الدولارات (وربما لا تقدر بثمن)، وقد لا تساوي شيئاً. بناء عليه، فإن العشق عمل يومي نحوكه كما يحوك الأعجمي، بكل صبر وروية، سجادته - اللوحة التي لا تبلى، بل تزداد روعة وجمالاً كلما تقدمنا في الزمان.

وعليه، أن نعشق اليوم يعني أن نبقى نسعى إلى السعادة على رغم فشلنا في الحصول عليها، وأن نحاول دائماً أن نمنح حياتنا معنى على رغم عبثيتها، وأن نعزز الحياة ونحافظ على الأرض، وأن نقاوم الابتذال على رغم طغيانه، وأن نقاوم التفاهة حتى في العلاقات بين الجنسين، وأن نتغلب على مآسي الحياة على رغم كثرتها، وأن نبحث دائماً عن حقيقتنا وحقيقة كينونتنا على رغم تواريها وانحجابها دائماً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة