Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مسرحية "ماغما" صرخة امرأة على حافة البركان

عصام أبو خالد وبرناديت حديب يستعيدان جنون الحياة في بيروت ومأساة انفجار المرفأ

برناديت حديب ممثلة وحيدة في مسرحية "ماغما" (خدمة المسرحية)

ملخص

عصام أبو خالد وبرناديت حديب يستعيدان جنون الحياة في بيروت ومأساة انفجار المرفأ

من يشاهد مسرحية "ماغما" (مسرح دوار الشمس - بيروت) للمخرج والكاتب عصام أبو خالد والممثلة برناديت حديب يدرك أن اختيار مثل هذا العنوان بدا مطابقاً للمأساة التي يتمثلها النص، والتي تعانيها الشخصية الرئيسة التي هي قرينة الممثلة، في بعض التفاصيل. وقد لا يتهيأ للمشاهد الذي يدخل الصالة ويفاجئه البياض الذي يغمر السينوغرافيا من خلال السرير والشراشف ولباس الشخصية، أن ما وراء هذه الرؤية الباردة برود الموت، ستنفجر حمم أو "ماغما" بركان داخلي يخفيه هذا البياض، محولاً السرير إلى بؤرة صراع نفسي وجسدي تتخبط فيه الشخصية – الممثلة.

يصدم السرير الذي استعان به الكاتب والمخرج عصام، بحضوره كعنصر سينوغرافي ودرامي بارز، لا سيما بعد أن يتخطى الصورة الرائجة التي رسخها في الذاكرة المشهدية، المسرحية وحتى السينمائية، الكلاسيكية (الإغريقية خصوصاً) والحديثة. فهو هنا يجسد ما يشبه المقدمة لاستحالته لاحقا، مع تنامي النص والتمثيل، مقبرة أو قبراً، بحسب مقولة الناقد الفرنسي رولان بارت، في قراءته مسرحية أشيل "أورستي" وتحليله لمفهوم السرير المعد ليصبح قبراً. هذا السرير في مسرحية "ماغما" يحمل ذكرى الحب الزوجي وذكرى الأمومة (ولادة الطفل)، وربما ذكرى مرض عابر أو استراحة... لكنه يكتسب هنا المعاني أو "الوظائف" كلها، ويسبكها ليهيئ لنفسه الغاية الأخيرة، وهي أن يصبح قبراً. وكم نجح فعلاً المخرج عندما قلبه قبراً في الختام رافعاً على طرفه ما يشبه الشاهدة التي ظلت بيضاء ولم يكتب عليها اسم الراحلة (افتراضاً) ولا تاريخ الرحيل. لعله مشهد رهيب هذا المشهد الذي ينتصب فيه جزء من السرير، عمودياً، متجاوزاً وظيفته الافقية المألوفة، على أن يتحول جزء آخر منه إلى ما يشبه الحفرة التي تتم فيها "سقطة القبر". وهنا أيضاً يمسي بياض الملابس بياض كفن، هو الكفن الذي يحمله الإنسان معه منذ الولادة.

تخت الحياة والموت

قد تكون هذه المسرحية من أهم المسرحيات التي عرضت في بيروت أخيراً، على رغم مبدأ "الفقر" الذي اعتمدته، في ما يشبه مقولة المخرج غروتوفسكي، ولكن بعيداً من البعد الاختباري أو التجريبي. إنها أولاً مسرحية الممثلة الواحدة أو مونودرامية، على رغم اختراق الصوت الخارجي (فوا أوف) للعرض في أحيان، وهو صوت ليس غريباً عن النص أصلاً، ثم هي مقتصرة سينوغرافياً أو "ديكورياً" على ما تيسر من عناصر: التخت، الشراشف، الخزانة التي هي امتداد للتخت والتي تدخلها الممثلة وتخرج منها. هذا إن لم نحسب الإضاءة البارعة، التعبيرية الطابع، التي أبدع سرمد لويس في تصميمها وتنفيذها، حتى لأصبحت جزءاً من السينوغرافيا ومن المشهدية نفسها، خصوصاً بزرقتها العميقة وإرهافاتها (نويانس) التي رافقت أداء الممثلة، في حركاتها والنقلات النفسية التي تعيشها. ولا يمكن تناسي المزهرية التي إلى جانب السرير وغدت باقة الزهر فيها، كأنها هدية الزواج والحب والجنازة أو الموت. تخيلت المزهرية الصامتة تماماً، منزوعة من لوحة للرسام البديع إدوارد هوبر. ولعل هذا التقشف في الديكور هو ما منح الفضاء المشهدي مزيداً من الغنى البصري والتعبيري والنفسي. فالسرير نجحت الممثلة القديرة برناديت حديب، بأدائها وحركاتها وتعابيرها وقصصها، في جعله مكاناً متخلياً ومفتوحاً، فيه تتخاطف ملامح حياتها اليومية ومعالم المدينة وأطيافها، وأشلاء انفجار مرفأ بيروت وشبح ابنها الذي قضى في الانفجار... كل هذه تخاطفت تخاطفاً متخيلاً، جسدته الممثلة ببراعة فائقة، مانحة جسدها حرية كبيرة في التعبير وكسر المعايير الراسخة وخوض غمار الشخصية بجرأة. نجحت برناديت حديب كثيراً في صهر إيقاعاتها، الجسدية والنفسية في آنٍ واحد، وفي دمج إيقاعات الحياة التي حولها، إيقاع الزمن الذي هو زمن مدينة هوجاء ومجنونة، وإيقاع المكان الذي هو أيضاً مكان مدينة كانت على حافة الانفجار وانفجرت. إنها الإيقاعات المتفاعلة بعضها ببعض: التوتر، الخوف، القلق، التمزق، الانفعال، الغضب، الهستيريا... وفي مقابلها: الحب، الأمومة، الضعف، الحنان... هذه الإيقاعات جبلتها برناديت وصقلتها ونسجت منها أداءً بارعاً، داخلياً وخارجياً، واقعياً وتعبيرياً، نفسياً وفيزيقياً.

إذاً، هي شخصية على حافة الانفجار، ثم في قلب الانفجار. امرأة ترقد في السرير في غرفة الزوجية مغلقة الباب على نفسها، منقطعة عن الخارج، وربما عن الحياة نفسها. شخصية سلبية في المعنى البيكيتي خصوصاً، عندما يوقظها صوت زوجها (عصام أبو خالد) من خارج لتستفيق من النوم، تكتشف أنها تكره النهوض، بل إنها عاجزة عنه، فهي كما تقول، مشلولة وجسمها يؤلمها. اصرخي بلا صوت يقول لها (مثل الرجل الذي على الجسر في لوحة مونخ، افتحي الباب من أجل ابنك، ولكن لا أثر... يظل السرير فضاءها حتى ولو نهضت منه أحياناً وتجلس على حافته، أو لتواصل أداءها أو ترقص "السلو" أو تدخل الخزانة وتخرج منها. إنها امرأة سريرية في المعنى السيكولوجي، غائبة بين نوم لا يغادرها على رغم تفتيح عينيها، ووعي يتجه نحو واقعها السلبي الذي هو واقع الحياة اليومية التي لا تكاد تشبه الحياة (الروتين اليومي المضجر والقاسي)، وواقع بيروت وناسها البائسين، وكذلك اللبنانيون البائسون عموماً، مثلما يتجه أيضاً نحو الذكريات البعيدة (الزواج، الحمل، الوضع، والتفاصيل الأخرى)، والذكريات القريبة والأليمة جداً، والتي تبلغ ذروتها المأسوية في مقتل الابن في انفجار مرفأ بيروت. ولعل هذا الانفجار وموت الابن، كانا على ما يبدو الحافز الأخير الذي دفعها إلى حال الهستيريا "النفروزية" والعصابية، التي تعيشها وما نجم عنها من كره للحياة ورفضها والاعتزال في قلب السرير. ولا تتمالك عن عيش أقصى مواقفها السلبية، في موقف ساخر سوداوي وعبثي، مكررة لفظت "تفوه" التي لا توفر تفصيلاً من تفاصيل حياتها المتوترة: الماء المقطوعة، الكهرباء المقطوعة، المولدات الكهربائية، مدرسة الصبي، زحمة السير، السيارات، الراديو، التلفزيون، المسلسلات (علماً أنها ممثلة تلفزيونية)، البرامج، النواب... حتى الصبي يناله قسط من غضبها، ولكن في أيام ما قبل موته، لكنها في مشهد لاحق، رهيب، قاس وحنون، تستعيد الابن حين الولادة والمخاض وبعض الذكريات صارخة صرخة الأم الثكلى المجروحة: "خليك جواتي"، أي "ابقَ في أحشائي"، وكأنما تقول له: ليتك لم تخرج إلى هذا العالم الوحش.

سخرية سوداء

وفي موقف هجائي آخر، ساخر سخرية تامة السواد، تعمد عبر تداعياتها المتوترة إلى تشريح الجسد تشريحاً قاسياً، مرضياً، فيسقط الكبد ثم الكليتان ثم المرارة ثم المصران ثم البراز... كأننا أمام لوحة لرسام القسوة، فرنسيس بيكون. ويتصاعد العنف اللفظي والمجازي والحسي عندما يطول الكلام الهذياني لاحقاً، انفجار المرفأ، شاملاً سوق المسلخ، فتصرخ بصوت قوي ومجروح: خواريف، لحمة، دم، اشلاء، روائح... مشهد قاس يتجسد عبر أداء حسي ونفسي، متوتر ومتحرك وزاخم، حتى ليخيل للمشاهد أنه يرى مشهد الانفجار وتطاير الأجساد والأشلاء بعينيه. تختلط هنا أشلاء البشر وأشلاء الخراف لتصبح كلها ذبائح ذبحت هدراً ووحشية. وعندما تتحدث عن الانفجار وعمود الدخان الذي ارتفع تجعلنا برناديت نبصر هذا العمود بقدرتها التعبيرية. كأننا أمام مشاهد تتجسد بالصوت والحركة والتشكيل الجسدي، على رغم فراغ الخشبة مبدئياً. وهنا التحدي في التمثيل والإخراج.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تسأل الشخصية نفسها هل هي نائمة أم مستيقظة، ولعلها فعلاً بين نوم ويقظة، بين وعي وهذيان، تعلو وتهبط كالمصابين بما يسمى "ثنائية القطب" (بيبولير). تتذكر أو تتوهم أن الشباك "فسحة الأمل" قد طار، ثم تسترجع بعيني الطفلة التي كانتها، إصابة أمها مرة بشظايا الزجاج التي جرحت رأسها بعد سقوط قذيفة في الحرب. "أنا لا أحب العنف، أنا غاندية"، تقول في لحظة دفاع أو رد فعل، تواجه به العنف الذي يهزها. وتعترف أن القلق يساورها، قلق في الداخل، قلق بالفصحى كما تلفظه الجماعة الدرزية. ولا يغيب الشيعة ولا مريم وطفلها في المغارة، في سياق تداعياتها التي تتوالى. ولا يغيب شبح العتمة الذي يسكنها، بل السواد الذي لا ينفصل عن السمرة التي ورثتها عن أب أبيض وأم سمراء. هنا تسخر من، العنصرية بخفر، واضعة السواد مقابل البياض، وذاكرة الشوكولا، لكن الأسود هو الأقوى، والعتمة هي الأفضل. في العتمة يكمن الأمان، "لا أراهم ولا يرونني"، والليل هو الهدوء.

"ماغما" مسرحية فريدة ومتفردة في قوتها الدرامية ومتانتها المشهدية ولغتها التعبيرية المتراوحة بين القسوة والحنين، عطفاً على حفرها في الجروح اللبنانية التي أثقلت الجسد  والروح. نص عميق وحيّ، يغرف من اللاوعي الفردي والجماعي، ويلقي ضوءا ساطعا على معاناة الإنسان والذات الانسانية، في زمن فقدان الذاكرة والجنون المجازي والحقيقي، وتضعضع الهوية الشخصية.

عصام أبو خالد يضيف إلى ريبرتواره الإبداعي، كاتباً ومخرجاً، عملاً مسرحياً يرسخ حضوره في الساحة المسرحية اللبنانية والعربية، وبرناديت حديب، الممثلة ذات القماشة النادرة، تضيف إلى مسارها الغني خطوة تحمل كالعادة مفاجأة باهرة.  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة