Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جدل الالتباس في موقف طرفي الحرب السودانية

إغفال بعض المقدمات السياسية لن يؤدي إلى تقييم موضوعي لمسار النزاع بالبلاد

بات واضحاً أن سبب الحرب يتمثل بالأساس في اختلاف موقفي الجيش و"الدعم السريع" من الاتفاق الإطاري (أ ف ب)

ملخص

يتمثل سبب حرب السودان الرئيس في اختلاف موقفي كل من الجيش و"الدعم السريع" من "الاتفاق الإطاري"

قد يبدو وصف " العبثية" على الحرب التي اندلعت بين الجيش وقوات الدعم السريع منذ 15 أبريل (نيسان) الماضي، (وهو وصف أطلقه عليها قائدا الجيش، والدعم السريع) وصفاً محفزاً  للبعض على إغفال بعض المقدمات السياسية الضرورية الدالة على مواقف معلنة لكل من طرفي الحرب قبل اندلاعها، والتي كانت سبباً أصلياً في اندلاعها،  لأنه متى ما تم إغفال معرفة تفسير مسار أحداث الحرب اليوم بعيداً عن أسبابها السياسية، سوف لا يمكِن لأي مراقب تقدير رأي موضوعي في  تحليل المواقف السياسية للطرفين، ما قبل الحرب، وعلى رأس ذلك؛  الموقف من الاتفاق الإطاري.

وإذا بات واضحاً اليوم أن سبب الحرب الرئيس كمن بالأساس في اختلاف موقفي كل من الجيش والدعم السريع من الاتفاق الإطاري (رغم توقيع الطرفين عليه في 5 ديسمبر/ كانون الأول 2022) فقد كان واضحاً، كذلكً، أن بعض  قادة الجيش، آنذاك، قد لمحوا إلى ضرورة أن يشمل الاتفاق الإطاري "آخرين"، حيث نقلت صحيفة "سودان تريبيون" في 16 فبراير (شباط) 2023- أي قبل الحرب بشهرين - عن البرهان قوله إن "الحرية والتغيير كانت لديها فرصة لقيادة السودان في عام 2019 وما تزال أمامها الفرصة ويجب عليهم أن يجلسوا مع الآخرين" فيما كان الموقف السياسي لتحالف قوى الحرية والتغيير/ المركزي، هو ترحيبه بتوقيع القوى الموقعة على اتفاق جوبا مثل حركتي "العدل والمساواة" بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة "جيش تحرير السودان" بقيادة مني مناوي، على الاتفاق الإطاري، دون بقية تحالف "الكتلة الديموقراطية" الذي شمل في قيادته عناصر من قادة المؤتمر الوطني مثل الناظر محمد الأمين ترك، وغيره.   

وكان واضحاً أن: "النوايا الحقيقية للقادة العسكريين في ما يتعلق بتسليم السلطة إلى المدنيين لم يفاجأ سوى عدد قليل من السودانيين عند إدراكهم أن البرهان لم يكن ينوي الامتثال لقائد مدني" بحسب تقرير الذي نشره مركز مالكوم كير - كارينغي للشرق الأوسط، في 12 يناير (كانون الثاني) 2023م.. هذا، في الوقت الذي كان فيه رموز النظام القديم من قادة المؤتمر الوطني يعلنون بوضوح، في أكثر من مناسبة، خلال افطارات رمضانية في أبريل (نيسان)/ رمضان الماضي بأنه إذا تم التوقيع النهائي على الاتفاق الإطاري في أي ترتيبات قادمة (وكانت هناك مواقيت محددة لذلك خلال شهر أبريل) فإنهم سيعلنون عليه الحرب.

اندلاع الحرب بعد ذلك  في 15 أبريل، يفسر لنا اليوم حقيقة  المسار  السياسي لقائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان في سعيه للانفراد بالسلطة، فهو حتى بعد توقيع اتفاق 17 أغسطس 2019 مع تحالف قوى الحرية والتغيير، ظل يضمر انقضاضاً على الانتقال السياسي الذي قادته حكومة الثورة برئاسة عبد الله حمدوك بين  عامي 2019 – 2021 مما أدى بالبرهان في النهاية إلى الانقلاب العسكري على حكومة الثورة  بالتعاون مع حميدتي في يوم 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 (تراجع حميدتي بعد ذلك عن الانقلاب واعتذر عنه في يوم توقيع الاتفاق الإطاري 5 ديسمبر 2022 فيما صرح البرهان في نفس ذلك اليوم لقناة العربية أن "ما جرى في 25 أكتوبر لم يكن خطأ وإنما ضرورياً لكشف الحقائق".

وفي ضوء ما ذكرنا من معطيات تتصل بطبيعة مواقف الطرفين العسكريين، آنفاً، سندرك بطبيعة الحال؛ أن ما يفسر لنا سبب الحرب يتمثل في نية قادة في الجيش  لإزاحة حميدتي من طريقهم للالتفاف على الاتفاق الإطاري، ومحاولة الالتفاف هذه هي التي تم التعبير عنها بالحرب.

وهكذا سيبدو جلياً  أن ما كان سهلاً على البرهان والجيش حين أزاح حكومة  حمدوك بقيادة المدنيين عبر  انقلاب 25 أكتوبر 2021 كان لا يمكن له أن يتم  مع قائد قوات الدعم السريع ، فاندلعت الحرب في 15 أبريل 2023

خلال الحرب برزت معطيات كثيرة كشفت عن طبيعة التوجه الذي عكس كل ما يدل على طبيعة وهوية حلفاء الجيش من عناصر النظام القديم؛ سواءً عبر ماسمي بكتائب الإسلاميين التي كانت ولا تزال تقاتل مع الجيش ضد قوات الدعم السريع (مثل كتيبة البراء) – كما كشفت رويترز عن ذلك في الشهور الأولى من الحرب - أو عبر العقوبات التي ألحقتها الولايات المتحدة برئيس الإخوان المسلمين في السودان المدعو علي كرتي، لدوره في إعاقة الانتقال الديمقراطي في السودان (وهي عبارة دبلوماسية مخففة لمعنى تسبب جماعة عناصر النظام القديم في إشعال الحرب يوم 15 أبريل عبر ضباط متنفذين منهم داخل الجيش) ثم أخيراً ما رصدته الولايات المتحدة قبل أسبوع، من مبلغ 5 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عن المدعو أحمد هارون أحد أخطر قادة الاخوان المسلمين الذين تم اخراجهم من السجن بعد الحرب، والمطلوب للمحكمة الجنائية الدولية لتورطه في أعمال إبادة خلال حرب دارفور. وكان هارون "قد أصدر تسجيلاً صوتياً يطالب فيه عضوية حزبه المحلول بدعم القوات المسلحة في حربها ضد الدعم السريع، بعد أن هرب من سجن كوبر ضمن قيادات أخرى بتاريخ 25 أبريل، بعد مضي 10 أيام على اشتعال الحرب"، بحسب صحيفة التغيير السودانية. 

وأخيراً سنجد أن الدعوة إلى استمرار الحرب (رغم الكوارث الحقيقية الناجمة عن استمرارها على الشعب السوداني بحسب تقارير الأمم المتحدة) عبر التصريحات الواضحة للبرهان، ولدعاة استمرار الحرب، ثم التوجه لإعادة العلاقات مع دولة إيران التي زارها قبل يومين  وزير الخارجية السوداني المكلف علي الصادق؛ سنجد كل ذلك هو مما لا يمكن لأي مراقب أن يغفل عنه فيما  وهو يحلل طبيعة مواقف طرفي الحرب.

إن القفز إلى استنتاجات وخلاصات شكلية من ظاهر الصراع بين الجيش والدعم السريع خلال هذه الحرب قد يمنح بعض المراقبين حججاً نسقية لتصورات عامة، لكن واقع الحال يدل على أنه من الاستحالة بمكان الخروج بمنطق متماسك في تفسير سردية كهذه للحرب من خلال ذلك المنظور المثالي الخارجي، ما لم يستصحب المراقب إدراكاً لهوية الصياغة الأمنية لوقائع الأحداث التي ظل يختلقها المكون العسكري (وهو الاسم الذي كان يطلق على كل من الجيش والدعم السريع) طوال سنوات ما بعد الثورة لتيئييس الشعب السوداني من حكم المدنيين الذي مثلته حكومة الثورة، فانتهى الأمر إلى انقلاب البرهان على حكومة الثورة في 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 وما نجم عن ذلك الانقلاب من تداعيات  هذه الحرب الكارثية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا، قد تتقاطع بعض رؤى المحللين لوقائع الحرب السودانية مع سردية طالما سوق لها أنصار الحرب وعناصر النظام القديم، وهي؛ تصوير القوى السياسية و المدنية المنضوية تحت "تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية" (تقدم) بقيادة رئيس وزراء حكومة الثورة السابق عبد الله حمدوك، على أنها ظهير سياسي لقوات الدعم السريع، وفي تصورنا أن من يخلص إلى مثل هكذا تحليل هو شخص غير مدرك لطبيعة المواقف السياسية الصلبة لتحالف قوى الحرية والتغيير خلال السنوات الأربع الماضية، حيث كان من ثوابت تلك القوى في نضالها من أجل تحقيق مبادئ الثورة؛ الدعوة الواضحة إلى تكوين جيش وطني مهني واحد ذي عقيدة وطنية، عبر عمليات دمج تشمل كلاً من الدعم السريع وجيوش الحركات المسلحة عبر البنود التي صممها الاتفاق الإطاري، وكان ذلك الموقف الثابت لتحالف قوى الحرية والتغيير، يتم التعبير عنه بوضوح  في وقت  كان يحَّرم  فيه حميدتي أي دعوة له إلى دمج قوات الدعم السريع في الجيش، بل كان حميدتي يعتبر ذلك خطاً أحمر لا يمكن التسامح معه أبداً.

لكن تطورات ما بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021 مباشرة، من ناحية، والتطورات التي انعكست ضغوطاً غربية أميركية شديدة على حميدتي في عام 2022 (وبخاصة إثر زيارته لموسكو عشية يوم الغزو الروسي لأوكرانيا في 26 فبراير/ شباط 2022) من ناحية ثانية، كل تلك التحولات الدراماتيكية في مواقف حميدتي هي التي جعلته يختار الانحياز إلى الاتفاق الإطاري، وبالتالي هو الذي تماهي مع الموقف الثابت لتحالف قوى الحرية والتغيير آنذاك – قبل اندلاع الحرب – وليس العكس، فيما اليوم لاتزال تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم) في موقفها القديم الذي انحاز إليه حميدتي بانحيازه المعلن للاتفاق الإطاري والذي كان السبب الذي فجر  الخلاف بينه وبين الجيش وأدى إلى الحرب.

للأسف ثمة الكثير من تحليلات مراقبي الحرب السودانية لا تنتبه إلى هذه الحيثيات الصلبة في أسباب اندلاع الحرب، ولا إلى السياقات السياسية المتصلة بوضوح في الإشارة إلى أسباب كافية تجعل من إشعال الحرب في 15 أبريل (نيسان) مصلحة خالصة لفئة سياسية وعسكرية معينة ظلت باستمرار  تعلن موقفها الرافض والمعلن للاتفاق الإطاري. استراتيجية أنصار الحرب ظلت باستمرار تستثمر سردية توجيه الاتهام إلى (تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية) "تقدم" لأنهم يدركون تماماً أن كل المعطيات السياسية والاتفاقات التي تم التوقيع عليها؛ منذ اتفاق 17 أغسطس (آب) 2019، إلى الاتفاق الإطاري في 5 ديسمبر (كانون الأول) 2022 كان مضمونها يقوم على كيفية إخراج كل من الجيش والدعم السريع من السلطة السياسية في أي مرحلة سياسية جديدة بعد الحرب، وإيكال إدارة البلاد إلى سلطة سياسية مدينة تقود البلاد لمرحلة انتقال سياسي جديد، هذا هو شرط المجتمع الإقليمي والدولي الثابت  الذي يرى فيه مخرجاً حقيقياً من مأزق الحرب في السودان، فيما تبدو سردية أنصار الحرب واضحةً جداً في توجيه سهامها إلى القوى السياسية وبخاصة تنسيقية (تقدم) أكثر حتى من خصومهم في الميدان (قوات الدعم السريع).

 وما التسريبات التي عكست مجريات المفاوضات السرية في العاصمة البحرينية (المنامة) والتي كشفت عنها وكالة رويترز، مؤخراً،  بين كل من  نائب البرهان الفريق الكباشي ونائب حميدتي الفريق عبد الرحيم دقلو، بعيداً عن أي إشراك لجهة سياسية مدنية، سوى دليل على أن رهان دعاة الحرب والمتنفذين في حكومة بورتسودان يستميتون اليوم في  البحث عن ضمان  لشراكة سياسية مع الدعم السريع في مرحلة ما بعد الحرب على حساب إبعاد قوى الثورة والقوى السياسية المدنية وعلى رأسها تنسيقية (تقدم).

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل