حين سألت السكرتير الصحافي للرئيس الروسي ديمتري بيسكوف يوم 3 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي عن التقارير التي تفيد بأن واشنطن تشعر بالقلق من أن ممثلي مجموعة "فاغنر" العسكرية الخاصة قد تنقل أنظمة صواريخ "بانتسير" المضادة للطائرات إلى جماعة "حزب الله"، رد بشكل مبهم قائلاً إن "الولايات المتحدة يمكن أن تعرب عن مخاوفها لوزارة الدفاع الروسية في شأن احتمال قيام هذه المجموعة بتسليم نظام الدفاع الجوي بانتسير إلى جماعة حزب الله".
إضافة إلى ذلك، تهرب بيسكوف من الإجابة بوضوح على المعلومات التي تفيد بأن بافيل نجل يفغيني بريغوجين قد يرأس مجموعة "فاغنر". وأضاف "هذا ليس سؤالاً بالنسبة لنا في الكرملين، هذا ليس موضوعنا. ليس لدي أي معلومات هنا".
وزاد الغموض غموضاً مردداً "لقد قلنا بالفعل أن مثل هذه المجموعة (فاغنر) غير موجودة قانوناً وإن كانت ما زالت بحكم الأمر الواقع منتشرة في الكثير من المواقع والبلدان، لذا فإن كل هذه المخاوف الأميركية، كقاعدة عامة، لا تستند إلى أي شيء وليس لها أي أساس. هناك قنوات اتصال للطوارئ عبر الجيش. إذا كان هناك بالفعل قلق لدى واشنطن مما يمكن لفاغنر أن تفعله".
فعندما عقد الرئيس بوتين اجتماعاً مغلقاً مع أعضاء جماعة "فاغنر" أنفسهم وقائدهم يفغيني بريغوجين في يوليو (تموز) الماضي داخل الكرملين، عرض على المقاتلين عدة خيارات لمزيد من العمل ولكن تحت سلطة الدولة، بما في ذلك تحت قيادة أحد قادتهم. ومع ذلك، رفض بريغوجين، الذي كان حاضراً أيضاً هذا العرض من دون إبطاء.
وقال بوتين: "أومأ كثيرون عندما قدمت عرضي هذا. وقال بريغوجين، الذي كان يجلس في المقدمة ولم ير إيماءات رجاله في الخلف: "لا، الرجال لا يوافقون على هذا القرار".
وضعت وفاة بريغوجين في حادثة تحطم طائرة فوق منطقة تفير حداً لعدم اليقين هذا. والآن، وفقاً لتقارير عديدة، تم حل شركة "فاغنر" بالكامل كشركة عسكرية أمنية خاصة، وينتقل مقاتلوها السابقون للخدمة في الهياكل الرسمية. وهكذا، أصبح بعض المرتزقة السابقين جزءاً من القوات الخاصة الشيشانية "أخمات" وأنشأوا وحدة خاصة لهم تحت اسم "الشوكة الرنانة" داخلها. وقال المشاركون فيها إنهم يقومون حالياً بالتنسيق القتالي في مناطق التدريب ويستعدون لتنفيذ المهام في جبهات القتال بأوكرانيا.
اليوم، ومع استمرار قرع طبول الحرب في جميع أنحاء الشرق الأوسط، واندلاع اشتباكات في بلدان متعددة تثير مخاوف من نشوب صراع أوسع، تعود مجموعة "فاغنر" الروسية إلى الأضواء مرة أخرى، بعد أن خبا بريقها منذ مقتل مؤسسها وزعيمها يفغيني بريغوجين الصيف الماضي في حادثة تحطم طائرته الخاصة في ظروف غامضة لم ولن يتم الكشف عنها، لأن لا مصلحة لأي قوة فاعلة ومؤثرة في ذلك.
فبعد 7 أشهر من فشل تمرد "فاغنر" على موسكو، و5 أشهر من انفجار طائرة قائدها السابق يفغيني بريغوجين وعلى متنها كبار قادته في الجو، يجرى الآن استدعاء مقاتلي هذه المجموعة الشرسة لحمل السلاح بمباركة الكرملين.
فقد عادت ميليشيات شركة "فاغنر" العسكرية الروسية الخاصة إلى الواجهة، لكن هذه المرة من خلال الفيلق الأفريقي الذي يديره الكرملين سراً، ليكون بمثابة الذراع الأمنية الطولى في منافسة موسكو على مد نفوذها إلى القارة السمراء وترسيخها هناك، والاستفادة من ثرواتها وخيراتها، لا سيما النفطية والمعدنية منها، خصوصاً في ليبيا والسودان وأنغولا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر.
تدرب القناصة
كما عادت هذه الميليشيات إلى الأضواء من مركز تدريب قوات وزارة الداخلية البيلاروسية، حيث بدأت دورة تدريب القناصة تحت إشراف مدربين من مجموعة "فاغنر"، بحسب رسالة نشرتها الداخلية البيلاروسية على قناة "تليغرام" الخاصة بالقوات الداخلية التابعة للوزارة.
وجاء في الرسالة: "بدأ القناصة في إتقان تخصص ضيق جديد. وبدأت دورة تخصصية ضيقة للقناصين تحت إشراف مدربين من شركة فاغنر في مركز تدريب القوات الداخلية".
تجدر الإشارة إلى أن "الموسم السادس من الدورة التدريبية التكتيكية الخاصة تحت إشراف مدربين من شركة فاغنر يجري على قدم وساق". وجاء في التقرير: "في هذه الأيام القليلة فقط، تدرب جنود القوات الخاصة التابعة للقوات الداخلية على الحركة في تشكيلات ما قبل المعركة والقتال، وقاموا بمهام تمهيدية مختلفة في المناطق المشجرة".
وقال رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو في أغسطس (آب) الماضي إن جنود "فاغنر" المتمركزين في الجمهورية ينقلون تجربتهم القتالية في أفريقيا وأوكرانيا وسوريا إلى الجيش البيلاروسي والقوات الخاصة مجاناً.
وذكرت وزارة الدفاع البيلاروسية أنها طورت خوارزمية واضحة لنقل الخبرة القتالية مع مجموعة "فاغنر".
بدوره، قال نائب وزير الداخلية البيلاروسي- قائد القوات الداخلية نيكولاي كاربينكوف، إن جنود القوات الداخلية والقوات الخاصة التابعة لهيئات الشؤون الداخلية في بيلاروس لا يتعلمون فقط من تجربة ممثلي "فاغنر"، بل يقومون أيضاً بتنفيذ وتنسيق العمليات القتالية.
وأكد كاربينكوف أن وحدات القوات الخاصة خضعت لدورة قوية للغاية من التدريب القتالي الخاص بفضل مدربي مجموعة "فاغنر".
إغراءات بوتين
يبدو أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي صار أكثر حذراً من غدر هذه الميليشيات بحكمه، قرر توجيه نشاطها إلى الخارج، والاستفادة منها أينما كان ذلك ممكناً لتعزيز نفوذ روسيا ونفوذه شخصياً في أي مكان يجد إليه سبيلاً، لذلك خلق لهذه القوة المسلحة راية جديدة للقتال تحتها هو "فيلق أفريقيا"، الذي يحاكي اسمه الحملة الألمانية التي شاركت في الصراع ضد القوات البريطانية والقوات المتحالفة معها في ليبيا في الحرب العالمية الثانية بقيادة المارشال إروين روميل.
بغض النظر عن التسميات ولون الرايات، تعمل مجموعة "فاغنر" السابقة، على تعزيز وجودها في ليبيا والسودان، وهما جزء من منطقة شديدة التقلب، إضافة إلى تعزيز وجودها في الدول الأفريقية، حيث حلت محل القوات الغربية الراحلة. ويقال إن العديد من مقاتلي "فاغنر" السابقين أعربوا عن اهتمامهم بالانضمام إلى الفيلق.
رئيس لجنة الدفاع في مجلس النواب الروسي (الدوما) أندريه كارتابولوف يقول إن "فاغنر" كهيكل قانوني لم تعد موجودة اليوم، سواء رسمياً أو فعلياً، ومعظم المقاتلين بصدد الانتقال إلى هياكل أخرى. الكثير من مقاتليها يواصلون تنفيذ مهام في البلدان الأفريقية، ولكن، على سبيل المثال، تحت علامة تجارية مختلفة وتحت رعاية وزارة الدفاع، بعد أن وقعوا عقوداً مع القوات المسلحة، وانضم البعض الآخر إلى الحرس الروسي.
في الوقت نفسه لاحظ أندريه كارتابولوف، أن "بعض الجنود اختاروا راحة مستحقة، لكن مهما كان الأمر، فإن الغالبية العظمى من المشاركين السابقين في شركة فاغنر حريصون على مواصلة تنفيذ المهام القتالية لحماية وطننا الأم"، بحسب ما ذكر البرلماني المقرب من بوتين.
وأشار أندريه كارتابولوف أيضاً إلى أن مقاتلي "فاغنر" السابقين يتمتعون بوضع المتطوعين، سواء كان ذلك بعقد مع وزارة الدفاع أو الحرس الوطني، فكل منهم يدخل في واحدة من اختياره وبشكل فردي على أساس عام، بمعنى آخر، لا يوجد استيعاب لـ"فاغنر" كبنية واحدة من قبل أي قسم محدد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا، تبين أن التقارير الأولية الصادرة عن المطبوعات الإقليمية في إقليمي بيرم ونوفوسيبيرسك الروسيين حول التوظيف الضخم لعناصر "فاغنر" السابقين في الحرس الروسي كانت مزيفة، فقد كتب الصحافيون، على وجه الخصوص، أن بافيل نجل بريغوجين سيقودهم، لكن رئيس لجنة تكنولوجيا المعلومات بمجلس الدوما ألكسندر خنشتين دحض هذه المعلومات.
وكتب خينشتين في قناته الرسمية على "تليغرام" أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي: سأقولها مرة أخرى، لا يوجد ولا يمكن الحديث عن انضمام الشركات العسكرية الخاصة إلى الحرس الروسي، ولن يتمكن المقاتلون السابقون من إبرام عقود كمتطوعين إلا على أساس فردي، إن الامتصاص الهيكلي للشركات العسكرية الخاصة من قبل الحرس الروسي أمر مستحيل بحكم التعريف.
أما بالنسبة إلى الدوافع الإضافية لمقاتلي "فاغنر" السابقين، الأشخاص المدربين والمتمرسين الذين يهتمون بشكل مسبق بأي هيكل سلطة، فلا يوجد أيضاً شيء جديد ولم يتم التخطيط لشروط خاصة.
وأكد السيناتور فلاديمير كوزين في كلمة له "إذا جمعنا كل شيء معاً، جميع المزايا التي يحصل عليها الأفراد العسكريون والامتيازات والمدفوعات وما إلى ذلك، فسنحصل على حزمة تحفيزية بحيث سيكون من الصعب للغاية العثور على نظائرها في العالم"، "لذلك في هذا الصدد هناك ما يكفي من الدوافع".
ويضيف هذا السيناتور "القائمون على مجموعة فاغنر هم من الأشخاص الجادين، والمنظمين جيداً، ولذلك يفكر الكثير من الرجال في العرض، سواء بالالتحاق بالفيلق الأفريقي، أو الخدمة داخل الأجهزة الأمنية الروسية وفقاً لقوانينها وقواعدها.
إلى أفريقيا در
ليس سراً في روسيا، أن الكرملين يحاول بكل ثقة ترسيخ نفوذه في أفريقيا والشرق الأوسط، وهو يحرص على الاستفادة من الفرص التي توفرها الحرب والتوترات المتسارعة في الشرق الأوسط، الاستفادة من عدم الاستقرار الحالي، كما أن هناك تركيزاً متجدداً على المنشأة البحرية الروسية المخطط لها في بورتسودان على البحر الأحمر، حيث يخوض المتمردون الحوثيون قتالاً مع السفن الحربية الأميركية والبريطانية لحماية طريق تجاري عالمي مهم.
"فاغنر" منتشرة في السودان منذ عهد الرئيس المخلوع عمر البشير، وهي قامت بالأعمال الأولية في مشروع الميناء. ويقول المسؤولون إن الكرملين يعد نفسه أيضاً لاستغلال الصراع في الشرق الأوسط وتوظيف ما يمكن توظيفه منه لمصلحته.
بوتين كلف شخصيتين مقربتين منه للإشراف على ترسيخ النفوذ الروسي في أفريقيا والشرق الأوسط، واستخدام كل ما هو متوافر من أجل هذا الهدف، بما في ذلك انتشار مسلحي "فاغنر" في دول هاتين المنطقتين، هما نائب وزير الدفاع الروسي الجنرال الإنغوشي يونس بك يفكوروف الذي قارع قوات الناتو في إقليم كوسوفو عام 1999، واللواء أندريه أفريانوف من وكالة الاستخبارات العسكرية الروسية، وحملهما إدارة حملة الكرملين الجديدة في أفريقيا.
سافر الرجلان إلى ليبيا للقاء حفتر في بنغازي، كما زارا جمهورية أفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو ومالي والنيجر، وجميع البلدان التي انتقلت إليها "فاغنر"، أو تسعى إلى الانتقال إليها، بعد أن أجبرت أنظمتها العسكرية التي تسلمت السلطة بانقلابات عسكرية القوات الغربية بقيادة فرنسا على التقهقر منها مرغمة.
في ذاكرة بوتين، أن الغرب قاد انقلاب عام 2014 في أوكرانيا ضد فيكتور يانوكوفيتش الموالي له، وأتى بسلطة موالية له في كييف، رداً على موقف روسيا من الأزمة السورية ووقوفها إلى جانب الرئيس السوري بشار الأسد وإنقاذ حكمه من السقوط بتدخل عسكري مباشر وفاعل، لذلك يفكر سيد الكرملين برد الصاع صاعين للغرب في الشرق الأوسط وأفريقيا.
من الواضح أن روسيا ركزت خلال السنوات الثلاث على أوكرانيا، وأن نفوذها في الشرق الأوسط، الذي كان كبيراً جداً، قد تضاءل بشكل ملحوظ. إنهم يرون الآن طريقاً للعودة، وتعد "فاغنر"، أياً كان الاسم الذي يطلق عليها الآن، وفي المستقبل، وكيلاً مفيداً للغاية. والفرق عن السابق هو أنها الآن ستكون تحت السيطرة المباشرة للكرملين أكثر من أن تكون تحت سيطرة أشخاص مثل بريغوجين ورفاقه.
ليس هناك من ينكر أن هناك القليل من الفراغ الأمني الآن، بعد ما حدث مع الفرنسيين في غرب أفريقيا، وتحاول روسيا ملء ذلك الفراغ باستخدام مسلحي "فاغنر" الذين يملكون خبرة كبيرة في أفريقيا وعلاقات سياسية وعسكرية واسعة.
الكشف عن تشكيل الفيلق الأفريقي، خلفاً لـ"فاغنر" ولاستيعاب قواتها المنتشرة في القارة السمراء صار على كل شفة ولسان في روسيا، بعد أن كتب عنه في الأصل من المدونين العسكريين الروس.
وهذا الفيلق هو خليفة "فاغنر" قولاً وفعلاً، فعدا عن أنه سيكون الإطار التنظيمي الجديد لمسلحيها هناك، سيمارس المهام ذاتها ويركز على الأهداف نفسها التي سعت إليها المجموعة في عزها، بدءاً من توفير الأمن للأنظمة والحكام الأقوياء مقابل دفعات مالية، غالباً في شكل حقوق استثمار مربحة، مروراً بالمساعدة على قلب الأنظمة التي ما زالت موالية للغرب هناك، وصولاً إلى تعزيز وجود ونفوذ روسيا وتأمين مصالحها السياسية والاقتصادية في قارة تعتبر مسرحاً للتنافس الدولي في الوقت الراهن.
قبل مقتله بأيام قليلة، قام بريغوجين نفسه الصيف الماضي موفداً من بوتين بجولة في أفريقيا لطمأنة العملاء بأن قواته ستستمر بدعمهم برعاية من الحكومة الروسية، وهذه كانت الخطوة الأولى لتأسيس الفيلق الأفريقي الذي لم يعرف بريغوجين أنه سينشأ من دونه وعلى أنقاض قواته وشركته التي انتهى دورها وحان أجلها بعد أجل مؤسسها وقائدها.
استنساخ "فاغنر"
أثبتت تجربة شركة "فاغنر" الروسية نجاعتها وتفوقها على نظيرتها الأميركية "بلاك ووتر" ويجمع القادة العسكريون على تفوقها القتالي على الجبهة الأوكرانية، وبخاصة في مدينة باخموت حيث زجت بأعداد كبيرة من السجناء والمحكومين الذين جندتهم من بين المجرمين وشواذ الآفاق، ويبدو أن أوكرانيا تريد استنساخ هذه الجربة.
فقد أكد البرلماني الأوكراني أليكسي غونتشارنكو العمل على إعداد مشروع قانون للتعبئة ينص على تجنيد السجناء في صفوف القوات المسلحة الأوكرانية، موضحاً أن هذا يتيح تناوب الأفراد العسكريين.
وكتب غونتشارنكو على "تليغرام": "مشروع قانون التعبئة البديل، يتضمن تجنيد السجناء. نحن في حاجة إلى مناوبة الأفراد العسكريين في الجبهات. وستكون هذه فرصة جيدة للقيام بذلك".
في يناير (كانون الثاني) الماضي قالت نائبة وزير العدل الأوكراني إيلينا فيسوتسكايا إن وزارة العدل أرسلت إلى البرلمان مقترحات لإجراء تغييرات على التشريع الخاص بالتعبئة، والذي يقترح السماح رسمياً بتجنيد المواطنين المدانين والمسجونين. وفقاً لها، يحظر التشريع الأوكراني حالياً تجنيد المدانين والذين أنهوا فترات العقوبة.