Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الساحرة المستديرة" قوة سياسية ناعمة وأداة لضبط المزاج العام

كثيراً ما كانت كرة القدم عاملاً مؤثراً في حياة الشعوب واستغلها سياسيون لاكتساب الشعبية أو كعامل "إلهاء"

بمرور الوقت وتزايد تأثير كرة القدم في الشعوب، أصبحت أهدافها تتخطى إحراز النقاط أو حصد الكؤوس، إذ باتت إحدى أدوات القوة الناعمة للدول (رويترز)

ملخص

يؤكد علماء النفس أن لكرة القدم تأثيرا إيجابيا في الحال النفسية للشعوب

ربما تكون الصورة مجرد شباب يركضون وكرة تُركل، لكن معظم العالم يراها إما "إنجازاً وطنياً" أو "عاراً قومياً"، فكرة القدم التي كثيراً ما سميت "الساحرة المستديرة" لم تعد فقط تجذب الملايين للتسلية، بل أصبحت علاجاً نفسياً لبعض الشعوب ووسيلة سياسية للتأثير في أخرى، لما لها من قدرة لا تضاهى في لفت أنظار العالم، إذ تابع نهائي كأس العالم في قطر عام 2022 نحو 1.5 مليار شخص يمثلون نحو 20 في المئة من سكان الكوكب، وهو رقم غير مسبوق لم يتم تسجيله من قبل لأي حدث عالمي.
اللعبة التي يقال إنها اختُرعت للمرة الأولى في الصين خلال القرن الثالث قبل الميلاد، أخذت شكلها الحالي وانتشرت للعالم من بريطانيا في القرن الـ19، والآن أصبح عدد أعضاء الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا-211 اتحاداً وطنياً) أكثر من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة (193 دولة).
لكن بمرور الوقت وتزايد تأثير كرة القدم في الشعوب، أصبحت أهدافها تتخطى إحراز النقاط أو حصد الكؤوس، إذ باتت إحدى أدوات القوة الناعمة للدول، وتُصنّف كأداة لتحسين الحال المزاجية للشعوب، بينما استغلها بعض السياسيين لاكتساب الشعبية أو "لإلهاء" مواطنيهم.

خيبة أمل المصريين

إن تزامن بطولتي كأس الأمم الأفريقية والآسيوية خلال يناير (كانون الثاني) الماضي وفبراير (شباط) الجاري يعطي مؤشراً على ذلك التأثير، ففي مصر التي تشهد أزمة اقتصادية طاحنة بما تتضمنه من أسعار قياسية للسلع وانخفاض سريع ومتتالٍ لقيمة العملة الوطنية، تحول الاهتمام فيها إلى أوضاع المنتخب الوطني الذي يشارك في البطولة القارية الأفريقية المقامة في ساحل العاج.
اهتمامات المصريين التي تعبر عنها غالباً مؤشرات "الترند" عبر مواقع التواصل الاجتماعي، غلب عليها الأداء المتراجع للمنتخب صاحب الرقم القياسي في البطولة الأفريقية، وبينما أبدى كثيرون تفاؤلاً بمسار المنتخب في أدوار خروج المغلوب، بعد التأهل بشق الأنفس من مرحلة المجموعات، جاء خروج مصر أمام الكونغو في دور الـ16 ليضاعف حزن المصريين، فتم الربط بين أوضاع البلاد الاقتصادية المتراجعة التي لا تختلف عن حال المنتخب الوطني، وكان ذلك حاضراً في تدوينات معظم المعلقين على نتيجة المباراة.
وجاء ذلك التراجع على رغم الدعم الرسمي للمنتخب الذي بدا في زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي للمعسكر التدريبي الذي أقيم في العاصمة الإدارية الجديدة، فتمنى التوفيق للاعبين وطالبهم ببذل أقصى الجهود للعودة بالكأس الغائبة عن مصر منذ عام 2010.
وأمام ردود الفعل الجماهيرية الغاضبة، أصدر اتحاد الكرة المصري بياناً للاعتذار إلى "الجماهير المصرية العظيمة" ولتقديم الشكر إلى وزير الشباب والرياضة أشرف صبحي، "ممثلاً عن الدولة والقيادة السياسية المصرية لدعم مسيرة المنتخبات الوطنية".

الكرة والسياسة في مصر

واعتاد المصريون أن تكون كرة القدم محوراً أساسياً في حياتهم، بخاصة منذ العقد الأول من القرن الحالي الذي شهد ذروة نجاح المنتخب الوطني بحصوله على ثلاث بطولات متتالية لكأس أمم أفريقيا بين 2006 و2010، وانعكس الاهتمام الشعبي الجارف في المدرجات الممتلئة لمعظم المباريات سواء للأندية الجماهيرية أو المنتخب الوطني، وكذلك في إنتاج أعمال فنية ركزت على عالم كرة القدم والتشجيع مثل فيلمي "العالمي" و"الزمهلاوية".
ودخلت السياسة عالم كرة القدم في تلك الفترة، فاهتم الرئيس السابق محمد حسني مبارك بحضور مباريات المنتخب خلال البطولة التي استضافتها مصر عام 2006 بصحبة قرينته ونجله جمال الذي كانت الأحاديث تتردد حينها حوله على أنه يستعد لخلافة والده. استمر ذلك الاهتمام من عائلة مبارك وظهر إلى الواجهة خلال أزمة مباراة مصر والجزائر عام 2009 في تصفيات كأس العالم، إذ زار جمال مبارك معسكر المنتخب، وبعد ذلك بيومين زار والده اللاعبين، مما اعتبره حينها المنسق العام لحركة "كفاية" المعارضة عبدالحليم قنديل في تصريحات صحافية "نوعاً من الدعاية الانتخابية المبكرة للرئاسة التي يخلط فيها اسم مصر باسم عائلة حسني مبارك".
وفي تصريحات تزامنت مع كأس الأمم الأفريقية 2008، أبدى المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين حينها محمد مهدي عاكف اهتماماً بالأثر الذي تحدثه كرة القدم، فقال إن الشعب المصري "محروم من الحرية والحركة، لذا فهو يجد متنفساً طيباً في كرة القدم".

فرحة موقتة

وعلى عكس المنتخب المصري الذي أحزن محبيه، فإن المنتخب الفلسطيني الملقب بـ"الفدائي" استطاع رسم بسمة ولو موقتة على وجه الشعب الفلسطيني الذي يواجه حرباً شرسة من إسرائيل خلال الأشهر الأخيرة، بعدما تمكن من الصعود للمرة الأولى في تاريخه إلى دور الـ16 من كأس الأمم الآسيوية، وقدم أداء جيداً أمام منتخب قطر في ذلك الدور، على رغم خسارة بعض اللاعبين أقرباء لهم في قطاع غزة خلال الحرب التي اندلعت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وبعد لقاء المنتخب الفلسطيني مع هونغ كونغ الذي شهد التأهل للدور الثاني، أجهش اللاعب محمد صالح بالبكاء، مؤكداً في تصريحات صحافية أن جميع اللاعبين يقدمون أقصى ما لديهم لإسعاد أسر الضحايا في غزة.
ويُذكر أن المسابقات الرياضية متوقفة في فلسطين، كما يعد مجرد جمع لاعبي المنتخب الفلسطيني من الضفة وغزة مهمة صعبة، لذا كان مجرد تخطي دور المجموعات إنجازاً كبيراً احتفى به الفلسطينيون، بخاصة في الخارج وعلى مواقع التواصل. أما في الداخل الفلسطيني، فأقيمت الاحتفالات وسط القصف المتواصل على غزة والمداهمات اليومية في الضفة الغربية.
وعلى مدى نحو قرن، استخدم الفلسطينيون الرياضة أداة للتذكير بقضيتهم، ففي حين تأسس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم عام 1928، همش المهاجرون اليهود أصحاب الأرض الفلسطينيين داخل الاتحاد، مما دفعهم إلى تأسيس الاتحاد الرياضي الفلسطيني العربي في 1931، وشكلوا عشرات الأندية الرياضية. وقبل عام من النكبة كان هناك نحو 60 نادياً رياضياً عملت على عدم ترك المجال للمهاجرين اليهود كي يدعوا تمثيل فلسطين.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


أزمة بسبب مباراة

ويحفل التاريخ بالوقائع عن استخدام الرياضة كأداة سياسية، خصوصاً في منطقتنا العربية، إذ استُغلت في الجزائر كمؤشر على الرغبة في التحرر من الاحتلال الفرنسي، فكان عدد من اللاعبين الجزائريين في فرنسا هم نواة تشكيل المنتخب الجزائري قبل الحصول على الاستقلال، بعد انسحابهم من الدوري الفرنسي عام 1958، مما أحدث دوياً إعلامياً كبيراً.
وكانت الجزائر أيضاً طرفاً في أشهر أزمة سياسية عربية بسبب كرة القدم، ففي 2009 كان المنتخبان المصري والجزائري يتنافسان على حجز بطاقة التأهل لكأس العالم 2010 في جنوب أفريقيا. وعلى وقع شحن إعلامي وجماهيري متبادل، تعرضت حافلة المنتخب الجزائري لرشق بالحجارة في أحد شوارع القاهرة، واعتدى متعصبون على عمال مصريين في الجزائر. وبلغ التوتر مداه في المباراة الفاصلة التي أقيمت في ستاد أم درمان في السودان والتي اعتدى خلالها مشجعون جزائريون بالضرب على المشجعين المصريين بحسب ما نقلت وسائل الإعلام المصرية، مما دفع القاهرة إلى سحب سفيرها من الجزائر للتشاور. وعقّب الرئيس المصري آنذاك حسني مبارك على الأمر بصورة غير مباشرة، فقال أمام غرفتي البرلمان في اليوم التالي لمباراة أم درمان إن "كرامة المصريين في الخارج من كرامة مصر، ولن نتهاون مع من يسيء لكرامتنا". وفي المقابل، قال رئيس الوزراء الجزائري حينها أحمد أويحيى إن بلاده اختارت عدم التصعيد و"تأسف لموقف الآخرين"، مؤكداً أن الجزائر "لن تعتذر إلى مصر لعدم وجود أسباب تدعو إلى الاعتذار ولن نطلب ‏منهم الاعتذار لأن الأمر تافه في نظرنا".

وحدة العراقيين

وبينما فرّق "الجلد المدور" بين شعبين عربيين يوماً ما، فقد أسهم في وحدة شعب آخر، هو الشعب العراقي الذي ذاق الفرح عام 2007 بالفوز بكأس الأمم الآسيوية، في مفاجأة سارت بعكس الظروف الصعبة التي كانت تمر بها البلاد خلال الأعوام الأولى لغزو القوات الدولية بقيادة الولايات المتحدة.
وكان المنتخب العراقي في ذيل قائمة المرشحين حين سافر لخوض البطولة في تايلاند، حيث حالت الأوضاع الأمنية دون إقامة معسكر داخل العراق، وتم الاكتفاء بخوض لقاء ودي واحد في الأردن، لكن تألق يونس محمود (السني) وهوار ملا محمد (الكردي) ونشأت أكرم (الشيعي)، وحّد مكونات الشعب العراقي كافة خلف منتخبه الذي هزم كوريا الجنوبية في الدور قبل النهائي، وخرج في احتفالات حاشدة تخللتها تفجيرات إرهابية في بغداد أودت بحياة العشرات، حتى إن لاعبي المنتخب فكروا في الانسحاب من البطولة، لكن ما دفعهم إلى الاستمرار كانت مكالمة هاتفية من والدة فتى لقي حتفه في التفجير، طالبتهم بعدم الانسحاب قائلة "لن أقيم عزاء ابني قبل أن تفوزوا بالكأس"، بحسب ما رواه لاعب المنتخب هوار ملا محمد، وبالفعل سجل يونس محمود هدف الفوز في شباك المنتخب السعودي بالمباراة النهائية، لتتحقق "المعجزة الكروية" التي وحدت العراقيين.

العامل النفسي

وإذا كان السياسيون يستخدمون أحياناً الرياضة لتحقيق أهدافهم، فإن تدخل رياضيين أدى إلى نتائج سياسية في أحيان أخرى، كما حدث في دعوة لاعبي منتخب ساحل العاج إلى إنهاء الحرب الأهلية عام 2008، وعلى رأسهم ديدييه دروغبا، ويحيى (يايا) توريه، فوضعت الحكومة صور اللاعبين إلى جوار أعلام الدولة باعتبارها من الرموز القومية.
ويؤكد علماء النفس أن لكرة القدم تأثيراً إيجابياً في الحال النفسية للشعوب، ففي أعقاب توقف المسابقات الكروية بسبب جائحة كورونا عام 2020، قال الطبيب النفسي للمنتخب الألماني الأول لكرة القدم هاينز ديتير هيرمان إن عودة كرة القدم في البلاد من شأنها أن تحسن الحال المزاجية للشعب.
وحسب دراسة نُشرت عام 2019 في دورية "كوميونيكشن أند سبورت" المتخصصة في طب النفس الرياضي، فإن تشجيع الفرق الرياضية الفائزة يزيد درجة احترام أو تقدير الذات للمشجعين لمدة يومين بعد المباراة.
وتبدو كرة القدم مثل "مخدر موقت" لمن يعانون مشكلات ويريدون الهرب منها، وفق ما يراه أستاذ طب النفس العصبي بجامعة "دريكسل" الأميركية إيريك زيلمر الذي قال إن "مشاهدة الفرق التي تحتفل بالفوز في كأس العالم قد يكون ملاذاً موقتاً من الواقع"، وفق تقرير نشره موقع "دويتشه فيله" الألماني، مشيراً إلى أن "لعبة رياضية مثل كرة القدم قد يكون لها تأثير علاجي فيمن يشْكون من تقلبات الحياة ومتغيراتها".

المزيد من تقارير