Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يمكن أن تكون النهضة الإيطالية وليدة كتاب حظرته الكنيسة؟

صدفة كشفت "طبيعة الأشياء" ليغير به الفيلسوف لوكريشيوس مسار الفكر الإنساني

زواج المريخ والزهرة، القرن الأول. لوحة جدارية من منزل لوكريتيوس فرونتون، بومبي، إيطاليا (غيتي)

في كتاب له أصدره قبل سنوات قليلة بعنوان "كواتروتشنتو" (وتشير في الإيطالية إلى القرن 15، وليس إلى القرن 14 كما يخيل إلى البعض خطأً) يتحدث الفيلسوف الفرنسي أنطوان كومبانيون، بأسلوب يتراوح بين "التخييل الذاتي" والبحث العلمي عن الكيفية التي اكتشف بها هو نفسه عند بدايات القرن 21، واحداً من الكتب التي يعتبرها الأكثر ارتباطاً بالفكر الإنساني على مدى تاريخ هذا الفكر، لكنه ليس الوحيد على أي حال الذي ينظر إلى الكتاب هذه النظرة. فهو إن كان يفعل ذلك فإنه لا يخفي عنا أنه يسير في ذلك على خطى مفكرين ومبدعين سبقوه إلى ذلك، من بينهم ميكيافيلي ومونتانيْ وإيرازموس وصولاً إلى السير توماس مور ونصوص إعلان الاستقلال الأميركي كما صاغها توماس جيفرسون. طبعاً كان كومبانيون يعرف الكتاب منذ زمن بعيد لكن ما اكتشفه إنما كان كتاباً عنه وعن مؤلفه وضعه عند نهايات القرن 20 كاتب أنجلو – ساكسوني هو ستيفن غرينبلات وربما في صدفة لم يتردد كومبانيون في جعل حكاية اكتشافه الكتاب العتيق مجرد حكاية عن اكتشاف كتاب هذا الأخير في سوق عتائق الكتب في أمستردام الهولندية.

حكايات متطابقة

والحقيقة أن هذا التطابق بين الحكايتين سيبدو محيراً أو ساخراً للقارئ المعاصر، لكن المهم في الأمر هنا هو أن الفيلسوف الفرنسي المعاصر أعد في كتابه سيرة هذا الكتاب وعنوانه "في طبيعة الأشياء" إلى الواجهة معيداً في طريقه ذكر الفيلسوف لوكريشيوس الذي وضعه عند مفتتح القرن الأول قبل الميلاد، على شكل قصيدة طويلة تقع في 7400 شطر تتوزع على نص رسالتين أو أكثر بعث بهما الشاعر اللاتيني إلى أخيه قبل أن تأتي الكنيسة وتحظر الكتاب واصفة إياه، ظلماً، بأنه كتاب إباحي مارق. والحقيقة أن موقف السلطات الكنسية من الكتاب تسبب في اختفائه طوال ما يقرب من ألفية ونصف الألفية فلم يتبق منه سوى نسخ نادرة حبست في مكتبات مخفورة تماماً ومنها نسخة قديمة جداً حفظت في مكتبة دير فلورنسي كان ليوناردو دا فنشي صممها ونفذها في دير بناه آل مديتشي وقام على حراسته رهبان أشداء يتمسكون بتعاليم الكنيسة تمسكاً جعل الكتاب يختفي تماماً عن الوجود ومؤلفه يغيب.

لكن الذي حدث بعد اكتشاف مرافق كان يعمل لحساب البابا المسمى "يوحنا 23"، وهو كما نعرف، غير البابا الذي حمل الاسم بالترقيم نفسه في القرن 20 طبعاً، والذي صبت الكنيسة عليه لعنتها وألغت بابويته "لسوء سلوكه" فتحول إلى "صائد للكتب النادرة" وأرسل ذلك المرافق ليبحث له عن تلك الكتب. ومن هنا الحكاية التي يرويها غرينبلات في النص الذي استلهمه الفرنسي كومبانيون كما أشرنا.

تراكم لسيرة واحدة

ومن هنا ما يمكننا أن نقوله عن كتاب انطبعت سيرته على سيرة سابقة كانت انطبعت بدورها على سيرة سبقتها. والحكاية هي دائماً نفسها تروي مغامرة كتاب، لتؤكد في الوقت نفسه مدى أهمية "في طبيعة الأشياء" في تاريخ الفكر النهضوي الإنساني وصولاً إلى أولئك المفكرين الكبار الذين ستكون دهشة كل واحد منهم كبيرة ليس فقط أمام حكاية الولادة الجديدة والمتكررة لما عثر عليه من نسخ له ودائماً في أكثر الأماكن غرابة، بل أمام اللغة اللاتينية الجميلة التي صاغ بها لوكرشيوس كتابه والمحتوى الإنساني الرفيع الذي عبَّرت تلك اللغة عنه بشكل أخاذ، وطبعاً من دون أن يتضمن ما فيه مس بالكنيسة التي لم يكن لها، بعد، أي وجود في عام 54 ق.م. حين صاغه الشاعر اللاتيني على شكل رسالة شعرية أرسلها إلى أخيه كوينتوس، الذي كان بدوره عالماً مفكراً. والحقيقة أن القصيدة التي يضمها الكتاب ستعتبر في نهاية الأمر عملاً عميقاً يجمع بين الفلسفة الأخلاقية ودروس الحياة ومكانة الإنسان في الكون ناهيك بكون النص في حد ذاته يستعيد حرية الفكر التي كانت قد ميزت الإبداع الإنساني قبل ظهور الفكر الكنسي، ولسوف تصل فكرانية القصيدة، – أو القصائد إذا أخذنا في الاعتبار ما سيؤكده عدد من معيدي اكتشاف النص وصولاً إلى أنطوان كومبانيون في "كواتروتشنتو"، إلى استعادة روعة الفلسفة الإغريقية وقد مرَّت على مرشح الفكر الرواقي والأبيقوري هنا بالتحديد وإنما في لغة أنيقة وشاعرية لا شك أن بترارك، مبدع الشعر الإنساني الإيطالي في القرن 14 كان من أوائل الذين تبنوها سائراً في ذلك على خطى فرجيل وأوفيد. وفي هذا المعنى يمكننا القول إن "في طبيعة الأشياء" برز في قمة ذلك المسار بوصفه "الحلقة المفقودة" بين بدايات الفكر الإنساني وما سيصل إليه هذا الفكر في الأزمنة الأكثر حداثة في تعبيره عن إنساويتي التنوير الألماني – الفرنسي مثلما عن الفكر الإنساني في القرن 20، وما مهد لتلك الحداثة عبر أفكار ديكارت وسبينوزا وصولاً إلى مفكري التسامح الإنجليز والسكوتلانديين.

عمل وحيد لشاعر مبكر

ويعيدنا هذا بالطبع إلى لوكريشيوس نفسه الذي سيعتبر منذ اكتشاف "في طبيعة الأشياء" شاعر القرن الأول قبل الميلاد ولو أن عملاً آخر له لم يكتشف حتى اليوم مما يجعله يعتبر، حتى الآن على الأقل مؤلف عمل واحد، ولكن أي عمل! ففي نهاية الأمر، ومثلما يخبرنا غرينبلات وكومبانيون معاً، انتشرت نصوص "في طبيعة الأشياء" وباتت تعرف وتقرأ على نطاق واسع في ذلك الزمن الذي كان الفكر الإنساني أواسط عصر النهضة قد بدأ يشتغل على الأفكار ويدفع الإنسان إلى إعادة اكتشاف نفسه والعالم الذي يعيش فيه ولو متأخراً نحو 15 قرناً عن زمن تدبيجه. ومع ذلك كم بدا النص حديثاً في الزمن الذي كانت فيه محاكم التفتيش تحاصر كل فكر عقلاني وإنساني وتمنع وصوله إلى قرائه مضطهدة مبدعيه ومناقشيه. ومن هنا لم يكن من شأنها أن تتهاون مع كتاب يحاول أن يعثر على إجابات أو حتى على أسئلة يطرحها عليه وعي جديد يدفع ذلك الإنسان إلى الاتكال على نفسه فكرياً، بدل ما كانت تأمره محاكم التنفتيش بفعله من اتكال على النصوص المرضي عنها! ولعل أخطر ما خشيته محاكم التفتيش حينها كان ما رصدته من أن النص إنما هو قبل كل شيء وبعده تأمل عميق حول معنى الحياة ومعنى الموت، وكذلك معنى الحياة الاجتماعية ووجود الإنسان في العالم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قبل غاليليو بعصور

ولعل ما يكشف عنه هذا الكتاب الاستثنائي هو أن مؤلفه يشرح فيه كيف أن كل شيء في الحياة الدنيا، إنما هو متكون من ذرات عضوية لا ترى بالعين المجردة ويسميها هو "ذرات" (جمع ذرة) وهي في منظوره تعيش في حركة متواصلة لا تهدأ من دون أن تكون لها نهاية أو غاية حتى وإن كانت تتضافر كذلك من دون غاية بل تتضافر فقط لتشكل أجساماً أكبر وأكبر حجماً "كما حال بيت الرمال على الشاطئ". وينتج عن ذلك أن "الأجسام العلوية لا تعود على ارتباط عضوي بالألوهية إلا كعلاقة مخلوق بخالقه"، كما قد ينتج عنه من ناحية أخرى أن البشر أنفسهم لا يعودون يشغلون تلك المكانة المركزية في الكون، التي تعزوها الأديان لهم، بالتالي فإن الأرواح البشرية تضحى، كما حال الأجسام نفسها فانية، بالتالي ليس ثمة في رأي مؤلف الكتاب لا حياة بعد الموت ولا فراديس ولا جحيم. كان هذا على أي حال الدافع بالطبع وراء إخفاء الكتاب وحظره، وذلك بعد أن كان مكتشفه المدعو لي بودجو والعامل كما أشرنا مساعداً للبابا المخلوع، قد طلب من أصدقاء له أن ينقلوا نص الكتاب في عدة نسخ تم نقلها إلى فلورنسا بمساعدة صديقه النهضوي نيقولو نيقولي حيث لم تلبث أن طبعت بعد حين من اختراع الطباعة ولكن كي تختفي من جديد فلم تبق منها سوى نسخ نادرة احتفظت فلورنسا بواحدة منها في ما حفظت الأخرى في باريس. ولسوف يبقى الحظر على النسخة الإيطالية حتى ألغى الفاتيكان لوائح الكتب المحظورة ليعيد الكتاب ظهوره العلني وينتشر في ولادة يبدو أنها نهائية هذه المرة...

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة