Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بطلة رباب كساب تصنع حياتها في "لعبة النوافذ"

سرد ذاتي يقتحمه الراوي العليم متلصصاً بعينيه

لوحة للرسامة ليلى نصير (صفحة الرسامة - فيسبوك)

"لعبة النوافذ"، (بيت الحكمة)، هي الرواية الأحدث للكاتبة رباب كساب بعد روايات ومجموعات قصصية عدة أكدت حضورها في المشهد السردي المصري. ومن الواضح تماماً اقتراب هذه الرواية من حياة كاتبتها، إذ تكاد تتماهى حياة الساردة الداخلية "سماء" مع حياة الكاتبة نفسها، فكلتاهما تخرجتا في كلية الزراعة وعاشتا حياة اليتم الباكر برحيل الأم ثم الأب حزناً عليها، والانتقال من إحدى القرى إلى مدينة طنطا شمال مصر، وتجربة الزواج القصير ثم الانفصال، وأخيراً الاستقرار في قلب القاهرة للعمل والعيش في وحدة وعزلة، والتكتم على كل ما هو شخصي.

لا يمكن لإنسان، رجلاً أو امرأة، أن يعيش في عزلة تامة، ومن هنا أدمنت "سماء" التلصص على الآخرين عبر "نافذتها" في محاولة لتعويض حياتها المفتقدة بعد انفصالها عن "جهاد شكر" الذي ظلت مشاعرها متناقضة إزاءه، فإن كانت قادرة بوعيها بعد اكتشاف خيانته على اتخاذ قرار الانفصال، فإنها في الوقت نفسه لا تملك السيطرة على عواطفها، ولهذا ظلت ذكرياتها معه حاضرة على مدار الرواية.

إن عنوان "لعبة النوافذ" يذكرنا بـ "لعبة الكراسي"، مما يوحي بتبادل الأدوار، وقد ظهر ذلك جمالياً في تعدد الأصوات، إذ تبادلت شخصيتا الرواية الرئيستين "سماء" و"بهجت الكومي" مواقع السرد، وأحياناً ما نفاجأ بصوت الراوي العليم فيما يشبه الكورس المراقب للأحداث والشخصيات في المسرح اليوناني، وهذا الراوي يقطع تدفق السرد عبر ضمير "الأنا" مستخدماً ضمير الغائب كأنه يجيد هو الآخر لعبة التلصص.

وتشير الكاتبة في الإهداء إلى أنها ليست الوحيدة التي تجيد "لعبة النوافذ"، "إلى هؤلاء الذين يسكنون خلف النوافذ والشرفات، إلى هؤلاء الموتى الأحياء الذين تخترق عيونهم الجدران"، وكأننا أمام نمط آخر من التماهي ليس بين الساردة والكاتبة هذه المرة، بل بين الكاتبة وهؤلاء الذين يسكنون خلف النوافذ والشرفات، ثم تنهي إهداءها بما يشبه الاستباق السردي حين تذكر اسم الزوج الذي فرت منه لتعيش حياتها الحقيقية، "وأخيراً... إلى كل امرأة مرّ في حياتها مثل المدعو جهاد شكر".

خيطان من السرد

يمكن القول إن حياة "سماء" تتوازى مع حياة جارها "بهجت الكومي"، فهي تعيش وحيدة بعد الانفصال عن زوجها، وهو يشعر بالوحدة والسأم بعد تجربة حب من طرف واحد، مجهضة، فوالده تاجر الأقمشة عندما لاحظ تعثر ابنه في الدراسة أخذه معه للعمل، وكان ذلك سبب تعرفه على "عزة" الجامعية الجميلة ابنة "الحاج عبدالبديع" صديق والده، وتمادى "بهجت" في حب "عزة" حتى تجرأ على طلب الزواج منها، فضحكت ضحكة ساخرة ووبخته على تفكيره في الارتباط بها وهو الذي لم ينل أي حظ من التعليم، "ألا تنظر في المرآة؟".

كانت الصدمة قاسية على "بهجت" مما دفعه إلى عدم الدخول في أية تجربة عاطفية أخرى، وعاش عزباً حتى تخطى الـ 60 من عمره، وهكذا ربطت بينهما الوحدة حين "فهمت وحدها (سماء) لماذا اختار أن يكون وحيداً، وعرف هو لماذا اختارت أن تكون وحيدة".

وإذا كانت هذه الرغبة في الابتعاد من الآخرين قد حدثت مع "سماء" بسبب تجربتها الشخصية، فهي تكاد تكون من طباع "بهجت"، "لم يعرف أحد من هو بهجت الكومي في تلك الحارة، كنتُ طيفاً أحب أن أسكن خلف الستار حتى في عالمي الواسع الذي لا تعرف عنه الحارة شيئاً، لم أكن من هؤلاء محبي الشهرة ودائمي الظهور في التلفزيون والحفلات الصاخبة"، وبهذه المواصفات استبدلا التلصص من خلف النوافذ على حياة الآخرين ومعرفة أسرارهم، بالحياة الطبيعية بينهم.

إنهما يراقبان الحياة عن بعد بدلاً من ممارستها على وجه الحقيقة، وفطنت "سماء" لسلوك "بهجت" الذي يماثل سلوكها، فكلما رفعت عينها تجده "بعينيه الضيقتين يرمق كل شيء ويتابع كل صغيرة وكبيرة ولا ينام، ومن مقعده في شرفته يراقب الجميع"، وهي تتعجب كيف استطاع أن يخفي كل شيء ولا يعرف مخلوق عنه إلا ما يريد هو أن يعرفه، في مثل هذا الحي الشعبي الذي يتسم بفضول ساكنيه، وقد حاولوا ذلك مع الساردة لكنها قطعت عليهم الطريق وبقيت على صمتها.

تحولات درامية

كانت معرفة "سماء" بـ "جهاد" بداية تحول درامي في حياتها، فهو شخص يرى نفسه فوق الجميع ولا يعترف بأحد، ويتردد كثيراً في اتخاذ أي قرار وكأنه هو الآخر يعيش في عزلة داخلية، "لكنها نظرت إليه على أنه فرصة للهرب من كل شيء، فرصة لترك بيت عمها الذي قضت فيه كل أعوام عمرها يتيمة، إضافة إلى أنه قد جذبها منذ أول لقاء بعينيه العسليتين وشعره الأسود الناعم"، والطريف حقاً أن الحياة الافتراضية هي التي كشفت لها خيانته، فعلى رغم أنها أداة للتواصل الاجتماعي إلا أنها في بعض الأحيان تكون أداة لهدم حياة اجتماعية قائمة، فقد دفعها الفضول إلى إنشاء "صفحة" على تطبيق "فيسبوك" باسم مستعار وكأنها نوع آخر من "النوافذ" التي أدمنت الوقوف فيها لمراقبة الآخرين، ومن خلال هذه الصفحة اكتشفت خيانته.

غير أن "سماء" لا تنظر إلى هذا التلصص بوصفه صفة سلبية، فعندما تتحدث عن أحد الأدباء الذين تعرفت عليهم باكراً تقول، "ضقت بحدوده الضيقة وأيقنت أنه لا يملك روح المتلصص المقتنصة ولا يملك أجنحة، وأنه يستقي ثقافته من صفحات الكتب عازلاً نفسه عن الناس، فالشارع ثقافة ووجوه البشر تعطي ما لا تحمله الكتب"، فالأديب الحقيقي، كما ترى، لا يستطيع الحياة في عزلة حيث لا بد أن تشكل ثقافة الواقع مادة انطلاقه وإبداعه.

ثقافة الفقر

وتتوقف الرواية أمام ما يمكن أن نسميه بثقافة الفقر، ويظهر ذلك عندما يستعيد "بهجت" سيرة والده "نبيه" الذي جاء إلى القاهرة الواسعة "صبياً هارباً من العمل كأجير في أراضي البشوات والبهوات، ولم يتحمل عصا مشرف العمال وهي تنهال على جسده الصغير النحيف لمجرد أنه توقف ليلتقط أنفاسه ويمسح حبات العرق التي تغرق وجهه"، وهي حال تجمع بين الفقر والقهر، لكن "نبيه" استطاع أن يواجه هذه الحال ويصبح تاجر أقمشة شهير متخلصاً "من ثقافة الفقر التي تدني النفس أحياناً أو التي تشعره بعجزه أو قلة شأنه أو كونه على الهامش".

ولعلنا نلاحظ أن السرد هنا قد انتقل من ضمير المتكلم على لسان الابن "بهجت" إلى ضمير الغائب على لسان الراوي العليم، وهذه إحدى سمات السرد في هذه الرواية، مما يمكننا من وصفها بالبلوفينية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على أن الأهم من ذلك أنه على رغم تماهي الساردة والكاتبة الذي أشرت إليه إلا أننا لا نستطيع وصف هذه الرواية بالسيرة الذاتية، كما لا نستطيع وصفها بالرواية بالمعنى التقليدي لهذا المصطلح، فالعمل الذي أمامنا يتجاوز منطق هذين الجنسين ليصنع جنساً هجيناً يمكن وصفه بـ "الرواية السيريّة"، إذ يستمد كثيراً من حياة الكاتبة من دون تصريح بالاسم الحقيقي، إضافة إلى مادته التخيييلية التي تملأ فجوات الحكاية.

ومن هذا المنطلق يمكن وصف السرد عموماً بأنه "استعادي" يقوم على تقنية الاسترجاع والانتقالات المفاجئة وظهور شخصيات ثانوية جديدة من دون تمهيدات، وتوظيف السرد الذاتي الشعري في مثل قول "سماء"، "جهاد الذي أحببته، أحببت اسمي حين ينطقه، لم أعد أعرف مذ عرفته الشرفات، الاستماع إلى الناس، لأنني كنت معه، لأنني أحادثه، لأنني أفكر فيه".

وتأتي شاعرية هذا السرد من ذلك التكرار الإيقاعي للكلمات والعبارات المتوازية أو قولها القائم على التشبيه الدال المبتكر في موضع آخر، "صوته الهامس بدا كربتة يد على كتفي، بل في بعض الأحيان بدا كحضن".

لكنها بمجرد خلاصها من هذه التجربة بعد لقائهما الأول والأخير بعد الانفصال تعلمت كيف تصنع الحياة ولم تعد تتلصص، لقد كرهت، كما تقول، "لعبة النوافذ" التي بدأت بها الرواية منذ عنوانها وانتهت بها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة