Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأميركي سكوت سومز يرصد العالم الذي صنعته الفلسفة

من الفلاسفة القدماء الى الحرية والعدالة ومفهوم السوق والعصر الرقمي

الفلسفة كما يتخيلها ماغريت (متحف ماغريت)

 لعلّ العالم الذي نعيش فيه هو منتج فكري قبل أن يكون صناعة مادية. فالحضارة المعاصرة ما كان لها أن تكون لولا الأفكار التي صنعتها عبر التاريخ، لا سيّما الفلسفية منها التي تتعالق مع العلوم المختلفة من موقع التنظير لها والسعي إلى وضعها موضع التنفيذ، مما جعل العالم صنيعة الفلسفة، بشكل أو بآخر. من هذا الباب، ندخل إلى كتاب "العالم الذي صنعته الفلسفة من أفلاطون إلى العصر الرقمي" للأميركي سكوت سومز، الصادر عن دار المدى بترجمة رزان يوسف سلمان. على أنّ قبل الدخول في المكتوب، لا بدّ من التعريف بالكاتب، فسومز فيلسوف أميركي وأكاديمي ومتخصّص في فلسفة اللغة وتاريخ الفلسفة التحليلية، يدرّس في كبريات الجامعات الأميركية، منذ حوالى نصف قرن، ولا يزال. ويُعدّ من أهم فلاسفة التحليل اللغوي المعاصرين، وله العديد من الكتب والمقالات التي تطرح أسئلة الحقيقة والإشارة والمعنى.

 العصور والفصول

بالدخول إلى الكتاب من عتبة المقدّمة، يطلعنا الكاتب على سبب وضعه والهدف من ذلك ومضمونه ومحتوياته، فيشير إلى أن السبب المباشر لوضعه هو اقتراح من روب تمبيو، المحرر في دار نشر برينستون، إثر نشر الواضع مقالاً في نيويورك تايمز بعنوان "المنزل الحقيقي للفلسفة" يتناول فيه نجاحات الفلسفة الغربية، على المستويين المعرفي والمنهجي. وأن الهدف من وضعه هو تعريف الجمهور بالفلسفة، ماهيّة وكينونة وصيرورة، وتعريفه بإسهامات الفلاسفة في صنع العالم المتحضّر. وأن هذه الإسهامات تتوزّع على أربعة عشر فصلاً، تغطّي الستّة الأولى منها القرون المتعاقبة منذ اليونان القديمة حتى أوائل القرن العشرين، وتتناول الثلاثة التالية لها، القرن العشرين وما بعده، وتطرح الأربعة الأخيرة أسئلة القانون والسياسة والأخلاق والوجود في اللحظة التاريخية الراهنة. وبذلك، لا يتناسب عدد الفصول مع المراحل الزمنية التي يُغطّيها الكتاب. ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى تفاوت الإسهامات التي قدّمتها الفلسفة للحضارة، بين عصر وآخر.

 في الفصل الأوّل، يرصد المؤلّف المحاولات الفلسفية الأولى لبعض الفلاسفة والمدارس الفلسفية لتشكيل معرفة نظرية بالعالم، من خلال وضع شبكة مفاهيمية محدّدة بدقة تقدّم معرفة موضوعية وتضع قوانين معرفية عامّة، وتحويل الثقافة من السردية الشفاهية إلى النقدية العقلانية الكتابية. ويتوقّف عند إسهامات سقراط وأفلاطون وأرسطو في هذا السياق، فيشير إلى دور سقراط الملهم في عملية التحويل المستمدّ من شخصيته وحواراته مع أفلاطون، وإلى وضع الأخير الأسس المفاهيمية والإطار المؤسّسي لتعزيز المعرفة البشرية، وبناء قوانين عامّة عن الإنسان والكون، وإلى وضع أرسطو البدايات المنهجية للمنطق والفيزياء وعلم الأحياء وعلم الاجتماع. ويتوقّف عند الدور الذي لعبته الأكاديمية في توفير التعليم بنوعيه، المنهجي الصارم والحرّ، وعند تركيز المدرسة المشّائية على الفلسفة كطريقة حياة، وعند تركيز الأبيقورية على صقل الذائقة وإشباع الرغبة. ويخلص إلى تحديد ما قدّمته الفلسفة اليونانية للعالم بـ: التفكير النقدي، الاستدلال العقلي، التجريب العلمي، التعليم المنهجي والحرّ، التعليل الواعي، وربط الفضيلة والسعادة بفهم الطبيعة البشرية وتعالقها مع الآخر.

 معتقدات عقلانية

في الفصل الأخير، إذ يُعيد سومز التذكير بالهدفين التوأمين للفلسفة الغربية المتمثّلين في: وضع الأسس المفاهيمية للمعرفة النظرية، ورسم الطريق إلى الفضيلة والسعادة، نراه يُشدّد على الثاني، في ظل تخلّي الدين عن واجباته الأخلاقية، وتراجُع المسيحية عن القيام بدورها التوجيهي، بعد أن نهضت به طيلة قرون، ويضع على عاتق الفلسفة النهوض بالعبء الوجودي لتوجيه حياة الأفراد، ووضع معتقدات عقلانية تنقذهم من قلق الإلحاد، وتشدّ أزرهم في مواجهة سؤال الموت الذي يقضّ مضاجعهم. ويرى أن التحدّي الفلسفي الجديد يتمثّل في "إعادة تصوّر المفاهيم التقليدية للفضيلة والسعادة لاستيعاب معرفتنا العلمية المتنامية بالطبيعة البشرية، والتعبيرعن مفاهيم مقنعة لمعنى الحياة في عصر يتلاشى فيه عزاء الدين، وتبدو نهاية موت المرء، وحتى الانقراض النهائي للحياة البشرية، على نحو متزايد، أمراً لا جدال فيه" (ص 398).

وبين الفصلين الأول والأخير، تتعاقب الفصول وفق المعيار التاريخي، وتُحاول رصد مدى تحقّق هدفَيِ الفلسفة، عبر التاريخ، أو أحدهما على الأقلّ، وكيفية حصول ذلك، وهو ما يتفاوت بين مرحلة وأخرى. ففي الفصل الثاني، يتناول سومز الهدنة بين الإيمان والعقل، ويرصد ما قدّمته الفلسفة اليونانية لأوروبا المسيحية، في القرن الثالث عشر، من خلال إسهامات توما الأكويني وروجر بيكون ووليم الأوكامي؛ فيشير إلى: أنّ الأوّل أدخل المنطق الأرسطي إلى الجامعات المسيحية، وجعل من الملاحظة والعقل مصدرين للمعرفة، وقال بالأشكال الجوهرية التي تمنح الأشياء هويّاتها وبالعقلانية سمةً مميّزة للبشرية. وأنّ الثاني قال بالتعايش بين الملاحظة التجريبية وعلم اللاهوت وتضافرهما في الوصول إلى الحقيقة. وأنّ الثالث "رفض الماورائيات الأرسطية، والتمييز الأرسطي بين الجوهري والعَرَضي، واستخدام الفلسفة لإثبات العقائد المسيحية المركزية" (ص 60). ويخلص سومز، بنتيجة الدرس، إلى أنّ ما قدّمته الفلسفة في أوروبا، في القرن الثالث عشر، يكمن في: الهدنة بين الإيمان والعقل، تَصَوّر الله ككائن منطقي صافٍ، وإعادة إيقاظ الروح الأرسطي العلمي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في الفصل الثالث، يدرس سومز تقديمات الفلسفة لأوروبا، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، من خلال إسهامات عدد من العلماء والفلاسفة. ويشير إلى دخول الفلسفة في حلف لا ينفصم، مع العلوم الوضعية لا سيّما الرياضيات والعلوم الطبيعية، في سياق البحث عن الحقيقة العلمية. ويصنّف العلماء والفلاسفة، في القرنين المذكورين، إلى: علماء دمجوا فلسفة الطبيعة في نظرياتهم العلمية مثل كيبلر وغاليليو ونيوتن وبويل. فلاسفة طبيعيين ناقشوا مشكلات علمية متصلة بفلسفاتهم مثل كوبرنيكوس وديكارت ولايبنتز وبيركلي. فلاسفة سعوا لتوسيع المعرفة العلمية الموضوعية لتشمل العقل مثل لوك وبيركلي وهيوم وريد وكانط. ويخلص إلى أن الفلسفة، خلال هذه المرحلة، أسهمت في تقدّم العلوم الطبيعية والرياضيات، في مجالات: النظام الشمسي، الجاذبية، الهندسة التحليلية، حساب التفاضل والتكامل، البصريّات، وغيرها.

إذا كان المقام لا يتّسع لتفصيل إسهامات الفلسفة في العلوم المختلفة، عبر المراحل التاريخية المتعاقبة، فحسبنا الإشارة إلى أنّ الفصول التالية من الكتاب تتناول إسهاماتها في: حرّية السوق، المنطق والرياضيات، الحوسبة والعصر الرقمي، علم اللغة، علم الاختيار، العقل والجسد، الفلسفة والفيزياء، الحرّية والعدالة، القوانين والمؤسّسات، الأخلاق، والفضيلة والسعادة، ما يعبّر بوضوح عن تداخل الفلسفة والعلوم، على أنواعها، ويعكس الدور الكبير الذي لعبته الفلسفة في صناعة العالم، إلى حدّ أن المؤلّف اتّخذ من جملة "العالم الذي صنعته الفلسفة" عنواناً لكتابه.      

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة