Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

توماس هوبس يرى أن الإنسان ليس أكثر من ذئب

نظرة معاصرة على الفكر السياسي لصاحب "التنين" على ضوء حداثة ما بعد الديمقراطية

مشهد من الفيلم الروسي "التنين" (موقع الفيلم)

ملخص

نظرة معاصرة على الفكر السياسي لصاحب "التنين" على ضوء حداثة ما بعد الديمقراطية

بالكاد ثمة ذكر لكتاب الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبس (1588 - 1679) "التنين" - أو "اللوفياتان" - في فيلم زيغوفييف الروسي المعاصر الذي لحمله نفس عنوان الكتاب يوحي منذ البداية بوجود رابط بين الفيلم والكتاب، بيد أن هذا الرابط موجود في العمق بالتأكيد إنما فقط بالنسبة إلى المطلعين على فكر ذاك الذي يعتبر عادة من كبار الباحثين في الفكر السياسي في تاريخ الفلسفة. أما بالنسبة إلى الآخرين فقد يكفيهم أن يروا على شاطئ البحر الذي تدور فيه أحداث الفيلم، هيكلاً عظمياً لحيوان يبدو منتمياً إلى ما قبل التاريخ، حتى يخيل إليهم - ويرضيهم - أن ذلك الهيكل العظمي هو المعني بعنوان الفيلم غير آبهين بالدلالة الفلسفية لوجوده. ومهما يكن لا بد من القول إن عنوان الفيلم المستقى مباشرة من عنوان الكتاب، يمكن أن يعتبر بصورة مباشرة أهم تحية توجهها الحداثة الفنية في العالم إلى كتاب مضى على ظهوره نصف ألفية ولا يزال يعتبر إلى اليوم مرجعاً أساسياً في الفكر السياسي. ونعرف على أية حال أن هذا الكتاب إنما خاتمة نوع من ثلاثية فكرية وضعها هوبس خلال أقل من دزينة من سنوات مرت بين 1640 و1651 تشكل المتن الأساس لفكر نصير الحكم المطلق ذاك. المفكر الذي من المؤكد أنه لم يضع ثلاثيته في فراغ بل على ضوء الحروب الدينية الإنجليزية التي كانت هي وراء ما يمكننا اعتباره واقعيته المادية، بل السوداوية المطلقة التي جعلته يبني فكره السياسي انطلاقاً من مبدأ لم يحد عنه فحواه أن الإنسان ليس في حقيقته سوى ذئب بالنسبة إلى أخيه الإنسان.

3 كتب في واحد

ولئن كان "الليفياتان" (التنين) هو الأشهر على الإطلاق بين أجزاء الثلاثية كما كان خاتمة لها، فإن الجزأين الآخرين هما: "في الموطن" و"في الطبيعة البشرية". ويقيناً أن تلك الكتب الثلاثة إنما تقول الشيء ذاته في نهاية الأمر. تقوله بكآبة وأسف ولكن أيضاً نادمة لأن تلكم هي الطبيعة البشرية التي تجعل المواطن - الموضوع الأساس للجزء الأول - يتأرجح دائماً بين "الطبيعة البشرية" - موضوع الجزء الثاني - والسلطة الحاكمة الموصوفة هنا بالتنين - كموضوع للجزء الثالث الذي يكاد يكون الخلاصة المنطقية لنظرة هوبس إلى الحكم والسلطة الحاكمة. وكان هوبس من ثم من أنصار الحكم الملكي ليس انطلاقاً من تأييده بصورة مطلقة، بل انطلاقاً من اعتباره أسلوب الحكم الأكثر منطقية في عالم "الذئاب" الذي يعيش فيه الإنسان، أي الأسلوب الأكثر شرعية من أجل تماسك الدولة والمجتمع وعدم تعرضهما للتفكك وما تنتج منه من حروب أهلية تدمر وتقتل من دون ضابط. وهذا بالطبع ما أراد مخرج فيلم "التنين" أن يصوره لنا بصورة مواربة تكاد تقول إن الدولة وبكل مساوئها حتى ولو كانت تنيناً جباراً، تظل أفضل من فكرة اللادولة وقد تمثلت في الهيكل العظمي المرمي على شاطئ قفر!

مفسر أم داعية؟

من هنا سيبدو حتمياً النظر إلى توماس هوبس ليس كداعية للدولة الاستبدادية بل كمفسر لضرورتها، تلك الضرورة التي لا يمكن أن تكون له يد فيها. بالنسبة إلى هوبس، إذاً، ليست مهمة المفكر أن يرسم أسس الدولة بل أن يفسر، وحتى من دون أن يبرر، كيف تسير، أو يمكن أن تسير أواليات قيام أنظمة الحكم ليس انطلاقاً من إرادة المفكر بل انطلاقاً من الواقع التاريخي المرسوم. وفي هذا السياق سيكون لافتاً بالتأكيد كيف أن هوبس إنما كان يسير في تفكيره، التفسيري لا التبريري على أية حال، على خطى ماكيافيللي الذي لا شك كان مثله واحداً من كبار المفكرين الذين ظلمهم التاريخ من ناحية النظر إليهم كدعاة لحكم الطغيان غير مدرك أنهم لم يكونوا سوى مفسرين لما يحدث. وما يحدث ليس في نهاية الأمر سوى تراكم تاريخي لم يكونوا هم أكثر من راصدين له.

واقعية باردة

مهما يكن فإن هوبس في مجال بحثه في النظرية السياسية كما وصلت إليه مستقاة مما اعتبره طوباويات تحاول أن تبدع استنتاجات "على رغم أنف التاريخ" مستقاة عادة من الرباعي أفلاطون وأرسطو وتوما الأكويني وجان بودان، لكنه هو عارضها بواقعيته الباردة التي قربته من ماكيافيللي ولا سيما في مجال إقرارهما معاً بمفهوم الأنانية الذي يبدو حتمياً كي يتمكن الحاكم من أن يستجيب لحاجته إلى أن يحكم ما يمكن تسميته بالسلطة المطلقة - وهو ما سيضفي على نظرية هوبس توصيفها بالدعوة إلى الحكم الطغياني المطلق!

ففي نهاية الأمر، وبحسب تفسيرات معاصرة تمتد من برتراند راسل إلى عبدالرحمن بدوي، الأول من موقع الشاجب والثاني من موقع المحبذ على أية حال، يرى هوبس ولا سيما خلال تعمقه في دراسة الأمر في "التنين" بعد وقوفه عند عديد من التفاصيل في "المواطن" كما في "الطبيعة البشرية"، أن النظام السياسي، الذي هو موضوعه الأساس بصرف النظر عن البعد الأخلاقي للموضوع برمته، أمر اصطلاحي وطبيعي في آن معاً: اصطلاحي بمعنى أنه أساساً من ابتكار الإنسان صاحب العلاقة نفسه، وطبيعي "لأن الإنسان إنما صاغه وفقاً لميوله الطبيعية". "بيد أن الإنسان عند هوبس ليس كائناً اجتماعياً بطبعه كما يزعم أرسطو، وليس كذلك كائناً عقلياً مجرداً كما سيقول فلاسفة عصر التنوير في القرن الـ18، بل هو كائن شرير متخم بالتناقض والنقائص، جبان، فاسد، خبيث، لا يحركه سوى مصالحه الذاتية وتتحكم به الغرائز البدائية كالأنانية والجشع. إنه بين الكائنات جميعاً كائن لا يذعن إلا إذا استبد به الخوف، ولا يضحي بمصالحه إلا مرغماً. ولا يحب السلام من أجل السلام، بل لفزعه مما قد تسفر عنه الحرب". ويتلخص هذا كله في تلك العبارة التي باتت شهيرة على لسان هوبس "الإنسان ذئب بالنسبة إلى الإنسان والكل في حرب ضد الكل. والواحد في حرب ضد الجميع". لذا وطبعاً في نظر هوبس دائماً: الحياة هي ميدان تحرك القوة الباطشة بالنسبة إلى الأقوياء، وميدان تحرك الخداع والمكر والتحايل بالنسبة إلى الضعفاء. ومن هنا ضرورة وجود السلطة القوية الإكراهية التي ما من وسيلة غيرها تكون قادرة على ضبط الأمور.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اختيار منطقي!

ويخلص هوبس هنا إلى أن ذلك الواقع هو بالتحديد ما دفع الإنسان ممثلاً بالمجتمع إلى البحث عن ترياق لحالة الأمور تلك، وهو ما أوصله إلى اختيار لعله الأكثر منطقية بين كل تلك التي عرضت له وبدت إن لم يكن ممكنة، فمتاحة في الأقل، بدت له واقعية حتى وإن لم تكن من اختياره: تسليم شؤون المجتمع إلى الطرف الذي يمكنه أن يكون الأقوى والأكثر قدرة على فرض نوع من سلام بين القوى التي تكف بفضل تلك القوة القاهرة عن التهام بعضها بعضاً! ويقيناً أن هذا التفسير الذي أتى به هوبس، واستغرقه الأمر مئات كثيرة من الصفحات كي يحلله شارحاً ليس ضرورته بل حتمية الرضوخ له، هذا التفسير هو الأكثر واقعية ومادية وبعداً عن الرغبات الذاتية على أية حال من بين كل ضروب الخوض في تفسير نشوء أنظمة الحكم التي يختصرها هوبس على أية حال في ثلاثة تتفرع عنها أنظمة عديدة أخرى: النظام الملكي الذي يعتبره الأكثر مشروعية وقوة، والنظام الانتخابي "الديمقراطي" الذي يعتبره الأكثر ضعفاً وخضوعاً للعوامل البشرية المتقلبة، وأخيراً نظام الحكم الديني الذي يحكم باسم طاعة إلهية مفترضة.

مناف أوروبية

ولد توماس هوبس في وسبورت ودرس في أوكسفورد ليصبح في عشرينياته مؤدباً لأبناء العائلات الموسرة. وهو رافق باكراً تلميذاً له ابناً لإحدى تلك العائلات إلى فرنسا وإيطاليا. وخلال رحلته التقى عدداً من كبار تنويريي تلك المرحلة ومن بينهم ميرسين وغاليليو، وبدأ يهتم بالرياضيات والفيزياء بخاصة، جاعلاً منهما عماد فكره الفلسفي. وهو لاحقاً بعد عودته إلى إنجلترا عايش حروبها الأهلية التي شهدت الصراعات بين البرلمان والملك وانتهت بإعدام تشارلز الأول، ففر إلى فرنسا من جديد حيث بقي زهاء 10 سنوات منفياً وهناك كتب مؤلفاته الكبرى الثلاثة. وحين عاد إلى بلده أخيراً انخرط في معظم السجالات الفكرية والفلسفية والسياسية وبات أحد كبار أعلام الفكر هناك.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة