Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رومان غاري رجل وحيد عاش بأسماء متعددة

البولونية آغاتا توزينسكا تسرد سيرة وأعمال الأديب والدبلوماسي والروائي الروسي الفرنسي

الأديب والدبلوماسي والروائي الروسي الفرنسي رومان غاري (أ ف ب)

ملخص

البولونية آغاتا توزينسكا تسرد سيرة وأعمال الأديب والدبلوماسي والروائي الروسي الفرنسي

صدر حديثاً في باريس ترجمة فرنسية حملت توقيع إيزابيل جانيس-كالينوفسكي لكتاب الأديبة البولونية آغاتا توزينسكا المسمى "بهلوان" (دار لاكوزموبوليت، 2023)، تتناول فيه حياة الأديب والدبلوماسي والروائي الروسي الفرنسي رومان غاري (1914-1980)، الحاصل مرتين على جائزة غونكور أرفع الجوائز الأدبية في فرنسا، مرة باسمه ومرة ثانية باسم مستعار هو إميل آجار، الذي ما زالت سيرة حياته وأعماله الروائية محط اهتمام الفرنسيين، على الرغم من مُضي ما يقارب النصف قرن على وفاته.

يدور الكتاب حول علاقة غاري بأمه مينا أوتشينسكا التي تحدث عنها في روايته الشهيرة "وعد الفجر" (غاليمار، 1960) والتي اعتبرت بمثابة سيرته الذاتية. فيها يتبدى حبه لأمه وعلاقته المتلاحمة بها، بحيث يتعذر على القارئ تصور وجود أخوة آخرين له، كأن رومان غاري هو ابن وحيد خرجت به هذه المرأة من الدنيا. مع ذلك، ومن كتاب إلى كتاب، ومن بحث إلى بحث، ومن وثيقة إلى وثيقة، يعرف القارئ تدريجاً أن لغاري أخوة غير أشقاء، وبالتحديد أخ وأخت أصغر منه، هما فالنتينا وبافيل كاتسيف، اللذان ولدا في عامي 1925 و1926 من زواج والده، ليب كاتسيف من فريدا بوجارسكا، الذي عقد قرانه عليها تواً بعد طلاقه من مينا سنة 1929. وقد توفي الاثنان في عمر المراهقة في معسكرات الاعتقال، علماً أن غاري لم يتحدث عنهما أبداً.

غير أن رومان غاري لم يكن كذلك الابن الوحيد لأمه. فالأوراق التي عُثر عليها في السنوات الأخيرة لا تترك مجالاً للشك، إذ نكتشف أن مينا أوتشينسكا رُزقت بالفعل من زواجها الأول بـأوبين بريغشتاين ابناً آخر هو يوزيف، الذي ولد على ما يبدو سنة 1902، وأنه عند طلاقها منه، لم تتمكن من الحصول على حضانته.

رجل يهرب من وحدته

تقول ميريام أنيسيموف في كتاب بعنوان "عيون ممتلئة بالامتنان" الصادر سنة 2017 عن دار سوي في باريس، إنها تعرفت على رومان غاري في برنامج تلفزيوني، وقد أثار إعجابها ولو بدا لها رجلاً محبطاً يراكم العلاقات العاطفية العابرة للهرب من وحدته، مما دفعها إلى تقصي سيرة حياته التي نشرتها سنة 2004 بعنوان "رومان غاري، الحرباء" (دينويل، 2004)، ثم اتبعتها سنة 2010 بكتاب آخر بعنوان "الساحر" نشرته لدى دار سوي في باريس.

تروي لنا هذه السير أن غاري لطالما تساءل عما فعلت أمه لترفض المحكمة منحها حضانة طفلها يوزف، والذي بدا وقتها أنه لم يره أبداً. أما في كتاب "البهلوان"، الذي استندت كاتبته إلى كثير من المعلومات والوثائق الواردة في السيرة التي وضعتها أنيسيموف، لا سيما "رومان غاري، الحرباء"، تؤكد أغاتا توزينسكا، من دون تقديم دليل قاطع، أن مينا وابنيها يوزف ورومان عاشوا في الواقع "أكثر من عام كامل تحت سقف بيت واحد في مدينة فيلنيوس" التي كانت آنذاك تحت السلطة البولونية، وتحديداً من مارس (آذار) 1922 إلى أبريل (نيسان) 1923. كان رومان حينها في الثامنة من عمره، أما يوزيف فقد كان شاباً يبلغ 21 سنة، لكنه كان مصاباً بمرض عضال اضطره إلى الذهاب إلى مصحات فييسبادن في ألمانيا لتلقي العلاج، وأن مرضه قد تفاقم، مما دفع بأمه إلى السفر للقائه وللبقاء إلى جانبه حتى وفاته، علماً أن مينا وصلت بحسب ما يقول الكتاب إلى فيسبادن في 22 مايو (أيار)، أي قبل يومين من وفاة ابنها يوزف.

أسماء وجنسيات

لم يتحدث رومان غاري عن هذا الانفصال واللقاء ووفاة أخيه غير الشقيق المفاجئة، ولم يتناول حكاية مينا المأسوية مع ابنها الأكبر. ثمة آثار صغيرة جداً في نصوصه ورواياته تجعل القارئ يتساءل عما إذا كان موت الابن البكر يفسر حب مينا المجنون لابنها الثاني، الذي فاضت عليه بكل عطفها وحنانها كما لو أنه ابنان أو ثلاثة أو جيش من الأبناء. ولئن كانت حياة رومان غاري معروفة إلى حد ما، بدءاً من مسيرته كطيار ودبلوماسي، وزواجه الأول من الروائية الإنجليزية ليسلي بلانش، ومن ثَم من الممثلة الأميركية جين سيبرغ بطلة فيلم "على آخر رمق" لجان لوك غودار وانتحارهما، فإن انتحاله لخمسة أسماء (رومان كاتسيف، إميل آجار، ورومان غاري،...) وحمله جنسيات مختلفة (روسية وبولونية وفرنسية) وعيشه في عدة مدن كفيلينوس ونيس وباريس وغيرها، واستقراره في فرنسا على الرغم من الحروب والاضطهادات التي تعرض لها اليهود زمن سيطرة النازية، وانخراطه في صفوف المقاومة الفرنسية ضد الاحتلال الألماني، تؤكد لنا أن مؤلف "وعد الفجر" كان يحلم دوماً بهويات أخرى، وما تغييره لاسمه وتوقيع كتبه بأسماء مستعارة، إلا دليل على اختلاقه آباء متخيلين وعلى نكران والده الحقيقي، كأني به قد أصبح أباً لنفسه، لا بل خالقاً لذاته، يوم قرر ساعة موته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يساعدنا كتاب أغاتا توزينسكا على فهم التربة الروحية التي بنى عليها رومان غاري رواياته التي بدأ بنشرها باكراً منذ سنة 1935، وعلى رأسها "وعد الفجر" و"بؤساء بلفيل، الحياة أمامك" و"أوروبا" و"جذور السماء"، وغيرها، هو الذي ولد في لتوانيا لأسرة يهودية، يوم كانت هذه المنطقة البلطيقية خاضعة لسيطرة الإمبراطورية الروسية، لكن انتقاله إلى فرنسا، حيث عاش ونشر رواياته، التي شكل ظهورها حدثاً أدبياً كبيراً، جعل منه يحقق أحلام والدته وجرحها السري التي أرادت له مستقبلاً باهراً.

لا يمكن لأغاتا توزينسكا في هذا الكتاب سوى التساؤل عن رومان غاري وحياته الأسرية الضائعة في خضم التوصيفات التي طالت شخصه، هو الذي عرف كيف يوارب جميع الذين أرادوا التعرف على هويته الحقيقية وكل تفاصيل حياته. فيه تتساءل عن إمكانية استكشاف جانب مهم من حياة هذا الأديب وعلاقته بأمه وبإخوته. ولعلها تقول لنا إن نفيه لواقعه كان بمعنى ما سبباً في عيشه قدراً استثنائياً، فعل غاري كل ما بوسعه كي تبقى معالمه غامضة على الآخرين. وتؤكد لنا أن حياة رومان غاري تفوق في أحداثها وأسرارها كل الأوصاف التي وضعها في شخصيات رواياته. نجد صدى بعضها أحياناً في أعماله التي احتلت فيها المرأة والأم مكانة مميزة.

باختصار يدعو كتاب "بهلوان" لأغاتا توزينسكا القراء والباحثين في كتابات رومان غاري إلى العودة إلى إعادة قراءة نصوصه، علهم يجدون فيها مفتاحاً يساعدنا على فهم كل تفاصيل حياة هذا الروائي، ذلك أن سيرة الكاتب جزء من إبداعه الأدبي، ولو كانت العلاقة بين حياته ونصوصه في معظم الأحيان علاقة شائكة، تضاعف الغموض وتأخذ القارئ إلى أمكنة وإشكاليات أخرى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة