Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اتيان هلمير يدخل عالم المتسولين من باب الفلسفة

الشحاذ يحضر في الرواية العربية كشخصية وجودية ونجيب محفوظ والبير قصيري منحاه اهتماما

"المتسول النائم" للرسام كريستيان أرنو (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

الشحاذ يحضر في الرواية العربية كشخصية وجودية ونجيب محفوظ والبير قصيري منحاه اهتماما

ما العلاقة بين الفلسفة والتسول؟ ولماذا تجذب شخصية مثل المتسول فيلسوفاً أو أديباً للكتابة عنها وتحليلها من جوانب مختلفة؟

في عالم الأدب يحضر الشحاذ كي يجسد رمزاً يدل على الفقر والتهميش الإنساني. بدءاً من الأدبيات الكلاسيكية إلى الأعمال الحديثة، يظهر السائل بصور متعددة تعكس الأبعاد الاجتماعية والفلسفية، مروراً بالأسئلة الأخلاقية والروحية حول المجتمعات التي ينتمي إليها، إذ يطيح التسول عبر قوة الفقر الغاشمة عدة مفاهيم وقيم إنسانية نبيلة، منها العدل والكرامة والجمال وعزة النفس، لتهيمن بدلاً منها القسوة والمهانة والقبح، التي تؤطر حياة الشحاذ.

يعود حضور المتسولين في الأدب إلى العصور القديمة. في "الإلياذة" و"الأوديسة" مثلاً يتنكر الآلهة أحياناً في هيئة متسولين لاختبار فضيلة البشر وكرمهم. كما ظهرت شخصية المتسول لتسلط الضوء على مفاهيم الفضيلة والتواضع، وأبرز مثال على ذلك شخصية ديوجين الساخر، الفيلسوف اليوناني الموصوف بأنه لا يقتني شيئاً ولا يأوي إلى منزل، تخلى عن حياة الرفاهية ليعيش حياة التسول. وفي حكايات "ألف ليلة وليلة" يتكرر حضور المتسول في أكثر من وجه، منها التقليدي الساخط، ومنها الحكمي بغرض التنبيه من أمر ما، أو أن يتنكر أحد الملوك بزي الشحاذ لتحقيق غايته. ويحكى عن الخليفة العباسي هارون الرشيد، أنه قام بالتنكر مرات عدة بثياب رثة، وسار في الأسواق بين الناس ليسمع ما يقولونه عن أهل الحكم. ومن الجانب الديني، تحض الأديان السماوية كلها على تقديم العطف والرحمة للسائلين، وأبناء السبيل.

التسول حول العالم

في الأدب الكلاسيكي العالمي يمكننا التوقف عند رواية "أوليفر تويست" لتشارلز ديكنز، التي تدور حول الطفل اليتيم أوليفر الذي يجد نفسه وسط عالم من الجريمة والفقر والتسول في لندن الفيكتورية. وفي الأدب الفرنسي، لا يمكن إغفال رواية "البؤساء"، لفيكتور هوغو، وتصويره الحياة الصعبة للفقراء والمتسولين في فرنسا خلال القرن الـ19، مع التركيز على الظلم الاجتماعي والتهميش النسوي.

أما في الأدب الحديث فيتم استخدام شخصية المتسول بطرق أكثر تعقيداً وتنوعاً. في الروايات والقصص القصيرة، يعبر المتسولون عن الصراع الإنساني والنضال من أجل البقاء. كما يمكن أن يكونوا رموزاً للعزلة واليأس، أو تجسيداً للحكمة الصوفية كما هم المجاذيب، أو المعرفة الشعبية المستلهمة من حكايات تراثية، وتتم الاستعانة بهم أيضاً لتقديم نقد اجتماعي، أو للتعبير عن السخط تجاه الهياكل السياسية المسيطرة على النظام السياسي والاجتماعي.

الفيلسوف والشحاذ

في كتابه " التسول ربما" الصادر حديثاً عن دار "فيرديه"، يقدم الفيلسوف الفرنسي إتيان هلمير، وللمرة الأولى، تأملات في شخصية المتسول، تتميز بالعمق ودقة التحليل. يبحث الكتاب في موضوع غائب عن الفكر الفلسفي التقليدي، وهو حياة المتسولين. هيلمر، الذي يعد خبيراً في الفلسفة القديمة، وأستاذاً بجامعة بورتو ريكو في الولايات المتحدة، يلقي الضوء على هذه الشخصية المألوفة في حياتنا اليومية، ولكن المغيبة فلسفياً. من خلال أعماله السابقة حول شخصيات المتسولين في اليونان القديمة ودراسته لديوجين الساخر، يقدم هيلمر في كتابه هذا رؤية معاصرة ومعمقة عن معاني حياة المتسولين، هؤلاء الأشخاص الذين نصادفهم يومياً في طريقنا، من دون أن يعنوا لنا شيئاً، سوى أنهم يطلبون المال، بيد أن هيلمر يتعامل مع هذا الموضوع كفيلسوف، مستفيداً من أبحاث العلماء في العلوم الاجتماعية، ليقدم تصوراً جديداً للوجود، من خلال التأمل في حياة المتسولين.

يتناول الكتاب التحديات المعنوية التي تطرحها حالة التسول، في مجتمع يقصي المتسولين عن حدوده المادية والرمزية، وفي الوقت نفسه يزيد من عددهم ويجعلهم أكثر ظهوراً في مراكز المدن، حيث تزدهر الأعمال التجارية، وينمو الاقتصاد ويتضخم في اتجاهات شتى، فيما يظل الشحاذون على هامشه، غير مرئيين من القوى الرأسمالية العظمى التي ترى أنهم مجرد عالة عليها، مما يؤكد أن عصرنا النيوليبرالي هذا، فيه تجاهل تام لرؤية الأبعاد الحقيقية لحياة التسول، وما فيها من قسوة وعنف. إن المتسول، المحظور والمذموم، الشريد الذي يمد يده للمارة والعابرين في الشارع، ويواجه العنف والتحيز، يجسد في كثير من الأحيان نقيض الرجل الناجح الذي، من خلال عمله ومشاركته في لعبة التبادل الاجتماعي والاقتصادي، يتمتع بالمال والاستقرار وسائر الحقوق الاجتماعية. يتساءل هيلمر: "من أين تأتي مثل هذه النظرة إلى الحياة، بين الوجود الرسمي المتفق عليه، والآخر المنبوذ؟ هل الشحاذ هو فقط هذا الإنسان السائل والمجرد، الذي تم اختزاله إلى احتياج وافتقار؟".

يسعى هلمير في كتابه إلى تفكيك النظرة التقليدية للمتسول، التي تعود جذورها إلى اليونان الكلاسيكية. يشير إلى أن الفلسفة منذ بداياتها صورت المتسول كنسخة متدهورة أو معكوسة للإنسان المتفاعل سياسياً واجتماعياً، مما أدى إلى بناء نموذج مضاد للإنسانية في شخصية المتسول. أراد هيلمر في كتابه هذا، وبشكل غير مباشر، التفكير بإيجابية في الحياة المتسولة، دون الوقوع في فخ التبسيط الذي يقتصر على عكس النظرة السائدة أو تمجيد الحياة المحرومة. ويهدف إلى إعادة صياغة رؤية العالم من منظور التسول، مع الاعتراف بصعوبات هذا النمط من الحياة.

يتميز الكتاب أيضاً، بحرص المؤلف على توسيع رؤية القارئ لإدراج حياة التسول ضمن نطاق الحياة العامة، حيث يصف هيلمر بدقة وعمق تجربة الوجود المتسول بكل تناقضاتها وتعقيداتها، متوقفاً أمام التحديات التي تواجه المتسولين والأحكام المسبقة الموجهة ضدهم، وكيف يمكن أن تعكس هذه التصورات عدم فهمنا لواقعهم. يطرح هذه الرؤى عبر تساؤلات يثيرها المتسولون حول مفاهيم أساسية ظلت مستمرة معهم، عبر الزمان والمكان، لعل أهمها الضعف الإنساني، والوجود الهامشي، مما يسمح بتعرضهم للعنف والقهر، بل يصل بهم الحال إلى الموت في كثير من الأحيان، ويورد الفيلسوف عديداً من الحوادث التي وقعت للمتسولين نتيجة عنف شديد تعرضوا له.

في رواية "قواعد العشق الأربعون"، قدمت أليف شفق شخصية الدرويش المتسول شمس التبريزي، الذي اختار أن يعيش هذه الحياة بملء إرادته، يجوب الأرض سائلاً المارة أن يمنحوه كسرة خبز، أو مكاناً ينام فيه، في المقابل يقرأ التبريزي سريرة من يبخل عنه، ومن يعطيه سؤاله، قائلاً: "هكذا هي الحياة، فعندما تخبر أحدهم بالحقيقة يكرهك، وكلما تحدثت عن الحب ازدادت كراهيته لك".

الشحاذ في الرواية  العربية

في إطار الرمزية والبحث عن المعنى الوجودي للحياة، يواجه عمر حمزاوي بطل رواية "الشحاذ" لنجيب محفوظ، تساؤلات نفسية فلسفية، تجعل منه متسولاً بائساً للحقيقة، يقول: "كنت أظن أن الفقر هو العدو الوحيد للإنسان، ولكنني اكتشفت أن الوحدة أشد فتكاً"، في هذه الرواية لا يعد البطل متسولاً في السياق التقليدي للكلمة، بل تتقاطع فكرة التسول مع التجربة الإنسانية الفردية وتعقيداتها في إطار المجتمع المصري وتحولاته. بطل الرواية عمر، عبر رمزية استخدام كلمة الشحاذ لوصفه، يجسد شخصية مثقفة، ولكنها محطمة ومنكسرة، لا تجد ضالتها في العلم أو الفن أو الاستقرار. كان يوماً ما طالباً متميزاً وواعداً، لكنه يجد نفسه مع مرور الوقت رجلاً يعيش على هامش المجتمع، بعدما خذلته طموحاته وأحلامه. تلقي الرواية الضوء على الصراع الداخلي للإنسان عندما يواجه إخفاقات الحياة، وكيف يمكن أن تؤثر هذه الإخفاقات على نظرته لنفسه وللعالم، وتؤدي به إلى الفرار من الحياة الآمنة والمستقرة إلى حياة العدم، إذ من خلال الرحلة العبثية التي يقوم بها عمر حمزاوي للتساؤل عن معنى وجوده، يستكشف محفوظ عديداً من القضايا الاجتماعية والنفسية، مثل: الفقر، اليأس، الوحدة، الضجر، والبحث عن الذات.

لنقرأ هذا الحوار بين البطل وأحد رفاقه: "التسلية، هي رسالتي في الحياة، قديما، كان للفن معنى حتى أزاحه العلم، فأفقده كل معنى... لا تخلو حركة هروبية من فشل، صدقني ستجد في العلم لذة الشعر، ونشوة الدين وطموح الفلسفة، صدقني أنه لم يبق للفن إلا التسلية. ما أجمل أن أسمع هذا انتقاماً من الفن، لا حباً بالعلم". لكن بعيداً من التسول الرمزي، غاص محفوظ في روايته "زقاق المدق"، ليقدم حياة التسول بعمقها الحقيقي مع شخصية "زيطة" صانع العاهات، الذي يقوم ببتر الأعضاء وتشويه الأجساد، بغرض أن يصبح الشخص الذي يعاني الفقر والعوز صالحاً لمهنة التسول، بل إن "زيطة" يستمد قوته ووجوده من قدرته على تقديم هذه الخدمة، لنقرأ: "ولم يكن انكبابه على تحصيل يوميته لينسيه واجب رعاية العاهات التي صنعها، وربما سأل هذا أو ذاك، كيف عماك يا فلان؟ أو كيف كساحك يا فلان؟ فيجيبونه الحمد لله... الحمد لله".

شحاذون ونبلاء

في كثير من الأعمال الأدبية يصور المتسولون في سياقات اجتماعية واقتصادية أوسع، مما يوضح كيف تؤثر الأنظمة والظروف الخارجية على حياتهم، بالتوازي مع تقديم علاقات إنسانية بين المتسولين وأفراد المجتمع الآخرين، مما ينتج تفاعلات معقدة بين الطبقات المختلفة، ويعطي بعداً أكثر غنى وتعقيداً لشخصياتهم. تعتبر رواية "شحاذون ونبلاء" للكاتب المصري الفرنسي ألبير قصيري واحدة من الروايات التي تجسد ببراعة الحياة الاجتماعية والفكرية لنماذج متناقضة من الشخوص. تأخذنا هذه الرواية إلى حي الأزهر في قلب القاهرة القديمة، ليقدم الكاتب شخصيات عدة، منها أستاذ التاريخ جوهر الذي استقال من الجامعة اعتراضاً على تزوير التاريخ، يتردى به الحال، ويعيش على الحافة، ويتقاطع مصيره مع جماعة من المتسولين والبؤساء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يستخدم قصيري شخصياته ليس فقط كممثلين لطبقاتهم الاجتماعية بل أيضاً كرموز لعديد من الأفكار والمشاعر الإنسانية. شخصيات الرواية تراوح ما بين المعدومين المكافحين من أجل البقاء، مع شخصيات أخرى يعيشون في رفاهية، ولكنهم يفتقرون إلى الإحساس بالإشباع العاطفي والروحي. يصور الشحاذون على أنهم ليسوا كضحايا فحسب، بل كأفراد لديهم كرامتهم وأحلامهم وطموحاتهم. لنقرأ: "ابتسم وهو يرى من بعد نفس الشحاذ الذي لا يفتقده، متقوقعاً في ركنه المألوف. يكرر نفس النداءات التي يرددها دائماً، إذ لم تكن مع جوهر نقود، يدور بينهما حديث له أهمية خاصة، فجوهر يعرفه منذ أمد طويل، ويشعر بالسعادة حين يحادثه... إنه شحاذ من نوع خاص، لا يردد أية شكوى، ولا يعاني أية عاهة. يعجب به جوهر كثيراً، لأنه لم يحافظ على تقاليد الشحاذين، وسط هذا العالم العبثي، يبدو ما يفعله الشحاذ عملاً مثل بقية الأعمال".

طبقات متعددة

قدم الكاتب الراحل مكاوي سعيد، في روايته "تغريدة البجعة"، عالم المتسولين وأطفال الشوارع، من خلال تناوله لتحولات المجتمع المصري، وما فيه من طبقات متعددة. البطل مصطفى مثقف وناشط سياسي ينتمي إلى الطبقة المتوسطة، لكنه يعاني هزائم داخلية نتيجة إحساسه بغياب اليقين، لذا يظل على مدار الرواية في حالة من التشظي، تجعله يتلفت حوله باستمرار كي يراقب العالم بنوع من التعاطف والرحمة. تتقاطع أيامه مع كريم، أحد أولاد الشوارع الذي "نجح بذكائه الفطري في قيادة زملائه، ومنهم من هو أكبر سنا منه وأشد عوداً. كان يوزعهم عقب صلاة الفجر، على أزقة وشوارع وسط البلد، ويقتسم معهم النقود يومياً عقب الغروب، وهم يفترشون الرصيف، خلف السيارات الراكنة بصفوف طويلة، لا نهائية". توقف الكاتب بدقة أيضاً، أمام العنف الذي يحدث للمتسولين في الشارع، سواء من المارة العابرين، أو من الشرطة، أو من تبادل العنف فيما بينهم.

أما الروائي السوداني منصور الصويم فقد اقتحم ظاهرة أطفال الشوارع الشحاذين المنتشرين بكثرة في شوارع الخرطوم، عبر روايته "ذاكرة شرير"، الحاصلة على جائزة الطيب صالح، من خلال شخصية "آدم" أو كسحي الملك، الصبي الكسيح الذي فقد أمه وتبادلته النسوة للاعتناء به والتسول من خلاله، وجد نفسه يكبر في الشوارع، ويتحول إلى شحاذ. تقدم الرواية وجهة نظر درامية وفلسفية لنظرة المجتمع إلى هذه الفئة المسحوقة، الذين يعيشون في العراء، من دون تعليم أو صحة أو أي نوع من الرعاية، فتعري الحقائق الخفية والمسكوت عنها، في مجتمع لا يرحم الضعفاء وينحاز دائماً للأقوى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة