Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف حطمت رصاصة قناص آخر ملاذ آمن داخل الكنيسة الكاثوليكية في غزة

يعاني مئات الفلسطينيين المسيحيين أساساً شح الطعام والمياه الملوثة والخوف المستمر من التفجيرات أثناء بحثهم عن ملجأ من الصراع في شمال القطاع، ليتعرضوا لمزيد من الرعب عندما أُطلق النار على والدة وابنتها أثناء محاولتهما الوصول إلى دورة المياه في كنيسة العائلة

على يسار الصورة ناهدة وابنتها سمر، كنيسة العائلة المقدسة في مدينة غزة (من المصدر/غيتي)

ملخص

شكلت الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في غزة على مدى أعوام طويلة ملاذاً للرعية التي تقصدها للصلاة، فلا عجب إذاً أن يختار المئات اللجوء إليها بعد دمار منازلهم في أكبر مدن القطاع، وهي المكان الذي ركزت إسرائيل قصفها العنيف عليه

شكلت الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة في غزة على مدى أعوام طويلة ملاذاً للرعية التي تقصدها للصلاة، فلا عجب إذاً أن يختار المئات اللجوء إليها بعد دمار منازلهم في أكبر مدن القطاع، وهي المكان الذي ركزت إسرائيل قصفها العنيف عليه. 

حوّل أبناء الرعية غرف اللعب في حضانة الأطفال وحتى المقاعد في صحن كنيسة العائلة المقدسة ومجمعها الواسع إلى مأوى موقت. أقاموا القداس على أضواء المصابيح، وصلّوا على نية النجاة فيما سوت حملة القصف الإسرائيلية المباني في المنطقة المحيطة بهم بالأرض.    

ومع تقدم الدبابات الإسرائيلية واحتلال القناصة مواقعهم في المباني السكنية المحيطة بالمجمع، أصبح التنقل بين مبانيه أمراً محفوفاً بالأخطار. وعلى رغم ذلك، كانت سمر أنطون، وهي عاملة في الكنيسة من مدينة غزة وتبلغ من العمر 49 سنة، تدرك الأخطار عندما ساعدت والدتها، ناهدة، وهي جدة في السبعينيات من عمرها، وأضعفها شهران من الصراع ونقص التغذية، في الذهاب إلى الحمام. كانت هذه الرحلة تعني اجتياز فناء، مزين عادة بشجرة عيد الميلاد الكبرى ويعج بالأطفال وهم يغنون الترانيم في هذا الوقت من العام والذي تحول الآن إلى ممر خطر.

اخترقت رصاصة القناص الأجواء واستقرت في رأس سمر. وأصابت رصاصة أخرى معدة ناهدة، الجدة لـ15 حفيداً.

ويقول جورج، 31 سنة، وهو أحد أقارب السيدتين الذي طلب عدم الكشف عن هويته خوفاً على سلامة عائلته وسلامته الشخصية: "رأتهما عائلتهما وهما تهويان أرضاً". تلطخت الأرض بالدماء.

يتحدث الرجل إلى "اندبندنت" من الضفة الغربية المحتلة، ويقول إن والديه وأخاه العشريني، لاذوا بهذه الكنيسة في شمال غزة مثل غالبية مسيحيي غزة الذين تتناقص أعدادهم، إضافة إلى الكنيسة الأرثوذكسية على بعد ميلين شرقاً تقريباً. 

 

قصت عليه عائلته خبر مقتل السيدتين الذي أثار سخطاً عالمياً ووصفه البابا فرنسيس بأنه "إرهاب" خلال اتصالات هاتفية نادرة، يتقطع فيها الإرسال تارة ويعود طوراً. ومن جهتها، قالت البطريركية اللاتينية في القدس وهي السلطة الكاثوليكية في المنطقة إن ناهدة وسمر قتلتا "بدم بارد".

وأضاف جورج: "هرع بعض أقاربنا للمساعدة. كان أحدهم جراحاً يُدعى الدكتور إلياس، فيما الآخرون كانوا أفراداً من عائلتي من بينهم ابن عم لي لا يتخطى عمره 16 سنة. لكنهم أصيبوا عندها بقذيفة من نوع ما... أصيب سبعة بشظايا القذيفة من بينهم أقاربي المراهقين. لا يمكن أبداً أن يتلقوا العلاج المناسب بسبب غياب المستشفيات العاملة في شمال غزة".

والآن، انقطع الاتصال بين جورج الذي خسر قبل ذلك 20 فرداً من عائلته في غزة، وأبويه والآخرين في الكنيسة. لا يعلم إذا تمكنوا من دفن الجثث وإن كان الجرحى لا يزالون على قيد الحياة. كل ما يعرفه هو أن "الأمل مفقود".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويتابع جورج: "تعرضت كل منازلنا للقصف. أصبحت غزة غير قابلة للسكن، والجثث منتشرة في كل مكان والأوبئة في انتشار، والقصف خلّف حفراً بعمق 20 متراً. لم يتبقَّ شيء. يقلقنا جداً ألا نتمكن من إخراجهم".

أُرغم العالقون بالفعل على تقنين آخر ما تبقى لديهم من فتات الشوفان وكمية المياه الآسنة المتضائلة، وهم عاجزون عن التحرك. 

بدأ القصف على غزة عقب هجوم نفذته حركة "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي داخل إسرائيل، قتل خلاله 1200 شخص فيما أخذ 240 آخرين رهائن. ويقول مسؤولو الصحة في غزة إن الغارات الجوية شبه المتواصلة بعد ذلك في إطار الهجوم الإسرائيلي قتلت أكثر من 19 ألف شخص، ثلثاهم تقريباً من النساء والأطفال. كما سوّيت مساحات كبيرة بالأرض في قطاع طوله 26 ميلاً يقطن فيه أكثر من مليوني شخص، في خضم سعي إسرائيل إلى القضاء على "حماس" كلياً.

وكانت مدينة غزة من أهم المناطق التي تركزت عليها الحملة الإسرائيلية، حيث طوقت القوات العسكرية المستشفيات والمدارس، والكنائس أيضاً، على ما تبدو عليه الحال الآن.

 

وفي هذا الإطار، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية إن الحادثة التي وقعت في الكنيسة السبت الماضي لا تزال قيد المراجعة.

كما نفى الجيش الإسرائيلي على ما يبدو هذا التقرير، وقال إنه "يستهدف الإرهابيين والبنية التحتية للإرهاب ولا يستهدف المدنيين مهما كانت ديانتهم".

لكن مقتل السيدتين داخل الكنيسة، إضافة إلى قصف المجمع ومحاصرته سلطت الاهتمام بصورة مكثفة على استخدام القوة في الجيش الإسرائيلي. ويتحدث جورج عن وجود مخاوف جدية من أن يوشك المسيحيون في غزة على "الانقراض" في حال استمرار هذه الهجمات. 

بعض أفراد عائلة ليلى موران، النائب عن حزب الديمقراطيين الليبراليين، عالقون داخل الكنيسة الكاثوليكية، ومن بينهم جدتها وقريبها وزوجته وولداهما التوأم البالغان من العمر 11 سنة. وهي تقول إن الرعية "مدنيون أبرياء لا علاقة لهم بحماس وهم يشعرون برعب تام". 

وأضافت أنه خلال الأيام الأخيرة، تعرض كل من يقترب من الكنيسة الكاثوليكية لإطلاق النار.

وقالت لـ"اندبندنت": "أخبروني بأن قنابل الفسفور الأبيض ألقيت داخل المجمع وأن الشخص المكلف جمع القمامة قُتل بالرصاص حين حاول دخول المجمع كما أطلق النار أيضاً على أحد الحراس وهو يحاول إصلاح سجادة". والفسفور الأبيض هو مادة حارقة تستخدم لتوليد ستارة من الدخان وللإضاءة أثناء القتال. وفيما لا يعتبر استخدامه غير قانوني يعد استعماله بصورة متعمدة ضد المدنيين أو في بيئة مدنية انتهاكاً لقوانين الحرب. وما تقوله إسرائيل هو أنها تراعي القانون الدولي عند اللجوء إليه.

وحضت السيدة موران الجيش الإسرائيلي الذي حاصر الكنيسة بالدبابات على "التراجع" فوراً، لتضيف: "علينا البدء بفرض أكبر قدر من الضغوطات على إسرائيل وحماس لتحقيق وقف إطلاق النار من الجانبين. لا يمكن حل هذا الوضع بالوسائل العسكرية. ليست عائلتي أضراراً جانبية مبررة".

وتقول السيدة موران كذلك إن المولدات الكهربائية المتبقية دمرت في القصف، مما يعني أن التيار الكهربائي مقطوع.

إضافة إلى ذلك، دمرت الألواح الشمسية التابعة للكنيسة فيما أصابت الشظايا والقصف خزانات المياه وثقبتها وفُجر آخر مولد كهربائي، فاحترقت موارد الوقود الثمينة المتبقية، متحولة إلى كتلة من النيران.

تقول النائب إنها صعقت من رفض إسرائيل حتى التفاوض حول البحث في وقف لإطلاق النار أخيراً – على رغم عودة المحادثات الآن - ومن أن الولايات المتحدة ودولاً أخرى استخدمت حق النقض لإحباط جهود التوصل إلى هدنة إنسانية.

وتضيف: "إن أملنا الوحيد هو في إيصال عائلتي إلى جنوب غزة خلال الهدنة المقبلة لكنهم خائفون جداً من مغادرة مجمع الكنيسة الآن لأن الجميع تعرض لإطلاق النار".

وتتابع موران: "لا توجد طريقة لإجلاء المنطقة، فالرجال خائفون من التوجه جنوباً لأن الجنود الإسرائيليين يعتقلون الرجال ويقتادونهم بعيداً من الممر الآمن المزعوم. ولا يفرق القناصة بين المدنيين و’المقاتلين‘".

أما شيرين عواد، رئيسة كلية بيت لحم للكتاب المقدس وناشطة السلام التي التقت البابا فرنسيس الشهر الماضي لإطلاعه على هواجسها في شأن أوضاع كنائس غزة، فتقول إن عائلتها منقسمة بين الكنيسة الكاثوليكية وكنيسة القديس برفيريوس للروم الأرثوذكس التي تعتبر من أقدم الكنائس العاملة في العالم.

 

وتشرح أن "العائلة قسمت نفسها بين الكنيستين كي ينجو قسم منها في حال قُصفت إحداهما"، وهو خيار لا ترغب أي عائلة أبداً في أن تكون مضطرة إلى اتخاذه.

تصف عواد الوضع بالـ"مريع" وتقول إن خالتها نجوى، وهي في السبعينيات من عمرها، أصيبت بجرح بالغ في القصف الإسرائيلي على الكنيسة الأرثوذكسية في أكتوبر الماضي. وخضعت نجوى لجراحة من دون تخدير في مستشفى الأهلي في المدينة نفسها، عقب إصابة المستشفى نفسه بالقصف. منذ ذلك الوقت، اقتحمت القوات الإسرائيلية المستشفى الذي أغلق أبوابه الآن.

بعد رحلة رهيبة لمسافة ميلين، تحتمي نجوى الآن بالكنيسة الكاثوليكية حيث " تستخدم الحفاضات للنظافة الشخصية وليس حولها من يساعدها على السير أو الحركة". 

وتضيف عواد أنها "تعاني آلاماً مبرحة وكل ما تنشده هو الموت". تذكر أيضاً خالها الذي كان في الثمانينيات من عمره وتوفي منذ 10 أيام داخل كنيسة العائلة المقدسة حين انفجرت زائدته الدودية في ظل عدم وجود أي مستشفى يمكن اصطحابه إليه.

وقالت البطريركية اللاتينية إنه في وقت سابق من ذلك اليوم دمّر القصف المدفعي الإسرائيلي أجزاء أخرى من مجمع الكنيسة الذي يحمي 54 شخصاً يعانون إعاقات، وهم محرومون الآن من أجهزة التنفس التي يحتاجون إليها لكي يظلوا على قيد الحياة. وجرح ثلاثة أشخاص آخرون في القصف المكثف على المنطقة.

وإلى جانب الرعب جراء نيران القنص والقصف والقذائف، يلوح خطر الأمراض. فنظراً إلى عدد المسنين والمعوقين والجرحى، هناك خوف حقيقي من وقوع مزيد من الوفيات. أحدثت الشظايا والقصف ثقوباً في خزانات المياه والموجودون داخل المجمع "يشربون الآن مياهاً آسنة… لا سبيل لإيصال المساعدات إلى ذلك المكان"، كما تشرح عواد.

 

يتزايد الضغط على إسرائيل لكي توافق على وقف إطلاق النار. فمسألة استخدام قواتها للعنف وضعت أساساً تحت المجهر بعد اعتراف الجيش بإطلاق النار "بالخطأ" على ثلاثة من مواطنيه- هم ثلاثة رهائن من الرجال- فيما كانوا يلوحون براية بيضاء ويصرخون بالعبرية طلباً للمساعدة أثناء محاولتهم الفرار في شمال شرقي غزة.

لكن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أصر على موقفه من الهجوم على غزة، قائلاً إن "الضغط العسكري ضروري من أجل عودة الرهائن وإحراز النصر". 

لم يوضح الجيش ملابسات الحادثة التي وقعت السبت الماضي في كنيسة رعية العائلة المقدسة، بل قال إن ممثلين عن الكنيسة اتصلوا به في وقت مبكر السبت في ما يتعلق بموضوع انفجارات وقعت في المنطقة من دون أن يفيدوا عن وقوع أي ضحايا داخل مجمع الكنيسة، لكن في البيان نفسه الذي اطلعت عليه "اندبندنت"، كانوا يتحدثون عن مكان مختلف في مدينة غزة.  وجاء في بيان الجيش أنه "يأخذ الادعاءات المتعلقة بالإضرار بمواقع حساسة على محمل الجد تماماً- لا سيما الكنائس- نظراً إلى أن الجماعات المسيحية أقلية في الشرق الأوسط".

كان يعتقد بوجود ألف مسيحي أو أكثر بقليل في غزة قبل أن تشن إسرائيل أعنف حملة قصف لها على الإطلاق على القطاع. لكن المسيحيين الذين كان عددهم حتى فترة قريبة نسبياً 3 آلاف نسمة سعوا على مر الأعوام إلى الفرار من المنطقة الواقعة تحت حصار إسرائيلي ومصري منذ 15 عاماً.

قبل الحرب، كانت لدى غالبيتهم القدرة على الخروج من غزة بفضل تصاريح خاصة تمنح لعدد قليل من المسيحيين في عيد الميلاد والفصح من أجل الصلاة في بيت لحم أو القدس، وزيارة العائلة في مناطق أخرى من الأراضي الفلسطينية المحتلة أو السفر إلى الخارج لفترة وجيزة.   لكن "الحياة جحيم تام" الآن، كما يقول بعض أفراد هذا المجتمع الذين لم يرغبوا في الكشف عن هوياتهم خوفاً على سلامتهم.

في جنوب غزة، حيث تشن إسرائيل الجزء الأخير من هجومها على "حماس"، تحدثت عائلات مسيحية ومسلمة عن الظروف المعيشية المريعة بالنسبة إلى الذين تمكنوا من الانتقال من الشمال، ومنها شدة الاكتظاظ داخل الخيم وغياب المياه والطعام. ويقول أطباء لـ"اندبندنت" إنهم لا يملكون معدات طبية لإنقاذ الأرواح. كما قالت كل العائلات المسيحية التي تحدثت إليها "اندبندنت" إنها تسعى يائسة إلى تأمين تأشيرات لأحبتها من أجل إخراجهم من غزة.  

لكن فيما تظل الحدود مغلقة، تقول عواد من كلية بيت لحم للكتاب المقدس إن كل ما تبقى هو الصلاة "فقدنا الأمل بالدول كافة- إنجلترا والولايات المتحدة التي لا تقبل بالتصويت لمصلحة وقف إطلاق النار، فقدنا الأمل بالإنسانية... تبقى الصلاة الملجأ الوحيد الذي يمكننا الاعتماد عليه".

© The Independent

المزيد من تقارير