ملخص
تراجع الاهتمام بظاهرة الاحترار القادرة على التسبب في دمار واسع النطاق وخسائر في الأرواح إلى مرتبة متأخرة مقابل الحروب والصراعات المسلحة والكوارث الطبيعية
سنة أخرى مرت سجلت فيها درجات الحرارة المرتفعة في العالم أرقاماً غير مسبوقة وعاش خلالها الكوكب في مختلف أرجائه أحداثاً مناخية متطرفة، من حرائق غابات وموجات جفاف وفيضانات مدمرة، كان من المفترض أن تدفع قضية التغير المناخي إلى صدارة السياسة الدولية، لكن في ظل الصراع المسلح الذي تشهده مناطق عدة والكوارث الطبيعية الجسيمة التي ضربت أجزاء مختلفة، يبدو أن أزمة المناخ لم تعد تحظى بالاهتمام الذي تستحقه من السياسيين ووسائل الإعلام.
على مدى أكثر من 10 أيام من الشهر الأخير هذه السنة، كانت مجموعة من أرفع زعماء العالم تجري محادثاتها ضمن فعاليات الدورة 28 من مؤتمر الأطراف في الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة في شأن تغير المناخ (كوب 28) التي أقيمت في دبي في الإمارات العربية المتحدة.
بعد النتائج التي توصلت إليها نسخة المؤتمر السابقة التي انعقدت في شرم الشيخ كان ينظر إلى قمة هذه السنة على أنها حاسمة بشكل خاص، وفرصة بالغة الأهمية للقادة لاتخاذ قرارات جذرية وإعادة التركيز على معالجة ضعف القدرة على الإدارة والتحكم بالموارد في الخارج، وضمان عدم تخلف المناطق الضعيفة عن الركب في الجهود العالمية الرامية إلى تعزيز القدرة على التكيف مع تغير المناخ.
لكن الحال لم تكن كذلك في ظل الحرب المستعرة في جزء آخر من الشرق الأوسط التي خطفت تركيز وسائل الإعلام على مستوى العالم منذ اندلاعها في السابع من أكتوبر (تشرين الأول).
علاقة متبادلة
قد يعتقد البعض أنه من المنطقي تجاهل قضية المناخ وتراجع التركيز الإعلامي عليها واهتمام الحكومات بها لصالح النزاعات المسلحة، لكن في الواقع العلاقة بين هاتين الأزمتين متبادلة. تؤثر التغيرات المناخية في الاستقرار السياسي بل وحتى تجعل الصراعات المسلحة أكثر فتكاً في المناطق الأكثر ضعفاً التي ينعدم فيها الأمان البيئي. في المقابل، من المعروف تاريخياً أن توافر الموارد والوصول إليها هما من أهم الأسباب الجذرية لمعظم الصراعات العنيفة إلى جانب لعب الحروب دوراً بارزاً في مفاقمة الانبعاثات الحرارية وما تخلفه من أضرار على البيئة والمناخ.
تذكر الأمم المتحدة في الموقع الإلكتروني الخاص باتفاقيتها الإطارية حول تغير المناخ أن إحدى أكثر الصور العميقة للكلفة البيئية للصراع تجلت خلال حرب الخليج الأولى، عندما أضرمت النيران في 700 حقل من حقول النفط في الكويت، حيث امتد عمود الدخان فوقها في البداية لمسافة 800 ميل (ما يزيد على 1287كم) وسكب 11 مليون برميل من النفط الخام في الخليج العربي، مما أدى إلى تكون بقعة باتساع تسعة أميال (أكثر من 14 كم)، وفي الداخل، تشكل نحو 300 بحيرة نفطية على سطح الصحراء، متسببة في تلوث للتربة امتد لعقود من الزمن ولا يزال ما يزيد على 90 في المئة من التربة ملوثاً بعد مرور أزيد من 30 عاماً.
على كل حال، تأثير الصراعات المسلحة على المناخ أبعد بكثير من تفجير وحرق حقول النفط، إذ إن الأراضي التي يتم تدميرها بسبب القصف أو تصبح غير صالحة للسكن نتيجة للألغام الأرضية، تفرض ضغوطاً على موارد الأراضي الشحيحة.
ركزت دورية "المكتبة العامة للعلوم" PLOS Climate في مقالة حديثة، على العلاقة بين النزاعات المسلحة وتغير المناخ، إذ سلطت الضوء على كيف تستطيع الأزمة البيئية زيادة الأضرار الناجمة عن النزاعات المسلحة، وذكرت أن ما مجموعه 46 دولة و2.7 مليار شخص باتوا الآن معرضين لخطر كبير لمواجهة الصراعات المسلحة والحروب بسبب تغير المناخ. ومع اشتداد الأزمة في السنوات والعقود المقبلة سيضطر مزيد من الناس إلى مغادرة أماكن عيشهم نتيجة للظروف المتطرفة مثل التصحر وارتفاع منسوب مياه البحر، التي قد تغمر بعض جزر المحيط الهادئ على سبيل المثال، من ثم ستكون هناك أزمة أخرى متمثلة في تدفق اللاجئين.
تذكر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن عدد الأشخاص النازحين قسراً تضاعف في السنوات العشر الماضية ليصل إلى نحو 108 ملايين شخص، من بينهم أكثر من 43 مليوناً من اللاجئين وطالبي اللجوء وغيرهم من النازحين خارج بلادهم بينما يزيد عدد النازحين داخلياً على 62.5 مليون، مع خفض أعداد الذين يعودون إلى ديارهم بعد الفرار منها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول مجلس العلاقات الخارجية الأميركي إنه وعلى رغم عدم وجود أدلة كافية تشير إلى أن تغير المناخ يؤدي بشكل مباشر إلى العنف، فإنه يفعل ذلك عبر مسارات غير مباشرة، كما أن الفوضى المناخية والضغوط البيئية تعمل على مضاعفة التهديدات الأمنية القائمة، إلى جانب الآثار البيئية المدمرة للنزاعات المسلحة، مما يدخل العالم في حلقة مفرغة.
تتفاقم الصراعات داخل الدول وفي ما بينها بسبب التغيرات المناخية، وتصف الأمم المتحدة الحرب الأهلية في السودان بأنها أول صراع حديث ناجم عن تغير المناخ، وكذلك أصبحت الصراعات الأهلية أكثر تهديداً في بلدان كبيرة مثل الهند ونيجيريا، حيث تتصاعد الاضطرابات الاجتماعية في المناطق الحضرية مع هجرة المزارعين والرعاة المحرومين إلى المراكز السكانية، مما يؤدي إلى تغيير المشهد السياسي والاقتصادي وإجهاد البنية التحتية. وفي الدول المنقسمة أو الضعيفة مثل هندوراس وميانمار والصومال تكافح الحكومات لمعالجة الأضرار المناخية في المناطق الأقل تصنيعاً، مما يدفع المجتمعات نحو الجماعات المسلحة غير الحكومية التي تقدم الخدمات الأساسية مقابل الدعم المحلي.
وتشير الدلائل إلى أن التغيرات في أنماط هطول الأمطار تؤدي إلى تضخيم التوترات القائمة، وفي المناطق التي تعاني ضغوطاً مائية وتعيش بالفعل توترات بين مجموعات أو جهات ذات نفوذ في شأن مصدر المياه، قد يؤدي تأثير تغير المناخ في الموارد المائية إلى زيادة التوترات، ولا سيما في غياب القدرة المؤسساتية القوية.
وبالمثل تتصاعد التوترات العابرة للحدود الوطنية في المناطق التي تعاني شح الموارد، إذ تتراجع إمدادات المياه بسبب الاحتباس الحراري العالمي، وحيث لا يرغب الجيران في إدارة المخصصات المتبقية من المياه بشكل عادل.
عندما تجبر الجغرافيا الدول الضعيفة على تقاسم الموارد الطبيعية، فإن حكوماتها غالباً ما تفشل في إدارة تلك الموارد بشكل فعال أو تتنافس بشكل علني مع الدول الأخرى للسيطرة على الموارد بدلاً من التعاون. على سبيل المثال، لم تتفاوض بلدان أميركا الوسطى قط بشكل شامل في شأن الحدود البحرية في مياه الصيد في المنطقة، كما فشلت دول الساحل الأفريقي في التفاوض على خطة مسؤولة وعادلة للاستفادة من طبقات المياه الجوفية المحدودة لديها لمنع الأمراض والوفيات المرتبطة بندرة المياه.
حرب أوكرانيا فرصة مناخية ضائعة
في فبراير (شباط) من عام 2022، بدا الغزو الروسي لأوكرانيا كفرصة ذهبية وغير متوقعة بالنسبة إلى أنصار حماية البيئة، الذين يناضلون من أجل تركيز اهتمام العالم على القدرة على الاستفادة من هذا الصراع للوصول إلى الاستقلال في مجال الطاقة الذي تستطيع الموارد المتجددة أن تقدمه. ومع محاولة الغرب فطم نفسه عن النفط والغاز الروسيين، بدت الحجة لصالح الطاقة الشمسية وطاقة الرياح أقوى من أي وقت مضى، لكن بعد مرور بضعة أشهر من الحرب، أدى التدافع إلى استبدال الوقود الأحفوري الروسي إلى العكس تماماً. عندما عقد رؤساء مجموعة الدول الصناعية السبع السنة الماضية في جبال الألب البافارية اجتماعاً كان من المفترض أن يعزز التزامهم مكافحة تغير المناخ، انصب تركيزهم بشكل كبير على محاولة خفض أسعار النفط والغاز بدلاً من خفض انبعاثاتها وإيجاد مصادر طاقة بديلة لها.
في تقرير كلفت الأمم المتحدة بإعداده عن تداعيات الحرب الأوكرانية الروسية على العالم، ونشرت مجلة "تايم" أجزاء منه في فبراير، حذر خبراء بيئيون من انعكاسات تلك الحرب الكارثية على أزمة التغير المناخي، إذ زادتها حدة وتفاقماً. يتجسد أخطر هذه الانعكاسات في أزمة الطاقة العالمية وما نجم عنها من إبطاء في وتيرة التحول نحو الطاقة النظيفة والعودة مجدداً لاستخدام مصادر طاقة تقليدية مضرة بالبيئة، كما يحصل الآن في أوروبا مثلاً من عودة عديد من بلدانها في ظل شح الغاز وارتفاع أسعاره الحاد، لتوليد الطاقة من طريق الفحم.
من ناحية أخرى، تزداد الأزمة بسبب حرائق الغابات الناجمة عن القتال، والهجمات على خطي غاز نورد ستريم 1 و2، والحاجة إلى إعادة بناء مئات الآلاف من المباني المنفجرة، إضافة إلى ملايين الرحلات التي يقوم بها الجنود وناقلو المعدات والذخيرة واللاجئون باستخدام وسائل نقل تعتمد على الوقود الأحفوري. كذلك أدى استهداف روسيا نظام الطاقة في أوكرانيا وتفجير مستودعات النفط ومحطات توليد الطاقة بالغاز، إلى إطلاق الكربون والميثان في الهواء، ودفع الأوكرانيين إلى الاعتماد على أنواع وقود أكثر قذارة للتدفئة. يقدر التقرير أن البصمة الكربونية للحرب في عامها الأول بلغت 155 مليون طن متري، أي ما يقارب الانبعاثات السنوية لهولندا بأكملها.
المشهد المناخي في 2023
في حين أن هناك عديداً من التدابير الوقائية والتقنيات الجديدة التي كان من المفترض أن تتخذها الدول لمكافحة زيادة التغير المناخي، فالحقيقة هي أن وضع المناخ خلال هذه السنة لم يكن أفضل من سابقاتها.
وفقاً لدورية "بايوساينس" BioScience الصادرة عن جامعة أوكسفورد، شهدنا في عام 2023 سلسلة غير عادية من تحطيم الأرقام القياسية المتعلقة بالمناخ في جميع أنحاء العالم. وقد فاجأت وتيرة التغيير السريعة العلماء وتسببت بقلق تجاه أخطار الطقس المتطرف، وحلقات من التفاعلات المناخية المحفوفة بالأخطار، والوصول إلى نقاط التحول الضارة في وقت أقرب من المتوقع.
اجتاحت العالم هذا العام موجات حر استثنائية، أدت إلى ارتفاع درجات الحرارة إلى مستويات قياسية. كان دفء المحيطات تاريخياً، إذ حطمت درجات حرارة سطح البحر في العالم وفي شمال المحيط الأطلسي الأرقام القياسية، كما سجلت مستويات منخفضة غير مسبوقة من الجليد البحري المحيط بالقارة القطبية الجنوبية، إضافة إلى ذلك، كانت الفترة من يونيو (حزيران) إلى أغسطس (آب) من هذا العام الفترة الأكثر دفئاً التي تم تسجيلها على الإطلاق، وفي أوائل يوليو (تموز) شهدنا أعلى متوسط يومي عالمي لدرجة حرارة سطح الأرض تم قياسه على الإطلاق، وربما أدفأ درجة حرارة على الأرض على مدار الـ100 ألف سنة الماضية. علاوة على ذلك أدى انشغال العالم بالصراعات والتعامل مع الكوارث الطبيعية غير المسبوقة إلى إهمال مقررات قمم المناخ الدولية وعدم التزام ضوابطها وقراراتها، فمثلاً لم يعد من الممكن تحقيق هدف تخفيض معدل ارتفاع درجة الحرارة بمقدار 1.5 مئوية بحلول عام 2100 الذي حددته قمة باريس، إذ إن تحقيق الخفض بمعدلات درجة الحرارة يأتي من خلال خفض استخدام الوقود الأحفوري والفحم بنسبة 55 في المئة خلال الأعوام ما بين 2020-2025 بحسب القمة، وصولاً إلى التحول الكامل للطاقة النظيفة عام 2050 وفق مقررات قمة غلاسكو. بات جميع هذه الخيارات خارج نطاق التحقق، وما يحدث الآن هو العكس، أي زيادة الطلب بشكل غير مسبوق من قبل الدول الأوروبية، على الوقود الأحفوري والفحم.
الأضعف يدفعون الثمن الأفدح
في تقرير بعنوان "التغير المناخي والصراع"، تشير اللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى أن الأشخاص الذين يعيشون في ظروف هشة، وعلى رغم تغير المناخ في كل مكان، هم الذين يشعرون بآثاره بشدة، مما يبرز تفاقم عدم المساواة بين الناس في مواجهة الأزمات.
وفي حين تؤثر الأزمات المناخية والبيئية اليوم على كل جانب من جوانب حياتنا جميعاً، من صحتنا الجسدية والعقلية، إلى طعامنا ومياهنا وسبل عيشنا، لكنها تضر أكثر بأولئك الذين يعيشون في المجتمعات الأكثر فقراً وتهميشاً.
يشهد الأشخاص الذين يعيشون في ظل النزاع تغيرات بيئية هائلة، ولا تصبح حياتهم اليومية أكثر صعوبة بسبب العنف الذي يتعرضون له فحسب، بل أيضاً بسبب تغير المناخ والبيئة، وغالباً ما يكونون غير مستعدين لمواجهة الأخطار المناخية المتكررة.
في أماكن مثل الصومال، التي أضعفتها عقود من الصراع والهشاشة، أجبر الجفاف الناس مراراً وتكراراً على النزوح، ويؤدي المناخ الذي لا يمكن التنبؤ به والتدهور البيئي إلى جعل بقاء المجتمعات النائية والفقيرة أكثر صعوبة كل عام، حين تتآكل آليات التكيف لديها بشكل جذري بسبب العنف وعدم الاستقرار.
في سوريا والعراق تتفاقم ندرة المياه، التي تشكل تحدياً للأمن الصحي والغذائي والاقتصادي، بسبب الضعف المؤسسي. وفي كثير من الحالات يضر الصراع أيضاً بشكل مباشر بالنظم البيئية التي يعتمد عليها الناس للبقاء على قيد الحياة.
في اليمن جعل تدمير البنية التحتية للمياه نقص المياه الذي كان من الممكن تخفيفه كارثة أكثر فتكاً، وكذلك هي الحال في الضفة الغربية وأخيراً في قطاع غزة، إذ دفع تدمير القوات الإسرائيلية البنية التحتية المحلية الناس إلى النزوح والاعتماد على استخراج المياه الجوفية وجمع مياه الأمطار ومن مصادر غير آمنة.
ليس الأشخاص الذين يعانون الصراعات فقط من بين أولئك الأكثر عرضة للأزمات المناخية والبيئية، بل هم أيضاً من بين الأشخاص الذين يهملهم النشاط المناخي بشدة، ويرجع ذلك جزئياً إلى التحديات المرتبطة بالعمل في مثل هذه المناطق. كذلك يعد سوء الإدارة أهم العقبات الرئيسة التي تحول دون معالجة الصراع المناخي في المناطق المعرضة للخطر. فهشاشة الدولة تجعل من الأسهل بكثير على الجهات المسلحة اكتساب النفوذ والسيطرة على الأراضي. وفي غياب وجود حقيقي للدولة يمكن للجهات الفاعلة السيئة إقناع الأفراد الذين تم تهميشهم بسبب التغيرات المناخية والكوارث الطبيعية والقمع والعنف بالانضمام إلى صفوفها. ويمكن لمثل هذه الجماعات أيضاً أن تكتسب دعماً شعبياً من خلال توفير الخدمات الأساسية التي تفشل الدول في تقديمها، ومن خلال ملء الفراغات الأمنية المحلية. في أجزاء من أميركا الوسطى على سبيل المثال يمنع الفساد والاستيلاء الجزئي على المناطق من قبل الجماعات الإجرامية الدول من تخفيف الأضرار المناخية والعنف.
على رغم أن الصراعات والكوارث الطبيعية قضيتان على درجة عالية من الأهمية لما تتسببان به من دمار واسع النطاق وخسائر في الأرواح، فإنه من المهم تذكر أن قضية المناخ لا تقل أهمية عنهما. وفي حين قد يبدو أن هذه القضية قد تم نسيانها، لا يزال هناك عديد من الأشخاص والمنظمات يعملون بلا كلل لمكافحة مسألة معقدة ومستمرة تتسبب بأضرار لا يمكن إصلاحها لكوكبنا وسكانه، وتتطلب جهداً جماعياً لمواجهتها وإلا صارت تهديداً يصعب على البشرية جمعاء التصدي له.
