Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قتلة وشواذ ومرضى... إليكم أهل "أكسفورد"

قد يبدو غريباً أن يشارك كل هؤلاء بعمل قاموس ممعن في الأكاديمية لكننا جميعاً صناع قواميس بما أننا صناع اللغة نفسها

أحيانا نكره الكلمات على جمل ربما لم تتخيل نفسها فيها (غيتي)

ملخص

داعب قاموس أكسفورد هذا خيال كثر حتى صار بطلاً في أفلام... وهؤلاء هم من وضعوه

قبل 30 سنة تقريباً رأيتها للمرة الأولى، سامقة، منفردة وحدها بطاولة في مكتبة معلم اللغة الإنجليزية في المرحلة الإعدادية، مصفوفة فوق بعضها بعضاً توشك أن تخرق سقف الغرفة التي دعاني إليها. تلك هي أجزاء قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية، كبير عائلة قواميس أكسفورد. ستمر السنون وأقتني بعض أبناء هذا القاموس وبناته، لكن ليس الأب المؤسس أبداً. في تلك الزيارة القديمة لمكتبة أستاذي، أعطاني الرجل في نهاية الجلسة من كنوز مكتبته كتاباً واحداً، نحيلاً، ومحبطاً للقارئ الذي كنته آنذاك. لم أنس قط أنه كان كتاب (نهاية العالم) للشيخ محمد متولي الشعراوي، من إصدارات مؤسسة "أخبار اليوم" المصرية. وعلى رغم إغراء العنوان، وشبهه بعناوين روايات الإثارة، لا أظنني قرأته قط، من فرط الإحباط، فما كان ليرضي نهمي يوم ذاك كتاب ديني! مع ذلك، خرجت من تلك الزيارة بصورة ستبقى منطبعة في ذهني: كعوب قاموس أكسفورد التي قال لي معلمي إنه لم يرجع إلا بها من رحلة إلى إنجلترا عندما كان طالباً.

داعب قاموس أكسفورد هذا خيال كثر حتى صار البطل في أفلام، والموضوع الأساس لكتب من أحدثها كتاب لسارة أوغيلفي التي عملت في قاموس أكسفورد لـ14 عاماً، ثم عثرت يوماً في قبو الأرشيف، وهي موشكة أن تترك الوظيفة، على اكتشاف صغير، وثمين، ربطها بالقاموس حتى بعد أن انقطع رباط الوظيفة، إذ عملت على كتابها "أهل القاموس: الأبطال المغمورون الذين أبدعوا قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية"، فصدر أخيراً عن دار "نوبف" في 384 صفحة، مرتبة في 26 فصلاً - بعدد حروف اللغة الإنجليزية - تسرد عجالات من سير من منحونا هذا المرجع الفذ.

بـ"ألف لام" التعريف

قد لا يكون أجدر بعرض هذا الكتاب من مؤلف كتاب عنوانه (تاريخ الـ"ال") أو (تاريخ الـthe) أو لنقل بتعريب صريح إنه (تاريخ ألف لام التعريف)، ذلك الكاتب هو دينيس دنكان الذي يستهل عرضه لـ"أهل القاموس" في "نيويورك تايمز" بقوله إن قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية نشأ من تصور بأن يكون "معلماً تاريخياً وتأملاً لتاريخ أمة"، فهو يحوي، خلافاً لما سبقه من قواميس، "كل كلمات اللغة، حديثها وعتيقها، رفيعها ودنيئها، فضلاً عن تعقبه لما طرأ على المعاني من تحولات بمرور القرون".

"لكن كيف يتم هذا؟ كيف تتأتي معرفة الظهور الأول لكل كلمة في اللغة الإنجليزية، ثم لحظات تشعبها وظهور معانيها الجديدة؟" وأي جهد يجب بذله ليظهر في بعض صفحات هذا القاموس أن أول من ذكر مفردة "الكعكة الإسفنجية" في نص مطبوع كان جين أوستن. وأن أوستن أيضاً هي أقدم مصادر اللغة الإنجليزية لكمات من قبيل "جرس الباب"، و"متشظ"، و"عصي على الكبت".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يكتب دنكان أنه "تم تعيين محرر، وتم اقتراح قائمة نصوص مرجعية لفحصها" بحثاً عن استعمال الكلمات، "لكن العمل الحقيقي لم يكن قد تكشف بعد، فقد كان ثمة ملايين الساعات من القراءة والانكباب والتدوين لأية كلمة تبدو غير معتادة أو فريدة الاستعمال".

ما كان لعمل كهذا أن يتم بجهد أفراد قلائل، "فتم تجنيد الناس ليكون قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية مشروعاً قائماً على عمل شعبي. نشرت مناشدات في كل حدب وصوب، حتى إن صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية دعت في سخرية القراء (ممن لديهم فائض كلمات) إلى أن يتواصلوا مع الجمعية اللغوية البريطانية".

"والحق أن من تطوعوا لقراءة النصوص خدمة للقاموس قد تلقوا بعض الإرشادات الواضحة"، وبخاصة حينما عهد بالمشروع إلى أعظم وأطول محرريه عملاً فيه، وهو السير جيمس موراي.

طولب المتطوعون بـ"نقل مقتطف بكل كلمة تبدو نادرة، أو مهجورة [مماتة بحسب اللغة المعجمية] أو عتيقة، أو جديدة، أو فريدة الاستعمال"، على أن يكتب ذلك المقتطف في ورق معين القياس، وأن يثبت تاريخ نشره وبيانات طبعته.

هذا عن المنهج، أو طرف بسيط من المنهج المتبع مع جهود المتطوعين، لكن ماذا عن أولئك المتطوعين أنفسهم، وهم موضوع "ناس القاموس" أو أهله.

 

 

تكمن بذرة كتاب سارة أوغيلفي - بحسب ما يذكر دنكان - في اكتشافها، قبل أن تترك العمل لمطبعة جامعة أكسفورد، "دفتر عناوين موراي، ملقى ومهملاً في قبو أرشيف المطبعة"، إذاً فـ"أهل القاموس" نتيجة تعقب هذه العناوين والغوص والتنقيب في حياة جيش المتطوعين الذي جنده موراي.

يستهل الناقد مايكل ديردا عرضه للكتاب بحكاية شخصية عن دعوة وجهتها مطبعة جامعة أكسفورد قبل عقدين من الزمن للروائيين ديفيد فوستر والاس، صاحب "النكتة اللانهائية"، وزادي سميث وسيمون وينشستر وخمسة كتاب آخرين مرموقين، فضلاً عن صحافي واحد مهووس بالكتب - يعني به نفسه - "للإسهام بملاحظات على استعمال طبعة وشيكة من قاموس أكسفورد للكتاب الأميركيين. ولما لم تكن المكافأة المالية ضخمة، فقد أغرى الناشر المشاركين بميزة لا تقاوم، إذ أعطى كلا منا نسخة من طبعة عام 1989 من قاموس أكسفورد للغة الإنجليزية المؤلفة من 20 جزءاً".

"في السنين الماضية منذ ذلك الحين، قرأت وتعمقت في نصف دزينة من الكتب الصادرة عن قاموس أكسفورد، وقد عنيت بخاصة بالتاريخ المبكر للطبعة الأولى من هذا العمل الهائل، الذي بدأ صدوره عام 1858 ولم يكتمل إلا عام 1928. وحتى في ذلك الحين، لم تظهر الطبعة المطولة المألوفة المكونة من 13 جزءاً - والراسخة في قسم المراجع بالمكتبات الجامعية - إلا عام 1933. لا يحصل المرء من صفحات ذلك السفر على التعريف والنطق لكل كلمة من قرابة 414825 كلمة، وإنما يجد مقتطفات وجيزة من نصوص منشورة توضح الاستعمال الفعلي لكل كلمة، ابتداء بأول ظهور معروف لها في الطباعة. ويلي هذا الاستعمال الأول عدد قليل من المقتطفات الإضافية، مرتبة ترتيباً زمنياً، وتبين حركة الكلمة في القرون التالية. وهذا مما يجعل من قاموس أكسفورد قاموساً تاريخياً".

داخل شبكة الكلمات

من نصف دزينة الكتب التي قرأها ديردا، ناقد "واشنطن بوست" المخضرم، كتاب "العالق في شبكة الكلمات"، وهو سيرة ذاتية للسير جيمس موراي كبير محرري القاموس بقلم حفيدته كاثرين موراي وصدرت سنة 1977، لكن موراي لم يكن العالق الوحيد في شبكة الكلمات كما يتبين من كتاب سارة أوغيلفي، فقد "اعتمد عمله التحريري على قرابة ثلاثة آلاف متطوع بلا أجر، منهم علماء فكتوريون وأشخاص غرباء الأطوار ومتخصصون وعصاميون في التعلم من شتى الألوان، بل ومنهم نزلاء مصحات عقلية. أولئك هم الرجال والنساء الذين وفروا كل تلك الاقتباسات التي تمثل مجد قاموس أكسفورد".

في القرن الـ19 "أعلن موراي على الناس طلبه منهم نقل فقرات وجيزة من قراءاتهم توضح كيفية الاستعمال الشاذ - والعادي - للكلمات. فكان المشاركون ينسخون المقتطفات على وريقات صغيرة، مقاس الواحدة منها أربع بوصات في ست، ثم يفرز موراي والمحررون المساعدون هذه القصاصات في 1029 علبة، تمهيداً لتخصيص أفضل الاقتباسات لكلماتها المعنية في القاموس". وبحلول عام 1880، كان قد تجمع في "غرفة المخطوطات" - بحسب تسميتهم لقاعة تحرير القاموس - مليونان ونصف المليون من تلك القصاصات.

 

 

"قضت سارة أوغيلفي 14 سنة تعمل معجمية في قاموس أكسفورد، فبدا طبيعياً لها ولا شك أن تمنح كتابها بنية القاموس الألفبائية، مستعملة هذا الترتيب لفرض نظام على ما هو في جوهره نثار مبهج من السير الذاتية الوجيزة، فالفصل الأول عنوانه (ألف ـ أثري)، وتحكي فيه الحياة المبكرة لعالمة الأثريات والمصريات الرائدة مارغريت آيه موراي الباقية في الذاكرة أساساً بكتابها (عقيدة الساحرات في أوروبا الغربية)، الذي تناول الشعائر الوثنية التي كانت تجري ممارستها سراً في العصور الوسطى، لكن مارغريت مواري اليافعة في الهند، بعثت قرابة 3800 اقتباس إلى غرفة المخطوطات، أخذتها من الكتاب المقدس في طبعة دواي".

"في فصل عنوانه (آكل لحم البشر)، تتمهل أوغيلفي عند سيرة السير جون رتشاردسن، فضلاً عن اضطراره إلى أكل لحم البشر ليتقي الموت جوعاً خلال بحثه عن الطريق الشمالي الغربي، أي الطريق البحري بين المحيطين الأطلسي والهادي مروراً بالمحيط المتجمد الشمالي، كان السير رتشاردسن أحد ثلاثة قتلة ساعدوا في توفير الاقتباسات للقاموس، ثم إنها تكتب لاحقاً في فصل (قاف قتلة) [أو M for Murderers بالإنجليزية] تعرض سارة أوغيلفي للقاتلين الآخرين، فأحدهما هو وليم تشيستر مينور الطبيب الأميركي المعتقل في مصحة "برودمور" للمجرمين المختلين عقلياً، وكان رابع أكثر المشاركين بإمداد موراي بالاقتباسات، وقد كتب الروائي سيمون وينشستر قصة مينور وحده في رواية صدرت عام 1998، وكانت من أكثر الروايات مبيعاً [وتحولت إلى فيلم سينمائي رائج أيضاً] وهي "البروفيسور والمجنون". أما ثالث القتلة فهو "رائد التصوير الفوتوغرافي إدويرد مويبريدج، الذي أطلق النار على عشيق زوجته من مسافة قريبة، وبمساعدة المحامين حصل على البراءة".

ابنة كارل ماركس

"ثمة فصل يبعث على الحزن هو الذي يوجز حياة إليانور أفلينج، واسمها قبل الزواج إليانور ماركس، وهي ابنة صاحب (رأس المال) نفسه. وقد عملت أفلينج في مهن شتى متعلقة بالكتابة، ولم تكسب من ذلك إلا أقل القليل، وعلى رغم مصادفتها شيئاً من النجاح، فقد انتهت فريسة الاكتئاب وماتت منتحرة. وبقيت ترجمتها لـ(مدام بوفاري) لفلوبير ترجمة أساسية لأجيال من القراء والدارسين".

"وحتى هنري سبنسر آشبي، المؤلف المحتمل لرواية (حياتي السرية) الإباحية، تطوع بخدماته لقاموس أكسفورد، مغدقاً على موراي الخجول بالاصطلاحات الفنية للممارسات الجنسية والوظائف الجسدية المختلفة. ومعروف أنه أوصى بمكتبته الإيروتيكية - وهي الأفضل من نوعها- للمتحف البريطاني الذي ظل حتى ستينيات القرن الـ20 يحجبها في خزانة خاصة. وفي قسم رائع آخر من هذا الكتاب الكاشف، تسرد أوغيلفي حياة ومسيرة كاثرين برادلي وإديث كوبر الأدبية، وهما خالة وابنة أختها، وقد شكلتا معاً ثنائياً منخطراً في سحاق المحارم، وأسهمتا في القاموس، فضلاً عن كتابتهما شعراً ومسرحاً شعرياً نال استحسان النقاد تحت اسم مستعار هو مايكل فيلد".

 

 

"وفي حين أن غالب المتطوعين للعمل في القاموس ومحرريه قليلو الشهرة اليوم، فإن منهم واحداً في الأقل له شهرة عالمية. ففي ما بين عامي 1919 و1920 عمل الشاب جيه آر آر تولكين [صاحب "لورد الخواتم"] في أصول الكلمات التي تبدأ بحرف W، وهو العمل اللغوي اللازم ولا شك لإبداع (الأرض الوسطى) ولغاتها [في روايته الشهيرة]، وعلى رغم أن موراي توفي في عام 1915 فمن المؤكد أن تولكين رأي صوره بلحيته البيضاء لأنه يبدو النموذج المستلهم للساحر في الأرض الوسطى". ولمن يريد الاستزادة في أثر قاموس أكسفورد على صاحب (لورد الخواتم) يشير ديردا إلى كتاب (خاتم الكلمات: تولكين وقاموس أكسفورد)".

يكتب مايكل ديريدا أن موراي أنجب من زوجته على مدار السنين 11 طفلاً، وشأن كثير من المؤلفين، تساءل المحرر المدمن على العمل في بعض الأحيان عما لو أنه أهدر حياته. وفي إحدى تلك الحالات كتب يقول إن "أعظم تضحية استوجبها القاموس مني، حتى الآن، هي التضحية برفقة أبنائي على الدوام، ولا أحسب الأمر كان يستحق هذه التضحية. لقد حاولت، زوجاً وأباً، أن أؤدي عمل عازب. ولا عجب أن ذلك كان شاقاً، لكن تراه كان يستحق؟".

يقول ديردا - ولا بد أن كثراً من ورائه - إن العمل بالقطع كان يستحق التضحية. وعلى أية حال تحكي أوغيلفي أن جميع أبناء موراي نجحوا في حياتهم وحصل كثير منهم على درجات علمية ممتازة في جامعة أكسفورد، ومضوا حتى عملوا في مهن محترمة، "لكن موراي نفسه للأسف مات في منتصف حرف الـT ولم يشهد قط اكتمال عمله.

قد يبدو غريباً أن يشارك أولئك القتلة، والمنتحرون، والشواذ من شتى الأصناف في عمل ممعن في الأكاديمية، يستوجب ما يقارب درجة التنسك في العمل، لكن التمهل قليلاً أمام هذه الغرابة ينفيها في تقديري، بل لعله يبدو ضماناً لتأليف قاموس جيد، وذلك لسببين: أولهما أن التفاني في تأمل اللغة، بدلاً من الاكتفاء باستعمالها، وتشغيلها في مهام الحياة اليومية، ربما يقتضي فعلاً بعض الشذوذ، فلماذا حقاً يلهيك عن الطعام، عن إعداده وتناوله وكسب المال لتوفيره، أن تتأمل الجذر والاشتقاق وشبكة المعاني القريبة والبعيدة من كلمة الطعام من دون الطعام نفسه؟ لماذا ما لم يكن بك شذوذ يدفعك قهراً إلى هذا، وإلى مثله مع كل كلمة؟ وكيف لا يكون قاتلاً محتملاً من ينفق عمره ليحمي الكلمات ويحفظها؟ فلو أنه ضحى بحياته نفسها، صوناً للكلمات، وتعقباً لمعانيها، فأيسر عليه أن يضحي بحيوات آخرين عقاباً لهم على هذه الهفوة أو تلك.

أما السبب الثاني، الأقرب في ظني إلى البداهة، فهو أننا كلنا صناع قواميس، بما أننا صناع اللغة نفسها، سواء منا القتلة والمجانين والقتلى والعقلاء، فكلنا نكره الكلمات على جمل ربما لم تتخيل نفسها فيها، منذ أن نستيقظ إلى أن ننام، ومنذ أن نطلق أولى صرخاتنا، وحتى نلفظ آخر أنفاسنا.

العنوان: The Dictionary People The Unsung Heroes Who Created the Oxford English Dictionary

تأليف: Sarah Ogilvie

الناشر: Knopf

المزيد من كتب