Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صحافيو غزة في مهمة تحت القصف بدروع لم تعد واقية

تحدث عدد من الصحافيين في غزة لـ"اندبندنت عربية" عن واقع يستنزفهم بدنياً وعقلياً وسط استعدادهم للموت في أي وقت

يعمل الصحافيون في غزة في ظل ظروف صعبة ومعقدة وسط قصف متواصل يطال جميع المناطق (أ ف ب)

ملخص

روى المراسل إبراهيم قنن اللحظات الأخيرة من حياة زميله محمد أبو حطب الذي أراد أخذ قسط من الراحة لكنه عاد إليهم أشلاء

بين أكوام من جثث الضحايا وحطام المنازل ووجوه شاحبة مرتبكة بين الخوف والحزن والصدمة تحت قصف وحشي، يضطر أصحاب السترات الزرقاء الداكنة للتنقل من مكان إلى آخر، متناسين الخطر المحدق بهم في سبيل القيام بواجبهم المهني والوطني، فالقضية تخصهم وحدهم، وها هو دورهم في نقل الصورة إلى العالم حتى لو شكل ذلك سبباً لاستهدافهم من قبل القوات الإسرائيلية.

حينما أراد مراسل "تلفزيون فلسطين" محمد أبو حطب أخذ قسط من الراحة بعد أيام من العمل وسط جثث الضحايا وحطام المباني، ظن أن منزله هو المكان الأكثر أماناً، لكنه سرعان ما تحول وعائلته إلى رقم جديد يضاف إلى عداد الموتى الذين سقطوا بصواريخ إسرائيلية في حرب بطشت بشعب كانت أحلامه تلاحقه على رغم الحصار.

على وقع أصوات القذائف ووسط المخاطر التي نجوا منها مراراً بينما لقي زملاؤهم حتفهم، تحدث عدد من المراسلين الصحافيين في غزة لـ "اندبندنت عربية" عن تلك المهمة الصعبة "المدمرة للروح والأعصاب"، فمنهم من يتوقع مع كل سيارة إسعاف تصل إلى المستشفيات أن يكون أحد أفراد أسرته بداخلها مصاباً أو جثة هامدة، ومنهم من ينتظر دوره ليموت، ومنهم من يشعر بالعجز أمام آلاف القصص التي لا سبيل لهم لنقلها، فثمة طفل دفنت أحلامه معه، وآخر وجد نفسه وحيداً وسط الحطام والنيران بعدما فقد جميع أعضاء أسرته، وأم رحلت وفي قلبها كثير من الدعوات لأبنائها، وآلاف المرضى والعجائز ممن تقطعت بهم السبل.

 


استنزاف بدني وعقلي

إبراهيم قنن مراسل "قناة الغد"، الذي يعمل من "مجمع ناصر الطبي" بخان يونس، لم ير أسرته منذ أن غادروا إلى أحد منازل الأقرباء قبل 19 يوماً، ويقول "بسبب القصف أسرتي نزحت من البيت، لم أر عائلتي منذ 19 يوماً. لا أعرف عنهم شيئاً سوى أن أحد الأشخاص يأتي كل أربعة أيام لطمأنتي، لا يمكنني الذهاب إليهم فالصحافيون في غزة مستهدفون". يروي قنن عن تلك الظروف النفسية وحالة القلق الدائم التي يعيشها بعد أن فقد 11 شخصاً من أقاربه، "نعيش على أعصابنا. أوضاعنا النفسية صعبة كثيراً، نعيش في الخوف".

ويصف زميله سامي أبو سالم من وكالة الأنباء الفلسطينية "وفا" ذلك الشعور الممزق بين الخوف على الأسرة وضرورة أداء الواجب المهني، "في المساء أعود إلى المنزل حيث يكون الخطر واحداً علينا جميعاً، لكن عندما أخرج إلى العمل أشعر أن نصفي هنا ونصفي لدى أولادي وزوجتي. الاستقرار النفسي معدوم. نعيش حالة استنزاف بدني وعقلي".

شعور بالهلع ينتاب أولئك الصحافيين مع قدوم سيارات الإسعاف إلى المستشفيات حيث يتواجدون لتغطية الأحداث، فجميعهم يتطلعون إلى داخل تلك السيارات للتأكد أن ذلك المصاب أو تلك الجثة التي تقلها السيارة ليست لأحد ذويهم، يقول أبو سالم، الذي كانت تحيط به أصوات القصف عندما كان يتحدث لنا عبر الهاتف، "عندما أكون هنا في المستشفى، كلما أتت سيارة إسعاف أضع يدي على قلبي ربما يكون فيها أبنائي أو أحد أفراد عائلتي". وهو الشعور ذاته لدى قنن، إذ يقول "في كل مرة يصل الإسعاف من مناطق الغارات أذهب أولاً للتأكد أن بناتي وزوجتي ليسوا بين الجرحى. نعيش في قلق بشأن عائلاتنا وسلامتنا".


النوم في الطرقات

في ظل الخطر الداهم والدائم الذي يطارد الصحافيين في قطاع غزة، فإن حركتهم على الأغلب محدودة ومقيدة ويضطر كثيرون منهم لتجنب العودة إلى المنزل لأيام عدة، ومن ثم فإنهم في الأغلب ينامون في سياراتهم أو طرقات المستشفيات، حيث يتابعون عمليات القصف الإسرائيلي وضحاياه.
ويذكر قنن "نحن ننام في الشارع وعلى الأرض في مستشفى ناصر، يوجد نحو 300 صحافي، بعضهم ينام في السيارة، وآخرون يفترشون الأرض. عندما هبطت أمطار لم نستطع النوم وأصيب كثيرون بالإنفلونزا والتهابات الجهاز التنفسي".

استهداف الصحافيين

يعمل الصحافيون في غزة في ظل ظروف صعبة ومعقدة وسط قصف متواصل يطال جميع المناطق، حيث لا توجد منطقة آمنة حتى إنه يجري قصف مقرات الأونروا التابعة للأمم المتحدة، لكن ما يثقل كواهلهم هو الاعتقاد بأن الجيش الإسرائيلي يستهدف الصحافيين والعاملين في الإعلام، حتى إن الدروع الواقية لم تعد تجدي نفعاً، ويقول قنن "إسرائيل تحاول طمس الحقيقة. هم لا يرغبون في نقل واقع ما يحدث. أصعب شيء هو الوضع النفسي. أنت كصحافي تهتم لعائلتك أم نفسك؟". ويضيف "هناك استهداف واضح للصحافيين، عدد منهم مهددون بالاغتيال ونشر الإسرائيليون صورهم. هناك عملية تشهير واضحة على وسائل الإعلام الإسرائيلية يقودها الجيش الإسرائيلي وهيئة الرقابة الإسرائيلية، ولو كان ما يحدث في غزة في أي دولة أخرى لكان تم تكريم هؤلاء الصحافيين، لكن نحن ملاحقون ونتعرض للتصفية والتشهير والتحريض الواضح، لا نخشى استهدافنا فقط، لكن ما يخيفنا أكثر هو استهداف عائلاتنا".
ووفق "لجنة حماية الصحافيين" الدولية، فإنه منذ بدء الحرب في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وحتى 18 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، قتل ما لا يقل عن 42 صحافياً وعاملاً في مجال الإعلام، بينهم 37 صحافياً فلسطينياً، من بين أكثر من 14 ألف قتيل.

وقال الجيش الإسرائيلي لوكالة "رويترز" و"وكالة الصحافة الفرنسية" إنه لا يستطيع ضمان سلامة صحافييهما العاملين في قطاع غزة، بعد أن سعوا للحصول على ضمانات بأن صحافييهم لن يجري استهدافهم بالضربات الإسرائيلية، بحسب ما أوردت "رويترز" في 27 أكتوبر الماضي.

وقال منسق برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لدى لجنة حماية الصحافيين، شريف منصور، إن "لجنة حماية الصحافيين تشدد على أن الصحافيين مدنيون يقومون بعمل مهم في أوقات الأزمات، ويجب عدم استهدافهم من قبل الأطراف المتحاربة". وأضاف أن "الصحافيين في جميع أنحاء المنطقة يقدمون تضحيات كبيرة لتغطية هذا الصراع المفجع، لقد دفع أولئك الذين يعملون من غزة، على وجه الخصوص، وما زالوا يدفعون، خسائر غير مسبوقة ويواجهون تهديدات هائلة، لقد فقد كثيرون زملاءهم وعائلاتهم ومرافقهم الإعلامية، وفروا بحثاً عن الأمان عندما لا يكون هناك ملاذ أو مخرج آمن".

كما أن استهداف الصحافيين والقصف المتواصل يعيق أداءهم مهمات عملهم، ويقول أبو سالم "نواجه الموت، والخوف يلتصق بقلوبنا، نحن مستهدفون، الإسعاف نفسه وفرق الإنقاذ المدني جرى استهدافها، والصحافي ليس استثناءً، حركتنا مقيدة، هناك عشرات القصص التي نحتاج إلى تغطيتها، آلاف القصص قتلت مع آلاف الشهداء، الحركة نهاراً أو ليلاً خطر".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


اللحظات الأخيرة

على رغم الخطر، يصر الصحافيون في غزة على نقل مأساة شعبهم وما يعيشونه من وحشية على يد القوات الإسرائيلية، ويروي قنن "لا يمكننا أن نختبئ، كثيراً ما يجري قصف الأماكن التي نغطي منها الأحداث، لكننا مصرون على نقل الصورة للعالم، نحاول أن تكون لدينا درجة من الثبات والصبر والتركيز حتى نصل بالصورة إلى العالم أجمع، نعم نشعر بالخوف لكننا مصممون على توصيل الرسالة على رغم ما نواجهه من آلة القتل والدمار الإسرائيلية".

ويتحدث قنن عن اللحظات الأخيرة من حياة زميله أبو حطب، ويقول بصوت مرتبك بين الشجن والغضب والخوف من المجهول "قبل استشهاده (أبو حطب) بوقت قصير كان معنا، كنا نتحدث عن الأوضاع في بلدنا. أبلغنا أنه يريد الوصول إلى المنزل للراحة ساعتين فقط على أن يعود قبل منتصف الليل، طلبت منه البقاء لأن التحرك خطر في الليل، لكنه أصر فقصفوا منزله ومات هو وعائلته كلها".

صمت قنن قليلاً وأكمل "أن يكون زميلك معك قبل نصف ساعة فقط، تتحدثان سوياً ثم يعود لك أشلاء هذا شيء لا يمكن وصفه، أمر صعب ومؤلم، استشهد مع أفراد أسرته 11 شخصاً، هو وزوجته وأبناؤه، شيء يصعب وصفه".


لا فرق بين الشمال والجنوب

الصحافيون مثل غيرهم من مواطني غزة جميعهم نازحون في الداخل يبحثون عن ملاذ من القصف والقتل، فأبو سالم اضطر للنزوح من شمال غزة إلى الجنوب بعد أن حاول البقاء، حيث غادر منزله بعد التحذيرات الإسرائيلية وذهب أولاً إلى منزل آخر، ثم اضطر أخيراً للفرار إلى الجنوب مع أبنائه الأربعة وزوجته، بعد رحلة طويلة وصعبة من الألم والخوف، لم تجد عائلته الاستقرار، فاضطر بحثاً عن الكهرباء والوقود والطعام والمياه، للتنقل مراراً حتى وجد منزلاً يعمل بألواح الطاقة الشمسية، ويقول "نزحت داخل الشمال مرتين ثم صدرت أوامر الاحتلال للانتقال إلى الجنوب، لكن تبين أنه من ناحية القصف والموت لا فرق بين الشمال والجنوب، ففي الجنوب أتنقل من منزل إلى آخر، وعدم الاستقرار والبحث عن مأمن للأسرة هذا يستنزف المجهود والطاقة على حساب العمل الصحافي".
يقضي أبو سالم وقتاً طويلاً من يومه في توفير الطعام لأسرته والبحث عن مياه نظيفة للشرب "بدلاً من أن أذهب صباحاً لنقل قصص الضحايا، أضطر أولاً في الصباح للبحث عن خبز ومياه لأولادي، لا تتوفر الحاجات الأساسية من مياه أو طعام في الشمال، وفي الجنوب انتقلت مرتين بسبب شح المياه، المياه تتوفر أسبوعياً لساعة أو ساعتين فقط وهي غير صالحة للشرب".

بين عشية وضحاها تضاعف عدد سكان مدينة خان يونس الواقعة في الجزء الجنوبي من قطاع غزة، حيث استقبلت آلاف النازحين من الشمال، ما تسبب بحالة تكدس ونقص شديد في المواد الغذائية التي لم تعد متوفرة بالفعل، ويقول قنن، وهو أحد سكان المدينة، "لا غاز ولا كهرباء ولكي تحصل على أرغفة خبز عليك الانتظار ست ساعات أو أكثر، الأمور بالطبع صعبة وهناك مخابز أغلقت بالكامل، لأنه لا يوجد سولار لتشغيلها، لا أعرف كيف تدبر أسرتي حالها، ربما يستخدمون حطباً، لقد عدنا إلى العصر البدائي، هذا قدرنا نعيش المعاناة مع الناس ونتقاسم لقمة الخبز والموت".

وبينما يفتقر المواطنون للمواد الغذائية الأساسية، فبطبيعة الحال باتت حيوانات المزارع والدواجن في حالة جوع ويتم إعدام كثير منها أحياناً. ويقول أبو سالم "بسبب نقص العلف رأيت أحد المزارع تعدم 40 ألف كتكوت".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات