ملخص
من المنتظر أيضاً تراجع قضية فرض الديمقراطية وحقوق الإنسان بسبب ضعف صدقية من يتبناها دولياً، والأرجح أن مشروعات واشنطن لترتيب المنطقة بشكل جديد لن يجد من يدافع عنها.
هل سيكتب التاريخ أن الحرب الإسرائيلية الراهنة ستكون نقطة تحول مهمة في صورة الغرب بالعالم العربي، وهل ستمتد هذه الصورة المهتزة إلى العالم، خصوصاً في هذه المرحلة الانتقالية من الأوضاع الدولية على رغم البداية المختلفة التي بدأت بها الأحداث أم ستعود الأمور لمساراتها السابقة المذبذبة والملتبسة؟
فعلى رغم ما هو مستقر ومعروف من الانحياز الأميركي والغربي عموماً لإسرائيل منذ نشأتها وعبر المراحل المختلفة للصراع العربي- الإسرائيلي، إلا أن ما تشهده حرب غزة الحالية من انحياز شديد أميركي وبريطاني ومن غالبية القوى الغربية بدرجة أقل بعض الشيء فاق أي مرحلة سابقة ووصل إلى حد أن تبدو واشنطن ولندن وأطراف غربية أخرى اليوم شركاء مباشرين في الحرب.
ومع التباين في قراءة نشر الولايات المتحدة لحاملات طائراتها التي من الأرجح أنها بالأساس موجهة لطمأنة إسرائيل ضد توسعة الحرب إقليمياً، إلا أن الصورة الإعلامية وما يتردد على وسائل التواصل الاجتماعي العربية يشيران إلى مشاركة أميركا في العمليات العسكرية الإسرائيلية بصورة مباشرة وغير مسبوقة في كل المواجهات الفلسطينية -الإسرائيلية حتى تلك السابقة على حروب غزة، وأن هناك قوات خاصة أميركية تشارك حالياً في العمليات البرية التي بدأتها قوات الاحتلال الإسرائيلي هو أمر ربما ليس دقيقاً وهي عموماً كانت تشارك دوماً في الأنشطة الاستطلاعية لأعمال إسرائيل العسكرية.
وخلافاً للحروب السابقة عندما كانت الولايات المتحدة تمنع إدانة إسرائيل، لكنها تشجع جهود وقف الأعمال العسكرية ومنع اتساعها، تبدو واشنطن الآن صريحة إلى حد غير مسبوق في عرقلة وقف إطلاق النار وإطلاق العنان لإسرائيل لمواصلة حربها الشرسة والعنيفة ضد الشعب الفلسطيني وليس فقط حركة "حماس"، وعبرت عن هذا بقوة من خلال مشاركة الرئيس جو بايدن في مجلس وزراء الحرب الإسرائيلي في مشهد غير عادي ولن تزال آثاره بسهولة.
ولا تختلف غالبية المواقف الغربية، فبريطانيا تتقدم الصفوف مثل العادة ومعها النسبة الأكبر من الدول الأوروبية، أما فرنسا التي كانت تترك مسافة عن المواقف الغربية في هذا الصدد، فلم تجرؤ على مخالفة التوجه الغربي وشاب تحركاتها قدر من التذبذب الذي أصبح من سمات سياستها الخارجية في ظل الإدارة الجديدة للرئيس إيمانويل ماكرون الذي أخفق في كل مبادراته الخارجية منذ وصوله إلى الحكم، وفشل بصورة محرجة في لبنان ويواصل خسارة نفوذه في أفريقيا بشكل تدريجي لكنه متصاعد، وبعد موقف موحد مع القوى الغربية، حاول أن يتخذ موقفاً أكثر اعتدالاً خلال تفاعلاته مع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وقيادات المنطقة، لكنه ما لبث أن تراجع وانضم إلى المواقف الغربية المغالية في انحيازها للموقف الإسرائيلي، ولم ينضم إلى بعض الدول الأوروبية التي دعت إلى وقف إطلاق النار ومن بينها إسبانيا والبرتغال واليونان.
في الحقيقة إننا أمام ظاهرتين تستحقان الالتفات، الأولى أن هناك مزيداً من الانحياز الغربي الذي على رغم أنه قديم إلا أن ما وصل إليه من مستوى غير مسبوق يحتاج إلى تفسير أو اجتهاد والثاني هو المواقف العربية من المعايير الغربية المزدوجة والالتباس المحيط بها، وهناك تداخل بين الأمرين سنوضحه.
جذور وتطورات المواقف الغربية
تاريخياً كانت مواقف أوروبية كثيرة داعمة لإسرائيل نابعة من عقدة الذنب تجاه معاناة يهود أوروبا وبصورة خاصة بعد التجربة النازية، ولم يكن الموقف المتماهي المتعصب لليهود إلا في بعض الأوساط البروتستانتية شمال أوروبا بشكل قريب من توجهات مماثلة وربما أشد تطرفاً في الولايات المتحدة، ونجحت إسرائيل في توظيف هذه المشاعر لخلق تعاطف متزايد في الغرب بفضل الوجود النشط في مفاصل عدد من أهم هذه المجتمعات في العالم الغربي اقتصادياً وإعلامياً، وتراوحت هذه الاتجاهات صعوداً وهبوطاً، ومن ثم رأينا مواقف إيجابية متعاطفة مع القضية الفلسطينية خلال الانتفاضات التي شهدتها الأراضي المحتلة، ثم استفادت إسرائيل من أمرين للوصول إلى الحال الغربية الراهنة، أولهما انتعاش اليمين الأميركي المتطرف الذي يتبنى في جزء من توجهه الفكري دعم إسرائيل، وثانيهما المخاوف التي نمت في الغرب بعد بروز الإسلام السياسي بأشكاله المختلفة بما في ذلك "حماس" ودمغه بالإرهاب بصورة عامة، ومن ثم وجدت هذه المجتمعات التربة ممهدة لهذه المواقف الأكثر تطرفاً وغابت بوصلة العدالة، بخاصة مع تفشي نهج الابتزاز والمحاصرة لقوى الاعتدال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عندما اتخذت غالبية دول العالم العربي موقفاً متحفظاً تجاه مسايرة واشنطن والقوى الغربية في محاصرة روسيا، وحاولت الحكومات العربية في الوقت نفسه تأكيد أن موقفها هذا لا يعني قبول الهجوم الروسي بل دانته معظم الدول العربية وأكدت التزامها قواعد القانون الدولي التي تحظر العدوان واحتلال أراضي الدول المستقرة، ثارت تساؤلات في أوساط غربية سياسية وإعلامية وأكاديمية حول دلالة المواقف العربية، خصوصاً أن وسائل التواصل الاجتماعي كانت تحمل مواقف عربية سلبية تجاه الغرب ويبدو كثير منها متعاطفاً مع روسيا بصورة مثيرة للاندهاش، وكان تفسير هذا لدى كثيرين هو المعايير المزدوجة الغربية والموقف السلبي العنصري من اللاجئين السوريين وقبلهم الفلسطينيين، وقبل كل شيء الموقف السلبي تجاه اقتلاع الشعب الفلسطيني من أراضيه وانتهاك حقوقه بشكل جسيم ومتواصل.
وفي الواقع أن هذه السردية حاضرة بصورة واضحة ومتواصلة في العقل العربي بمستوياته الثقافية المختلفة وتتكرر بشكل دائم في المحافل الفكرية والإعلامية واليوم بقوة في وسائل التواصل الاجتماعي وعلى نحو عمق بشدة من مشاعر التحفظ تجاه السياسات الغربية عموماً، وتجاه المنطقة تحديداً، وترك مشاعر مليئة بالسخط والمرارة بشكل ملحوظ.
تداعيات في اتجاهات شتى
كتبنا هنا في بداية الحرب الأوكرانية عن مشهد دولي حافل بالعنصرية وقصدنا تحديداً الهلع الغربي مما جرى للشعب الأوكراني وحفاوة استقبال لاجئيه، وكيف أثار هذا مقارنات مفهومة مع ما جرى من معاملة اللاجئين السوريين في أوروبا وما يجري دوماً مع الهجرة غير الشرعية من الجنوب، وأن الشعوب بخاصة مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت حاضرة ولا تتوقف عن المقارنات، وسجل هذه المقارنات أصبح ممتداً ومثيراً للغضب لدى كثيرين، وما كان حكراً على مؤسسات الفكر أصبح متاحاً لكثيرين، فهذا السجل في حقيقة الأمر متضخم ويبدو حصره صعباً لا يقتصر على مسائل العنصرية الحاضرة في كثير من المجتمعات الغربية ويمتد إلى أمور مثل حركة "طالبان" التي حاربتها واشنطن لمدة عقدين كاملين ولم تصنفها حركة إرهابية خلافاً لما فعلته مع "حماس"، وتشمل تدخلات غربية وأميركية عند انتهاك حقوق إنسان في إحدى دول الجنوب والتغاضي عن انتهاكات وجرائم أبشع في دول حليفة أو من أجل مصالح مستقرة أو طارئة.
وفي الحقيقة أن الحرب الإسرائيلية الجارية بمستويات عنف وتجاوز غير مسبوقة وكذلك بمباركة ودعم من واشنطن وقوى غربية أخرى غير مسبوقين أيضاً، وظواهر مثل الخروج الفرنسي الأخير المتواصل من أفريقيا وفشل الغرب في فرض أجندته في النيجر وسط استمرار الحرب الأوكرانية التي يتزايد احتمال خسارة الغرب لها، والمراجعات الدولية الحالية، كل هذا يصب في اتجاهات عدة، من بينها التراجع الهائل في صدقية الغرب، في الأقل لدى شعوب المنطقة، وإن كنت أميل إلى أن هذا التراجع سيكون أكثر اتساعاً من المنطقة لاعتبارات كثيرة ذكرناها بما يؤدي إلى مزيد من تباعد دول المنطقة والجنوب عن المواقف الغربية في الصراعات الدولية.
ومن التداعيات المنتظرة أيضاً تراجع قضية فرض الديمقراطية وحقوق الإنسان بسبب ضعف صدقية من يتبناها دولياً، والأرجح أيضاً أن مشاريع واشنطن لترتيب المنطقة بصورة جديدة في ضوء ما يسمى "اتفاقات أبراهام" ستتعثر ولن تجد من يدافع عنها بحرارة كما كان الأمر سابقاً، وفي الحقيقة أن احتمالات حدوث مزيد من التصدع في العلاقات العربية -الغربية تفوق احتمالات عودة الأمور لما كانت عليه، لكن ما يظل مؤكداً أن ما يجري يعمق المشاعر السلبية لدى الشعوب العربية بصورة كبيرة ويعود بها أكثر إلى حقبة مماثلة لزمن الاستعمار الغربي المباشر ولا بد من أن تكون لهذا ارتدادات على الحكومات ولو بعد حين.