Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هكتور برليوز انطلق ناقدا بعدما فشل في فرض ألحانه

صاحب "السيمفونية الخيالية" رأى أن قبول إبداعاته يحتاج أولاً إلى التخلص من "الطفيليات"

هكتور برليوز (1803 – 1869) (غيتي)

ملخص

صاحب "السيمفونية الخيالية" رأى أن قبول إبداعاته يحتاج أولاً إلى التخلص من "الطفيليات"

ليس هناك أدنى شك في أن ذلك الشاب الجريء المفعم بالحيوية والموهبة، كان قراره حين وصل إلى باريس قادماً من مسقط رأسه الفرنسي البعيد، أن يكون مؤلفاً موسيقياً مهما كلفه الأمر، كانت روحه تعبق بالألحان وكان هائماً بالتجديد كارهاً كل تلك "الأصنام" التي تسيطر على الساحة الموسيقية يتبعها جمهور جاهل، ومن هنا، حتى حين بدأ هكتور برليوز دراساته الجامعية في مادة الطب بناء على رغبة أهله وعلى مضض بالنسبة إليه، كان يمضي وقته في تدوين المشاريع الموسيقية وتحضير الابتكارات الفنية غير عابئ بدراسته العلمية، وهو كان لا يتوقف في أحاديثه مع أصحابه عن التعبير عن رغباته الفنية في وقت كان لا يتورع عن انتقاد كل جديد يظهر في عالم الموسيقى، لا سيما ما يظهر من أعمال جيوكينو روسيني الذي كان "يحتل" الساحة في ذلك الحين "عن غير وجه حق" كما يخبرنا في مذكراته التي ينظر "إليها عادة على اعتبار أنها من أنضج النصوص التي تركها موسيقي إلى جانب مراسلات موتزارت". وفي ذلك الوقت المبكر من مسيرته، كان برليوز واقعاً تحت سحر موسيقى سالييري وغلوك اللذين سبقاه بزمن ولم يكن يخفي خشيته من أن تطغى على أعمالهما تلك "الفقاعات التي تحمل توقيع روسيني". ومن هنا لم يكن غريباً أن يكتب برليوز عن تلك الآونة في مذكراته اللاحقة، "إنه القدر... هو الذي كان يدفعني لأن أتحول إلى ناقد!"

نصيحة من الأصدقاء

وذلك أن عدداً من أصدقائه المقربين، من الذين كان يمضي الوقت في صحبتهم فينبهرون جراء استفاضته في تحليل الأعمال الموسيقية كلاسيكية كانت أم محدثة فكانوا يقولون له، "ولماذا تراك لا تدون هذه الآراء حبراً على ورق وتنشرها بدلاً من رميها هكذا في الهواء؟ لو فعلت لحققت أمرين: من ناحية كنت ستفيد عالم الموسيقى وتطوره، ومن ناحية ثانية كنت ستنال مقابل كتاباتك مبالغ قد تكون زهيدة، لكنها ستساعدك في حياتك اليومية!". والحقيقة أن برليوز كان في الوقت الذي يعلن فيه آراءه النقدية، لا يتوقف عن تلحين أعمال موسيقية هي تلك التي سوف يصفها لاحقاً بأنها أعمال شبابه من "رومانسيات"، بل إنه حتى كان يشتغل في ذلك الحين على تلحين أوبرا مبكرة عنوانها "عيد الزواج الذهبي لأوبيرون وتيتانيا"، لكن ذلك كله لم يلاق قبولاً لا من الصالات ولا من الناشرين. كان الوقت لا يزال بالنسبة إليه أبكر من أن يسمح له بفرض موسيقاه، ومن هنا بدا له من الملائم في انتظار ذلك، أن يعمل بنصيحة أصدقائه، وكانت أولى تجاربه التي رضي عنها في مجال الكتابة النقدية حول الموسيقى مقالة مطولة تحمل قدراً كبيراً من النقد السجالي ضد... عدوه اللدود روسيني. وهو بعدما كتب تلك المقالة العنيفة إنما التي تنم عن معرفة عميقة بالموسيقى ونظرة نقدية أكثر عمقاً حول فن الأوبرا، بعث بالمقالة إلى مجلة موسيقية اسمها "القرصان" كانت قد ظهرت حديثاً وتتطلع إلى أن تنشر مقالات من النوع المشاكس، بل من النوع الذي "يحطم الأصنام"، وكان ما يفعله برليوز في تلك المقالة تحطيماً "للصنم المسمى روسيني" كما سيخبرنا لاحقاً في مذكراته مضيفاً، "ولعل ذلك البعد هو الذي دفع المجلة إلى نشر مقالتي الأولى" وكان ذلك في أغسطس (آب) 1923 الذي سجل بالتالي تاريخ دخول قلم جديد عالم النقد الموسيقي، وكانت المقالة من النجاح والقوة والمشاكسة ضد المعلم إلى درجة أن الناقد الجديد ما لبث أن نشر في المجلة نفسها مقالة أخرى وسع فيها دائرة أهداف سلاطة قلمه لتتناول جملة من موسيقيين وصفهم بالطفيليين.

سجال عنيف

وما إن مضت أشهر على تلك المقالة الثانية التي بات بها برليوز ناقداً يحسب له حساب إنما دون أن ينعكس ذلك على قبول أعماله الموسيقية، نشرت مجلة "القرصان" لبرليوز هذه المرة مقالة يساجل فيها واحداً من النقاد الراسخين هو كاستيل – بلاز متهماً إياه بالقصور المعرفي في مقالة نشرها هذا الأخير في "جريدة السجالات" حول موسيقى غلوك. وهنا لم يعد ثمة من يمكنه أن يوقف برليوز عن ذلك النشاط النقدي حتى وإن كان خلال تلك السنوات قد بدا راضياً من ناحية أخرى عن إنتاجه الموسيقي والقبول العام به، ولعل اللافت في ذلك كله أن برليوز الذي راح يزاوج بشكل غريب بين موسيقاه التي بدأت تلقى رواجاً من جمهور راح يتابعه بشغف من ناحية ومن ناحية أخرى، بين كتاباته النقدية التي راحت تتسم أكثر وأكثر بالعمق والجدية وتصبح دراسات موسيقية حقيقية، يخبرنا في مذكراته أن الأمر الغريب بالنسبة إليه كان أن عيشه في تلك الآونة راح يعتمد على مدخوله الذي كان يحققه من الكتابة بأكثر كثيراً مما يعتمد على ما يربحه من الموسيقى "فتلك كانت باهظة الكلفة ضئيلة العائدات، وفي المقابل كانت الكتابة لا تكلفني قرشاً، كنت أكتب بسرعة وثقة وأنا عارف أن ثمة من ينتظر ما أكتبه ليقرأه كما ثمة من ينتظره ليدفع لي مكافآتي عليه و... بسخاء أحياناً". ولقد عوضه ذلك السخاء على الخيبة التي أصابته، إذ رفض القيمون على شؤون التعليم في الكونسرفاتوار طلباً تقدم به لتدريس الهارمونيا فيه! ومن هنا جاءه النقد بالحل بدءاً من عام 1933، وقد تزوج وأنجب وزوجته ولداً عليهما أن يؤمنا له الآن عيشاً كريماً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كتابة تلامس الغرائبية

ولعل الجديد في ذلك الحين كان نشره مقالة تتسم بقدر لا بأس به من الغرائبية عنوانها "روبيني في كاليه" وهو يكاد يكون حكاية خيالية عن الأمور السيئة التي تحدث لمغني تينور يقوم بجولة فنية في تلك المدينة الساحلية في الغرب الفرنسي، وكانت المقالة من الطرافة بحيث أنها دفعت مدير "جريدة السجالات" إلى التعاقد مع الكاتب الألمعي ليصبح ناقداً وكاتباً دائماً في جريدته، حتى وإن كان ذلك التعاقد قد تزامن مع تضخم سمعة برليوز كموسيقي كبير، وهو على أية حال لم يجد مغبة في ذلك وقد راح يتأكد أكثر وأكثر أن الحظ قد واتاه ليدمر من ناحية ويبني من ناحية أخرى، يدمر كناقد كل تلك "البهلوانيات" التي تقترف الآن باسم حداثة واهية، ويبني كموسيقي من ناحية ثانية أسسا إبداعية تطور ما هو كلاسيكي ذا قيمة وتقدمه نموذجاً للكيفية التي ينبغي أن يكون عليها التجديد في الموسيقى. والحقيقة أن جمهوراً عريضاً تلقاه بكل إعجاب وطمأنينة في حالتيه. وهو عرف كيف يكون، كما حاله في موسيقاه، أنيقاً حتى حين تشتد قسوته على من يوجه إليهم سهام نقده، غير أن كثراً كانوا له بالمرصاد متصيدين بكل سلبية أية هنة تبدر منه في وقت كان من الواضح بالنسبة إليه أنه حتى لو بات في مرحلة متأخرة واحداً من كبار المؤلفين الموسيقيين في زمنه، لم يعد في وسعه التراجع عن النقد، بل، كما يقول هو في مذكراته "الحقيقة أن كتاباتي النقدية كانت تعلمني وتوجهني في مؤلفاتي الموسيقية بشكل لا جدال فيه. فأنا كنت أشعر في كل مرة أكتب فيها نقداً عن آخرين وأعمالهم أن ليس من حقي أن أخطئ في ما ألحنه حتى وإن كنت أعرف أنني بت لا أمس. صحيح أنني ما كنت أخشى أحداً، لكنني كنت أخشى نفسي. أخشى أن تطاولني سلاطة قلمي أنا الآخر". من هنا وفي الوقت الذي كان برليوز يطور كتاباته كان يطور مؤلفاته الموسيقية بالمقدار نفسه، ما خلق لديه تلك الحالة الاستثنائية الازدواجية التي جعلته ناقداً وموسيقياً على قدم المساواة، جاعلة كثراً من محبي موسيقاه يتساءلون عما كان يمكنه أن يكون كموسيقي لو لم يكن، في المقام الأول، ناقداً للموسيقى وكاتباً ذا لغة استثنائية؟

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة