Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عندما تشرق شمس الكآبة السوداء في قلوب المبدعين

شعراء وروائيون وفلاسفة عاشوا حقيقة الحياة الملغزة وغياب الأجوبة عن الأسئلة الوجودية الكبرى

الكآبة بريشة إدوارد مونخ (متحف مونخ)

يعود تاريخ مصطلح السوداوية أو الكآبة إلى الحضارة اليونانية، حين أطلقه الأطباء والفلاسفة الإغريق على بعض الأعراض المرضية والأمزجة والأخلاط المسؤولة عنها. فانتشر في البلاد وانتقل عبر الكتابات إلى حضارات أخرى، يوم قرر أبو الطب أبقراط تحويل صنعته وتعليمها لمريديه، بعد أن كانت حكراً على الإله الشافي والطبيب الماهر أسقليبيوس، صاحب العصا والثعبان الملتف حولها، وبناته هيجيا وآياسو وأسيسو وآجلياً وباناسيا، الذي تخبرنا الأساطير اليونانية القديمة أسماء الأبطال الذين قام بشفائهم، وعلى رأسهم هيراكليس، منبهة إيانا إلى أن إله العالم السفلي هاديس شكاه إلى زيوس لأنه أعاد الحياة للموتى، متخطياً بذلك حدود فنه وصنعته.

ولما كانت الفلسفة أم العلوم في الحضارة اليونانية، فقد نشأ الطب في رحمها وتطورت مسائله في أحضانها، وتفرعت أغصانه تحت رعايتها، فانتقلت مصطلحاته، وعلى رأسها السوداوية، إلى نصوص الفلاسفة والمفكرين في وقت مبكر. ومن هذين العلمين هاجرت السوداوية عبر الزمان والمكان إلى الحضارات والحقول المعرفية المختلفة وضمت إلى مصطلحاتها الأساسية.

ففي الحضارة العربية الإسلامية ورد مصطلح السوداوية في نصوص الأطباء والفلاسفة المشارقة والمغاربة، ذلك أن الطب العربي الإسلامي الذي ورث معارف اليونان والرومان ونقلها إلى لغته العربية أيام العباسيين وطورها، استعمل لفظة "السوداء" للدلالة على نوع من الأخلاط الطبيعية في الجسم البشري. أما في الفلسفة فقد أشبع المصطلح بعديد من الأفكار والمعاني، بحيث تشرب مفهومه الدال على الانحراف عن الطبيعة السوية أبعاداً جعلته مرادفاً للدلالة على الفرادة والتفوق في سياق قراءة أرسطية ربطت بين السوداوية والنبوغ. فبحسب أرسطو فإن وجود حالة سوداوية عند أحدهم لهي دليل على تميزه، بمعنى أن "كل الأشخاص البارزين والمتميزين في الفلسفة والسياسة والشعر أو غيرها من الفنون يبدون في مظاهرهم الانفعالية والسلوكية سوداويين".

غير أن السوداوية لم تتحول إلى موضوع أدبي في أوروبا إلا ابتداءً من القرن الـ15، مع الأشعار الغنائية التي خطها الدوق الفرنسي شارل الأول دورليان. ولئن كانت السوداوية قديماً مرادفة للحزن الدائم والغم المطبق على النفس فإن الكلمات تخذلنا إن أردنا اليوم تعريفها في مجالي الأدب والفلسفة. فجيرار دو نيرفال شبهها بـ"شمسه السوداء". أما شارل بودلير فأشار إليها بوصفها "سمائه المنخفضة الثقيلة"، لكن السوداوية أو الكآبة ليست مشكلة الشعراء فحسب، فهي تلقي بظلالها على كل كتابات القرن الـ19 تقريباً، وترافق ضيق وقلق الإنسان المعاصر، متبدية في النصوص الأدبية والفلسفية. فهي تظهر على سبيل المثال في قصص الخيال العلمي التي يسترق الإنسان من خلالها النظر إلى فنائه. فليس السوداوي في هذه النصوص مكتئباً ولا ثنائي القطب، وهو ليس مصاباً بأي نوع من العصاب والذهان. إنه في حالة تجعله كائناً تائهاً في تعرجاته النفسية. وإن شئنا فهم هذا المصطلح دعونا نتتبع معانيه عبر التاريخ.

بين الأدب والفلسفة

تطور مصطلح السوداوية منذ عصر النهضة الأوروبية حتى تفرع إلى مفاهيم نوعية في الأدب والفلسفة وعلم النفس مكتنزاً معاني جديدة. ففي بدايات القرن الـ19، أصبحت السوداوية، كما سبق وأشرت، موضوعاً شعرياً هيمن على الساحة الأدبية، وجاء كرد فعل على الكلاسيكية والعقلانية المطلقة اللتين بلغتا ذروتهما في عصر الأنوار، العصر الذي قدم أدباً جافاً على رغم عمقه، كما في كتابات فولتير وجان-جاك روسو، إذ لم يكن فيه من مكان للعاطفة والحياة، مما أدى إلى ظهور ثورة الرومانسيين على العقلانية والكلاسيكية. والرومانسية، التي هي في الواقع تمجيد للعاطفة والخيال وللسوداوية في مقابل العلم، ازدهرت أولاً في إنجلترا مع الروائي والكاتب المسرحي والشاعر الاسكتلندي السير والتر سكوت (1771-1832). ويمكننا أن نلحظ تباشيرها في أعمال جان-جاك روسو (1712-1778) الذي أعلى من شأن العاطفة وتغنى بالعفوية، وهو الذي أسبغ للمرة الأولى على الأدب الروائي الفرنسي الحب والإحساس بالجمال والفناء في روعة الطبيعة.

غير أن المؤسس الحقيقي للرومانسية الفرنسية وسوداويتها كان فرنسوا رينيه دو شاتوبريان (1787-1848)، الذي عكست قصصه وكتاباته واقع حياته الدائرة في تضاعيف من مشاعر الملل والوحدة والحزن العميق. ابتكر شاتوبريان شخصية البطل العاطفي الذي لا يجد في العالم من يفهمه، فيتجه لاجترار آلامه واختلاق عوالمه الخيالية، وابتداع عوالم من السحر والأحلام بديلاً عما هو قائم. وقد كان تأثيره كبيراً في الرومانسيين اللاحقين، كمدام دي ستايل وألفونس دو لامارتين وفيكتور هوغو وألفرد دو فينيه وألفرد دو موسيه وتيوفيل غوتييه وغيرهم من الرومانسيين. وإن ننسى فلا ننسى كبير الشعراء شارل بودلير (1821-1867) الذي انشغل بدوره في الحفر في حقيقة الوجود بحثاً عن الجمال وقوله شعراً في عالم من الإبداع يكشف عن سوداوية وقلق وجودي كبير. تعكس سوداوية بودلير إحساس الشاعر بالغربة في الوجود وضياعه و"وعيه الشقي"، بكآبة الحياة ومحدوديتها وسعيه الدائم إلى تجاوز هذه المحدودية، علماً أنه يعترف بغربة نفسه عن نفسه. ولعل هذه المسافة بينه وبين ذاته التي يطلق عليها اسم السوداوية ستصبح أحد أهم معايير الجمال في شعره.

 أما ما ورد في شأن السوداوية في كتابات الفلاسفة الرومانسيين الألمان أمثال يوزف شيلنغ (1775-1854) والأخوين أوغوست فيلهلم (1767-1845) وفريدريش شليغل (1772-1829)، فأصبح يشير إلى الإحساس الأصيل بالوجود الإنساني وما يمثله من رغبة وتعبير عن التطلع إلى المطلق اللامتناهي، والتوق إلى اللامحدود وما يتخلل هذا الشعور من معايشة للكآبة والحزن الناجمين عن القصور في تحقيق الغاية المنشودة والإبقاء على الأمل الملح على النفس في السعي وراء تطلعاتها الوجودية. علماً أنه في علم النفس ارتبطت السوداوية بحالة مرضية عصابية بحسب فرويد، من مؤشراتها الكآبة والهبوط النفسي والعصبي وفقد الرغبة في الحياة وسوء تقدير الذات، وذلك بالأعراض عن النشاطات الاجتماعية والتواصلية مع ما يرافقها من إحساس يساور المريض، يتباطأ فيه الزمن المعيش كأن يبدو متجمداً.

غياب الأجوبة

لكن السوداوية في الفلسفة والأدب تشير إلى نوع من الحزن الذي ينشأ من إدراك الإنسان لحقيقة الحياة الصعبة وارتباطها بالمعاناة وغياب الأجوبة عن الأسئلة الوجودية الكبرى، ذلك أن الخوف من مرور الزمن، ومن الوحدة والملل والشعور بالعجز الذي أصاب الفلاسفة، جعل معظمهم يجعلون من هذا الضيق الوجودي ينبوعاً للجمال وللإقبال بقوة على الحياة. فليس من السهل على سبيل المثال لا الحصر فهم كتابات الأديب التشيكي فرانتز كافكا (1883-1924) بعيداً من مصطلح السوداوية والاكتئاب، ذلك أن قصصه الفلسفية الغامضة وأبطاله الغريبي الأطوار، الذين يجدون أنفسهم وسط مأزق ما في مشهد سوريالي، تتناول تيمات الاغتراب الاجتماعي والقلق والذعر والشعور بالذنب والعبثية ومدى عمق الكآبة النفسية التي يعانيها. ولا يسعنا أيضاً في هذا المجال إغفال الحديث عن الفيلسوف الألماني شوبنهاور (1788-1860) المدافع عن إحساسه بأن الحياة شر، وأنها مرادف للألم والمرض والشيخوخة والموت، هو الذي عاش العزلة في حياته بلا أب ولا أم ولا زوجة ولا ولد ولا حتى أصدقاء. وقد كان لهذه العزلة أثر بليغ في تكوين شخصيته السوداوية وصوغ آرائه القائمة على التشاؤم في فترة صعبة من تاريخ أوروبا ما بعد الثورة الفرنسية وهزيمة نابليون بونابرت وسلسلة من الحروب والمعارك التي جعلت من القارة العجوز مسرحاً للدمار.

 تقول فلسفة شوبنهاور إن جوهر الحياة الإنسانية سلسلة لا تنتهي من الرغبات الناجمة عن الإرادة. ما أن يرضي الإنسان إحداها حتى تطل عليه رغبة أخرى تطلب التحقق والإرضاء، هذا السعي الدؤوب والمتواصل وراء إشباع رغبات الإرادة يعني في ما يعنيه مزيداً من العمل المضني، من ثم مزيداً من الشقاء والألم. فالحياة في عرف شوبنهاور حلقة مفرغة من الشر المطلق وسلسلة أزلية من العذاب والآلام يعبر عنها بامتياز الألم الأعظم الناجم عن فكرة حتمية الموت وعذاب ترقبه. فلا سبيل إذاً إلى الخلاص إلا بطريقتين، إما الموت أو سيطرة العقل على الإرادة ليتحرر الإنسان من وطأة متطلباتها، وهذا المقام لا يمكن بلوغه إلا بالفلسفة، التي تمكن وحدها الإنسان من التغلب على رغباته الآنية في سبيل الفوز بالمعرفة الخالصة.

أما فيلسوف اليأس والسوداوية والعدمية بامتياز فهو الروماني الفرنسي إميل سيوران (1911-1995) الساخط على الحياة والذي وقع كتباً عديدة سمى بعضها "مثالب الولادة" و"المياه كلها بلون الغرق"، عبر فيها عن تشاؤمه في الحياة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في هذه الكتب تتجلى سوداوية سيوران بكل معانيها. فيها يؤكد أن عدم الولادة هي أمثل صيغة للوجود. وها هو ذا يقترح السخرية علاجاً لمواجهة عدمية الحياة الآيلة إلى الموت، ذلك أن السخرية والضحك هما سبيل الانتصار الحقيقي على الحياة والموت، ولعلهما يقودان في بعض الأحيان إلى الجمالية، على رغم ألم الكينونة وحسرة الوجود والعدمية التي تحرر الإنسان من توقعات لا تقود إلا إلى مزيد من الشقاء.

 باختصار، تذكرنا سوداوية سيوران وسوداوية غيره من الأدباء والفلاسفة بهشاشة وضعنا البشري. غير أنها تتحول بمعنى ما إلى عزاء لنا يوم تخذلنا الحياة في سعينا الدؤوب نحو السعادة والمعرفة، لأنها تؤكد لنا أن السعادة والمعرفة لم تكونا أبداً جزءاً من حقيقة شرطنا البشري.

والسوداوية ما زالت تتبدى اليوم في كتابات عديد من الروائيين والمفكرين من أمثال ألبير قصيري وميشيل هولبيك وباتريك موديانو، وما زال صداها يسمع في نصوص تطرح مسائل الهوية والبحث عن الذات والشعور بضعف الإنسان في مجتمع عبثي غارق في العنف واللامبالاة والاستهلاك المفرط.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة