ملخص
حكاية تعنت رجل تنتهي من حيث بدأت بلا عنف ولا دماء وربما أيضاً بلا مجرم!
قبل نحو ثلث قرن من اليوم، عرفت مدينة سان فرنسيسكو بولاية كاليفورنا الأميركية سلسلة جرائم جرى الافتراض بأن ما لا يقل عن خمس منها كانت من اقتراف مجرم واحد، ولكن لاحقاً بعد أن أقفل الملف بـ25 سنة، إذ خيل للجميع أن القضية ختمت وأن المشتبه الرئيس قد أوقف ثم مات، عادت القضية تقض مضاجع أهل المدينة بسبب سلسلة رسائل وقعها شخص ما باسم "زودياك" أكد فيها أنه هو القاتل وسيستأنف جرائمه، وثار فضول الناس ومن بينهم صحافي/ رسام راح يكرس كل وقته وجهوده للقضية مؤمناً بتعنت بأن ثمة قاتلاً حقيقياً يشير في الرسائل إلى نفسه ويتعين كشفه. وينطلق فيلم "زودياك" الذي عاد إلى تلك القضية قبل 10 أعوام من الآن، من كتابين عن القضية المتعلقة بجرائم سان فرانسيسكو وضعهما الرسام/ الصحافي، روبرت غريسميث الذي ترك عمله الناجح في صحيفة "سان فرنسيسكو كرونيكل" ليتابع القضية محققاً طوال أكثر من ربع قرن، متابعة المهووس.
لا قواسم مشتركة
عند هذا الحد لا تعود ثمة قواسم مشتركة بين فيلم "زودياك" والغالبية العظمى من الأفلام الأميركية التي تناولت هذا النوع من القتلة السفاحين. ذلك أن "زودياك" كفيلم، لا يعود بين يدي مخرجه دافيد فينشر فيلماً عن تلك السلسلة من الجرائم التي ارتكبها "زودياك"، بل يصبح فيلماً عن غريسميث نفسه. من هنا يبدو هذا العمل أشبه بـ "ج. ف. ك" لأوليفر ستون، منه بـ "سبعة" لفينشر نفسه، حتى وإن كان كل الذين انتظروا مشاهدة الفيلم أشهراً بعد الإعلان عن تحقيقه، أملوا في أن يكون نسخة جديدة من "سبعة" ذلك الفيلم الغريب والرائع الذي تابع قاتلاً سفاحاً على مدى جرائمه. هنا في "زودياك"، لدينا الجرائم - وعددها خمس مع حالتين نفذ الضحيتان من القتل فيهما، فيما يؤكد زودياك أن عدد جرائمه لا يقل عن 37 -، ولدينا رسائل المجرم، ولدينا سان فرنسيسكو بداية السبعينيات، ولدينا البوليس يحقق، وكثير من الإثارة. لكن لدينا ما هو أكثر أهمية: لدينا عناد رجل أراد أن يكشف عن الحقيقة مضحياً بكل شيء في حياته من أجلها، بما في ذلك وظيفته وزوجته وأطفاله.
تحية من دون بطولة
إذاً فيلم "زودياك" هو عن هذا الشخص تحديداً، تماماً كما أن "ج. ف. ك" الذي يفترض به أن يكون فيلماً عن اغتيال جون كنيدي تبدى بين يدي أوليفر ستون، فيلماً عن المحقق الذي يعمل على ملف كنيدي. في "زودياك" على أية حال، لدينا فعلاً صحافي/ رسام، "يلعب" دور المحقق ويندمج فيه إلى درجة الهوس، وما "زودياك" سوى تحية متأخرة لهذا الشخص، لكنها لم تأت تحية تقريظية، بل أتت على شكل فيلم يدخل فيه متفرجه بالتدريج، ويبقى لديه في ذاكرته زمناً طويلاً بعد انتهاء العرض، ومع هذا، في هذا الفيلم الذي جعل من سلسلة جرائم موضوعاً خلفياً له، سيفاجأ المتفرج إذ لا يجد عنفاً كثيراً، ولا دماً كثيراً، ولا لحظات رعب (باستثناء ثلاثة أو أربعة مشاهد عابرة لا تشكل أساس الفيلم). إننا هنا، وبالتدريج، نعيش تفاقم حالة غريسميث وهو يغوص في قضية، لم تكن قضيته في البداية. فهو حين كان يعمل في صحيفة "سان فرنسيسكو كرونيكل"، كان كما قلنا، مجرد رسام كاريكاتيري. في المقابل كان المهتم بالقضية زميلاً له هو بول آفري، الذي نراه يتخلى عنها بعد أن توصل إلى حقائق لم تشأ الشرطة الأخذ بها، وهذه الحقائق تنطلق من سلسلة رسائل كان القاتل يبعث بها إلى الصحيفة نفسها بصورة منتظمة يتحدث فيها عن جرائم ارتكبها بالفعل، وأخرى لم تجد الشرطة أثراً لها. في ذلك الزمن وبعد سلسلة تحقيقات بوليسية وصحافية لم تصل إلى أي نتيجة، وبعد أن هدأت سلسلة الجرائم، أقفلت الشرطة الملف وبدا أن الكل نسي القضية... حتى وإن كان "القاتل" استعاد بعد فترة إرسال الرسائل و"ثرثرته" المعتادة، ولكن لفترة قصيرة طوى النسيان معها كل شيء، لا سيما بعد وفاة عامل كان هو المشتبه فيه الأول... وتوقف الجرائم.
في سبيل الحقيقة والعدالة
غير أن غريسميث لم ير الأمر على ذلك النحو، بل أيقظ لديه هذا كله فضوله، أو ربما حبه للحقيقة والعدالة، وراح منفرداً ووسط اشمئزاز الكل منه يتابع القضية ويلاحق أي خيط يلوح له... طوال أكثر من 25 سنة، ولقد نتج من هذا كله الكتابان اللذان حمل أحدهما عنوان "زودياك" والثاني عنوان "كشف هوية زودياك". ولقد بنى دافيد فينشر فيلمه على هذين الكتابين، ولكن في صيغة بدا معها الفيلم وكأنه عمل توثيقي عن روبرت غريسميث نفسه، وعن حياته وعناده وتماهيه التام مع الحدث.
والفيلم يلتقط غريسميث منذ انضمامه إلى أسرة الصحيفة في وقت متزامن مع بداية حدوث الجرائم ووصول الرسائل، وغريسميث في الوقت نفسه يتعرف إلى الفتاة التي سرعان ما تصبح زوجته. في البداية لم يجد غريسميث في الرسائل ما يشبع الفضول، لكنه بعد ذلك انطلاقاً من افتتانه بألغاز الرسائل وإشاراتها، راح غريسميث يهتم بالموضوع، إلى درجة أن هذا الاهتمام صار هاجساً ومبرراً لوجوده فأخذ يفحص الرسائل ويراجع أرشيفات الصحف وأرشيف الشرطة ويلتقي بالمفتشين لا سيما منهم دايفيد توسكي الذي كان في ذلك الحين أشبه بالأسطورة في عالم شرطة سان فرنسيسكو (وهو نفسه النموذج الذي بنيت عليه شخصية "هاري القذر" التي لعبها كلينت ايستوود في فيلم يحمل العنوان نفسه ويدنو من القضية نفسها. ولكن في شكل أقل ذكاء وإبداعاً مما هي الحال في فيلم فينشر). أمضى غريسميث لياليه ساهراً، إلى درجة أن زوجته سئمت منه في النهاية وتركته مع الصغار، أما هو فلم يبال بذلك كثيراً، بل راح يلتقي في سبيل بحثه بأناس غامضين، ثم في كل مرة كان يخيل إليه فيها أنه وصل إلى المجرم الحقيقي كانت فرضيته تنهار أمام وقائع جديدة ومفاجئة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القاتل الهامشي
والحقيقة أن هذا كله هو ما يصوره لنا هذا الفيلم الذي يبدو للوهلة الأولى أنه لا يصل إلى أية نتيجة حقيقية، بل بالأحرى، هو انتهى إلى تبني وجهة نظر روبرت غريسميث التي افترضت أن القاتل ليس أي شخص آخر سوى ذلك العامل الهامشي آرثر آلن، الذي كانت الشرطة حققت معه قبل ذلك بنحو ربع قرن من دون أن تصل إلى نتيجة قاطعة. في الكتابين، كما في الفيلم، يحكى لنا كيف أن رسائل "زودياك" بعد أن وصلت إلى "سان فرنسيسكو كرونيكل" بوفرة أول الأمر، وفيها ينسب زودياك إلى نفسه عدداً مفرطاً من الجرائم، بحيث أن أحداً حتى اليوم لا يمكنه أن يحصي حقاً عدد الجرائم الحقيقية التي اقترفها هذا القاتل، صارت تصل بوتيرة أقل، حتى اختفت تماماً. ثم خلال حقبة ثالثة بدا خلالها أن الموضوع برمته نسي، عادت الرسائل من جديد تتحدى الصحافة والشرطة، ويروي لنا الفيلم في مشهده الأخير كيف أن الرسائل توقفت وفي شكل نهائي، بعد أن مات آلن، الشخص الذي يعينه الكتاب، وغريسميث (والفيلم بالتالي) على اعتباره الفاعل المفترض.
أقرب إلى الحقيقة
إنه على أي حال، دليل بين الأدلة، لكن دايفيد فينشر خارج الفيلم في أحاديثه ومؤتمراته الصحافية، يحذرنا من أن ما في الفيلم قد يكون أقرب إلى الحقيقة، لكنه يبقى في حدود الفرضية حتى ولو كان غريسميث الحقيقي يعتبر الوصول إليها إنجازه الأكبر في حياته، ففينشر، يعرف وهو يقول هذا بكل وضوح، إن "زودياك" فيلم سينمائي بعد كل شيء وقبل كل شيء. بالتالي ليس دوره أن يقدم إجابات قاطعة، حتى وإن "كنت أميل أنا شخصياً إلى تبني الاستنتاج الذي وصل إليه غريسميث" كما يقول. ومن هنا، حتى وإن كان الفيلم لا يزعم أنه حل لغز زودياك قاتل سان فرانسيسكو نهائياً، فإنه أعاد إلى الحياة حكاية فتنت الناس طويلاً خلال السنوات التي يصورها الفيلم بكل روعتها وبهائها وغموضها... وربما يعيد أيضاً فتح ملف زودياك المغلق، رسمياً منذ سنوات عدة، ترى أليس في هذا هدف من أهداف الفن أيضاً؟