Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صداقة طويلة بين شوستاكوفتتش وبروكوفييف ضاعت في مهب الترجمة

كيف صفى الموسيقي الكبير حساباته مع الستالينية كما مع زميله صاحب الابتسامة الباردة؟

شوستاكوفتش وبروكوفييف وخاتشادوريان في صورة جامعة (غيتي)

ملخص

كيف صفى الموسيقي الكبير حساباته مع الستالينية كما مع زميله صاحب الابتسامة الباردة؟

كانا صديقين مقربين جداً وكانا زميلين في مهنة واحدة هي التأليف الموسيقي والتوزيع. وكذلك حين استشرس الأيديولوجي السوفياتي الرهيب غدانوف المقرب من ستالين وموجه النصح إليه في شؤون الفن والإبداع، طالتهما مخالبه معاً وكانا من بين الثلاثي الذي اضطره التعرض إلى الإرهاب الستاليني مباشرة بعد الحرب العالمية الثانية، إلى الانكفاء ريثما تمضي العاصفة اتباعاً لنصيحة بريخت الساخرة الشهيرة. وكان ثالث الثلاثي الأرمني آرام خاتشادوريان بالطبع، أما فارسا حكايتنا هنا فهما ديمتري شوستاكوفتش وسيرغاي بروكوفييف. ونعرف أن الثلاثة معاً، وربما إضافة إلى رحمانانوف الذي نفد بجلده قبلهم وهاجر إلى منفى أميركي صانه من غضب "أبي الشعب الصغير" وجبروته، كانوا سادة الفن الموسيقي السوفياتي أواسط القرن الـ20، وكان الناس ينظرون إليهم على أنهم متراصون متضامنون في السراء والضراء، وفي الأقل حتى صدور مذكرات شوستاكوفتش التي انفجرت كالقنبلة بعد رحيله، وهو الذي كان من المعتقد أنه مذعن يسير مع نظام سادة الكرملين وعن قناعة بالتأكيد. غير أن المذكرات التي صدرت في أميركا ولكن بعد موته، كشفت عن أن الأمور لم تكن كذلك. وأن الرجل كان يخفي في سريرته غضباً غامراً عرف كيف يضعه على صفحات كتابه.

مع النظام وضد النظام

لقد سبق أن تحدثنا في هذه الزاوية عن الكتاب وأشرنا إلى هذه الناحية فيه، لكن ما لم نتحدث عنه في غمرة اهتمامنا بالجانب الكاشف غضب الموسيقي على النظام، إنما هو أن الكتاب كان في الوقت نفسه وبأكثر كثيراً من كونه يوميات موسيقي عبقري، نوعاً من تصفية حسابات ليس مع النظام فقط، بل كذلك مع الحياة الفنية السوفياتية التي كانت في رأي شوستاكوفتش ضالعة مع النظام مسهلة عليه ممارساته القمعية. غير أن الأقسى من ذلك كان ما في الكتاب من تصفية حسابات مع آخرين من زملائه وعلى رأسهم سيرغاي بروكوفييف الذي شاركه عسف النظام وجوره لكنه لم يسلم مع ذلك من سلاطة قلمه. أو هذا في الأقل ما وصل للفنانة الأوبرالية السيدة لينا بروكوفييف أرملة الموسيقي الكبير حين اطلعت بعد سنوات من صدور المذكرات في الإنجليزية، على ترجمتها الفرنسية التي كانت صدرت لتوها، فجن جنونها وهي التي كانت تتشوق أصلاً لمعرفة ما الذي يحكيه شوستاكوفتش عن زوجها صديقه الراحل منتظرة الترجمة الفرنسية لعدم إتقانها الإنجليزية.

احتجاجات زوجة

ولسوف تقول السيدة بروكوفييف في رسالة بعثت بها إلى مجلة موسيقية فرنسية متخصصة أن أمرين صدماها، أولهما أن شوستاكوفتش قد أملى يومياته على سالومون فولكوف الموزع الموسيقي المعروف بعدائه الشديد لبروكوفييف، تاركاً له أمر نشر اليوميات بعد رحيله –أي بعد رحيل صاحب المذكرات– مما يفسر جزءاً من "تحامل شوستاكوفتش" على بروكوفييف، تحاملاً تفترض لينا أنه من تدبيج فولكوف، أما الأمر الثاني، فهو مبالغات لا يمكن أن تكون هذه المرة إلا من كتابة شوستاكوفتش نفسه إذ تتعلق بحكايات عن صداقته لبروكوفييف لا يمكن أحد غيرهما أن يعرفها. و"من هنا كانت دهشتي وغضبي شديدين وأنا أقرأ في الترجمة الفرنسية ما يوصف به زوجي بأنه لم يكن موزعاً موسيقياً كبيراً رغم مواهبه الفذة في التأليف (!) فهل يستقيم هذا مع ذاك؟"، تتساءل لينا بروكوفييف في رسالتها مفترضة أن هذه العبارة لا يمكن أن تكون من وضع شوستاكوفتش، لكنها في المقابل تتحدث بشكل مختلف لا يجد "ظروفاً تخفيفية" لصاحب المذكرات حين يروي حكاية حدثت لزوجها وهي راكبة ذات يوم إلى جانبه في سيارة هذا الأخير التي يقودها بنفسه. ففي الحكاية كما يرويها شوستاكوفتش أتى في الترجمة الفرنسية بحسب ما تروي لينا في رسالتها أن "السيارة قد "دهست" طفلة في مقتبل العمر كانت قد أفلتت من يدي أمها وحاولت أن تعبر الشارع فصدمها بروكوفييف بسيارته وكنت أنا جالسة بجانبه. فإذا بشوستاكوفتش يروي هذه الحكاية محاولاً البرهنة على أن صديقه لم يكن سائقاً ماهراً، بالتالي كان من الطبيعي له ألا يكون قائد أوركسترا ماهراً!".

أبسط الحكايات أعقدها

ولينا تنفي هذه الحكاية كما جاءت بقلم شوستاكوفتش كما تنفي ما يستنتجه منها، لتقول إن كل ما حدث هو أن الطفلة "بالكاد لامست السيارة فيما كان زوجي قد أوقفها بعد إقلاعنا بثوان، بالتالي فإن الأم حملت طفلتها مبتسمة بل معتذرة. فمن أين جاءت حكاية الدهس إلا من الرغبة في تشويه سمعة سيرغاي؟" ومهما يكن فإن المجلة التي نشرت رسالة لينا بروكوفييف أوضحت في ردها أن الأصل الإنجليزي للمذكرات لا يتحدث عن "دهس" يذكر في الترجمة الفرنسية فقط! غير أن "حكم البراءة هذا الذي حظي به بروكوفييف وشوستاكوفتش معاً" لم يحل دون الإشارة إلى أن ثمة في نص شوستاكوفتش ما ينم فعلاً عن تصفية حسابات حقيقية تجاه زميله الكبير. وهكذا مثلاً نقرأ في الأصل كما في الترجمة وبلغة شوستاكوفتش بالتأكيد، النص التالي: "لم ننجح أنا وبروكوفييف أبداً في أن نصبح صديقين. وربما يعود ذلك إلى عدم تمتع بروكوفييف بما يشجع على الارتباط به بصداقة حقيقية. كان شخصاً جافاً من الواضح أنه لا يهتم بأي شيء خارج ذاته وموسيقاه. لقد كان بروكوفييف مدللاً منذ طفولته يحصل على كل ما يريده. كان يملك كل شيء من دون أن تتراكم عليه أي هموم. كان غنياً وناجحاً ومن هنا أفهم ما الذي دعا هذا الشاب المتأورب إلى العودة إلى الاتحاد السوفياتي بعد أن نجح في مغادرته. لقد كان لاعباً شغوفاً. لاعباً يعرف كيف يخرج رابحاً على الدوام. ومن هنا بدا لي أنه قبل عودته عرف كيف يحسب كل شيء مدركاً أنه سيطلع رابحاً في نهاية الأمر. وهو عرف على أي حال كيف يبقى طوال 15 سنة جالساً على كرسي مزدوج. ففي أوروبا كانوا ينظرون إليه كسوفياتي، وفي روسيا كان يعتبر ضيفاً آتياً من الغرب. وكان في الحالتين يلقى الترحيب والتبجيل".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بين زميلين لدودين

وفي سياق آخر يتابع شوستاكوفتش حديثه عن زميله آخذاً عليه أنه "أبداً لم ينظر إليّ كمؤلف موسيقي نظرة جدية، بالتالي بأنني جدير بأن أكون منافساً له. كان يرى أن ما من منافس له سوى سترافنسكي فكان ينتهز كل فرصة لقول كل ما هو سيئ بصدده. وأذكر أنه ذات مرة تنحى بي جانبا معلناً أنه سيحكي لي حكاية تتحدث عن قذارة سترافنسكي فصددته من فوري قائلاً له إنني لا أريد أن أسمع شيئا!". وإلى هذا يذكر شوستاكوفتش كيف أن بروكوفييف قد تعرض لكثير من ضروب الإذلال لكنه تحملها كلها من دون أن يهتز له جفن. "وأذكر هنا على سبيل المثال، التوزيع الأوركسترالي لباليه "روميو وجولييت" الذي كتبه ويعتبر من خير أعماله. لقد فرض عليه توزيعاً مختلفاً تماماً عن ذاك الذي وضعه فلم يعترض ولا يزال هذا التوزيع معتمداً في عروض البولشوي حتى اليوم. بل لا بد من القول إن بروكوفييف لم يدل بأي اعتراض أو حتى بأي تعليق حين كان مسؤولو البولشوي يبدلون في ألحانه كما يشاؤون. وأعتقد أن ذلك كان عن انتهازية لا عن جبن".

ابتسامات باردة متبادلة

وهنا لا يفوت شوستاكوفتش أن يذكر كيف أن زميله قد بادر ذات مرة إلى تلحين نشيد على كلمات جمع فيها بين نصوص للينين وستالين "لكن المسؤولين رفضوها. فلم يغضب بل عمد من فوره إلى تحويل ألحانها إلى نص من كتابة ستالين، لكن الرفض كان مآل العمل الجديد أيضاً. وبعد ذلك شرع مايرهولد في تنفيذ أوبرا بروكوفييف "سيميون كوتكو". ومن جديد لقي هذا المشروع نفس المصير فيما جابه الموسيقي الأمر بابتسامة باردة لا تعني شيئاً". أما بالنسبة إليه شخصياً فإن شوستاكوفتش يختم حديثه عن بروكوفييف ذاكراً أن "ثمة كثيراً من تهجمات هذا الزميل عليّ في مراسلاته الكثيفة مع ماياكوفسكي... كنت أعرف كثيراً عنها ولكني أبداً لم أعلق عليها إلا بابتسامة باردة لا تعني بدورها شيئاً"!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة