Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكاية جمهورية "سالو" الإيطالية بين موسوليني وبازوليني

الواقع التاريخي يختفي في مواجهة الضرورات الفنية عندما تتحكم بالأمر الحاجة إلى التعبير

بنيتو موسوليني: تهديدات ألمانية وإذعان منطقي (أ ف ب)

ملخص

تهديدات هتلر كانت ماثلة وواضحة خلف ابتسامات الطمأنة اللطيفة التي يطلقها الفوهرر في وجه حليفه

عندما حقق المخرج والكاتب الإيطالي بيير باولو بازوليني، عام 1975، فيلمه "سالو"، لم يكن يعرف بالطبع أنه سوف يكون فيلمه الأخير إذ إنه، بعد فترة من إنجازه، سوف يعثر عليه جثة هامدة قتيلاً عند شاطئ غير بعيد من روما، ونعرف أن مقتله جاء يومها في ظروف غامضة. غير أن هذا الفنان الذي عُرف بثقافته الكبيرة ومشاكسته التي لا تقل عنها ضخامة، كان يعرف، بالطبع، أن فيلمه يبتعد كثيراً، ولأسباب مقصودة عن الواقع التاريخي الذي استمد منه حكاية فيلمه، فبالنسبة إليه كان الفيلم غير ذي علاقة حقيقية بالتاريخ بل هو اتخذ من هذا التاريخ تعلة يعلّق عليها همومه المرتبطة بما هو أكثر فداحة وأهمية بالنسبة إليه، وكان ذلك يأتي، على أية حال، في سياق تجدد الفن السينمائي، وغيره من ضروب الإبداع، في دنوه من المسألة الفاشية التي بقدر ما كانت تقلق الإيطاليين في ما يتعلق بتاريخها، كانت تقلق مبدعيهم في ما يتعلق بكونها بدأت، في تلك السنوات التي أعقبت الآمال الإنسانية الكبرى التي سادت في عزّ اندلاع حركات الشبيبة الغاضبة في إيطاليا كما في بلدان عدة من العالم باستعادة حضورها. والحقيقة أن فيلم بازوليني، وعنوانه الكامل "سالو" أو أيام سادوم الـ 120"، إنما أتى في سياق سينمائي أنتج يومها تحفاً مثل "الممتثل" لبرناردو برتولوتشي، و"بواب الليل" لليليانا كافاني، وهما فيلمان خاضا في تاريخ الفاشية من خلال إحاطة الموضوع بالتحليل النفسي كما سيفعل بازوليني في "سالو" وإن يكن من منطلق يختلف كل الاختلاف.

 

بين الفيلم والحقيقة التاريخية

لكن هذا الجانب السينمائي ليس هو ما يهمنا هنا، بل يهمنا بالتحديد الكيفية التي تطرق بها بازوليني من الجانب التاريخي البحت، ذلك لأننا نعرف أن كثراً من مؤرخي الحرب العالمية الثانية لم يكونوا راضين عن الفيلم بل اتهمه بعضهم بالخروج تماماً عن ذلك الواقع التاريخي "الذي سخره المبدع لخدمة أغراض فنية شديدة الذاتية تتعلق برؤيته التي لا علاقة لها بما حدث حقاً في سالو الحقيقية بدءاً من يوم 23 سبتمبر (أيلول) 1943. وهو بالتالي ليس أميناً لما حدث حقاً"، وهو أمر لن ينكره بازوليني ولا أنكره النقاد الذين أشادوا بفيلمه، ومن هنا ننتقل في هذا الجزء من كلامنا للحديث عما "حدث حقاً" طوال أربعة أشهر في بلدة سالو الصغيرة التي تقع قرب بحيرة غارد في الشمال الإيطالي، بحيث لا يعود حديث الفيلم همنا هنا وإن كنا نعرف أنه كان هو المنطلق لعودة خبر سالو إلى التداول وتحديداً عبر كتب تاريخية كثيرة كان معظمها يأتي على ذكر الفيلم في مقدمته ثم يتركه بعد ذلك، في النهاية، كان المطلوب الآن استعادة ذلك الفصل التاريخي الغريب من تاريخ إيطاليا وهو فصل يبدو أن كثراً من الإيطاليين كانوا قد نسوه، ولقد كان من بين تلك الكتب، وربما آخرها في الصدور، إذ صدر قبل عقد ونصف العقد من الآن وبعد نحو ثلث قرن من تاريخ ظهور الفيلم ومقتل صاحبه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حقائق تاريخية لمواجهة الفن

مها يكن من أمر، فإن الكتاب وعنوانه "موسوليني وهتلر، الجمهورية الاجتماعية تحت حكم الرايخ الثالث" كان من تأليف المؤرخة الجامعية مونيكا فيورافانزو التي أتت فيه لترد على المؤرخ المخضرم رينزو دي فليتشي مؤرخ المرحلة الفاشية وكاتب سيرة لموسوليني أتت مبالغة في التعاطف معه، وذلك لمناسبة استعادة الصحافة كتابات هذا المؤرخ تماشياً مع تجدد الاهتمام العريض بالفاشية لمناسبة عروض متجددة لفيلم بازوليني على الشاشات التلفزيونية القومية في هذا البلد، وتنطلق المؤرخة من التذكير بأن جمهورية "سالو" قد وجدت تاريخياً في تلك البلدة الصغيرة لكنها لم تقتصر عليها بل إنها توسعت لتشمل أجزاء عدة من الشمال الإيطالي متاخمة للنمسا ولبعض المناطق الأخرى التابعة لما سوف يعرف لاحقاً بيوغوسلافيا، وهي مناطق استغل النازيون كون سكانها كما سكان النمسا معادين للإيطاليين تاريخياً كي يتعاونوا معهم في خلق حالة استثنائية في مرحلة كان الحلفاء قد بدأوا يتغلغلون في مناطق أخرى من إيطاليا وتمكنوا من اعتقال موسوليني نفسه لفترة انتهت بهروبه، غير أن الألمان لم ينتظروا ذلك الهروب ليتحركوا، وكان تحركهم، على أية حال، مختلفاً في غياب "الدوتشي" عما كان يمكنه أن يكون في حضوره، ومن هنا سارع هتلر بالتحرك كي يضع العالم أمام أمر واقع عنوانه جرمنة تلك المناطق الإيطالية، وهي على أية حال جرمنة ما كان من شأن موسوليني أن يقبل بها.

سباق مع الزمن

لكن الذي حدث هو أن تحرير "الدوتشي" من أسره باغت الألمان لكنه أتى في خضم واقع جديد تمكّن النازيون، وبخاصة بمساعدة كبار ضباطهم النمسويين أي من بين الأخلص لهتلر، من أن يوجدوه، والحال أن موسوليني إذ وجد نفسه أمام واقع جديد يتناقض مع فكره و"وطنيته" الإيطالية أعلن أنه الآن سوف يعتزل السياسة ويجد لنفسه مكاناً هادئاً بعيداً "من الصخب المجنون ومن أصوات المدافع" يأوي إليه ليعيش حياة ريفية بعدما "أمضيت حياتي في خدمة هذا الوطن ولم يعد في مقدوري أن أفعل المزيد". لكن هتلر كان لتلك الرغبة الموسولينية في المرصاد، فهو بعد كل شيء لا يزال في حاجة إلى "الدوتشي"، ومن هنا كانت أوامره واضحة في أن على موسوليني أن يتولى زمام الأمور في تلك "الجمهورية" التي "لم تعد الآن فاشية بل نازية بكل وضوح"، مهدداً بأن الأسلحة الألمانية سوف تمحو إيطاليا كلها من على الخريطة إن تردد حليفه في القبول بذلك، وبالطبع ترى المؤرخة أن ذلك التهديد، لا المطامع السياسية ولا الرغبة بالتمسك بالسلطة كانا وراء تراجع موسوليني عن رفضه، وقبوله تولي الرئاسة في تلك الجمهورية التي كان، وكما يروي دي فليتشي هذه المرة، يرصد بكل حزن ليس فقط تولي النازيين ممثلين بضباط الجيش الألماني، شؤونها السياسية وحتى الإدارية بصورة مباشرة، بل حتى تولي هؤلاء تبديل أسماء الشوارع والقرى والبلدات بخاصة في التيرول الذي كان النمساويون يحكمونه لفترات زمنية طويلة، بأسماء جرمانية. وكذلك كان يرصد "بحزن أكثر"، كما تضيف صاحبة الكتاب التاريخي الذي نحن في صدده هذه المرة "تغيير المناهج المدرسية وبخاصة دروس التاريخ والجغرافيا وإلغاء كل ضروب التعليم باللغة الإيطالية في تلك المدارس التي كانت في الماضي تتبع الجاليات السلوفينية والكرواتية الأصل في المدن والأقاليم الإيطالية الشمالية والشمالية الغربية. ويقول لنا التاريخ إن موسوليني نفسه وخلال السنوات الأولى لسيطرته وفاشييه على الحكم في إيطاليا كان قد أمر بإغلاق كل تلك المدارس نفسها وعودة ما سيتبقى منها إلى التدريس باللغة الإيطالية، وها هو مجبر الآن على التراجع عن كل ذلك خوفاً من هتلر ونازييه!

آلام الدكتاتور "الوطني"

كان هذا كله أكثر إيلاماً مما يمكن لـ"الدوتشي" تحمله، لكن تهديدات هتلر كانت ماثلة وواضحة خلف ابتسامات الطمأنة اللطيفة التي يطلقها الفوهرر في وجه حليفه، وهكذا طوال تلك الأيام والأسابيع العصيبة في تلك "الجمهورية الاجتماعية" التي أقامها النازيون في تلك المنطقة من العالم كبديلة لإيطاليا الكبرى التي لم يعد في وسعهم الآن استعادتها، عاش موسوليني فترة بالغة الصعوبة، لكن تلك المعاناة في "القمة" من المستحيل أن يجد المتفرجون أثراً لها في فيلم بازوليني كما تؤكد فيورافانزو في مدخل كتابها، والحقيقة أن بازوليني، لو كان حياً وقرأ الكتاب، كان من شأنه أن يوافقها على ما تقول هو الذي لا يمكن أن تكون السينما بالنسبة إليه دروساً في التاريخ، بل إبداعاً يستخدم الخيال في التعاطي حتى مع الحقائق التاريخية من دون أن يكون ملزماً بتباعها. فالفن في رأيه له منطقه الخاص ونظرته الخاصة إلى التاريخ وواقعه لأنه إن "كان يحمل رسالة، فإن رسالته لا علاقة لها بالواقع التاريخي على الإطلاق"، ومن هنا نعرف أن صاحب "ثلاثية الحياة" و"ثيوريما" حين حقق "سالو" لم يكن في نيته ولا ضمن مشروعه أن يحقق فيلماً يؤرخ لها ولا حتى لـ"لآلام وأحزان السيد موسوليني".

المزيد من ثقافة