ملخص
تغير تصور الجسد عبر التاريخ وما نشهده اليوم مبالغة تغذيها منصات التواصل الاجتماعي أوصلت الناس إلى التطرف والهوس
"ليس هناك جميل ولا قبيح، وإنما تفكيرنا هو الذي يصور لنا إحداهما"، عبارة شكسبير هذه يظل يتردد صداها مع تغير الأجيال وما يرافقه من ثقافات مختلفة تقود بدورها إلى معايير تحدد بعض القيم، بخاصة قيمة الجمال التي كانت وما زالت أكثرها نسبية، فلطالما ارتبط الجمال بمعتقدات المرء ذاته عنه.
يرى بعضهم في الوجه الطبيعي البعيد من التدخل الجراحي أو مساحيق التجميل درجة عالية من الجمال والجاذبية، بينما يجد آخرون في الوجه الخالي من العيوب كقطعة الكريستال الدليل الأوحد على الجمال، ويبدو أننا وانطلاقاً من الرأي الأخير أصبحنا نتعامل مع أجسادنا كأداة لتحديد مصيرنا.
معايير السعادة والعافية
بعد انتقالنا من حال الجسد المقيد والخاضع لتقلبات الحياة إلى إمكان الحصول على جسم مرن قابل للتحول وفقاً لما ننتهجه من خيارات طبية وتفضيلات غذائية وتمارين وأنشطة رياضية، أصبح هناك ولاء شديد لمعايير تحديد مستويات العافية والرفاه، إذ يعتقد كثيرون في الوقت الحاضر أن الاتسام بالنحافة والشباب والجمال صفات تتسق بقوة مع النجاح في العلاقات والحياة المهنية وسبباً للعافية والوقاية والتطور وطول العمر.
تم ربط السعادة بالمقاييس الجسمانية المثالية، التي ربطت بدورها بقوة الإرادة وحسن ضبط النفس، إلى أن بلغ الأمر حد الهوس والممارسات المبالغ بها للتحكم المتطرف بالجسد، وكانت النتيجة أن الغالبية قلقون وغير آمنين اليوم في شأن مظهرهم وأجسادهم، إذ ما بين تقبل الذات والرغبة في الحصول على القبول الاجتماعي يقوم كثيرون اليوم بتناول أدوية خاصة بالقيء بعد تناول كل وجبة خوفاً من بروز البطن أو تكدس الدهون، وآخرون يداومون في عيادات التجميل لنحت وتكسير الدهون، والسؤال الآن: متى بدأ هذا الهوس؟
عبر التاريخ
في مراجعة تاريخية لكيفية تصور الجسد واعتباراته في الثقافات القديمة نجد تغيرات عدة جعلت من الجمال الجسدي أمراً نسبياً للغاية، فتتجسد امرأة في صور المصريين القدماء بتكوين جسدي مثالي تميزه الأكتاف الضيقة والخصر المنحوت والقوم الرشيق، وكذلك في ثقافة الصينية كانت الشخصيات النسائية صغيرة الحجم بخصر ضيق وبشرة شاحبة، بينما ذهب اليونانيون القدماء في الاتجاه المعاكس تماماً ليصوروا نساء اليونان ممتلئات الجسم بل وبدينات نسبياً ببشرة فاتحة اللون، كما سلط الضوء على الرجال في الفن والمنحوتات كشخصيات ذكورية قوية البنية.
أما في إيطاليا، فكانت شخصية وجسد الزوجة انعكاساً لمدى ثراء زوجها، فاعتبر الوركين السمينتين والصدر الواسع من الدلائل على الثراء، واستمر الأمر خلال العصر الفيكتوري في إنجلترا، فكان المألوف والمرغوب أن تتمتع الإناث بقوام وجسد ممتلئ.
إذاً ماذا حدث؟ ومتى بدأ هذا التحول الدراماتيكي باتجاه بالنحافة الشديدة؟
الكورسيه
تذكر المرجع أن الهوس الأول بالنحافة بدأ في عشرينيات القرن الـ19 مع انتشار موضة الكورسيهات كصيحة جديدة للرجال والنساء على حد سواء، فأصبح الشكل المتعرج الضيق عند الخصر والمحدد للوركين والصدر مطلباً أساساً، ومن هنا أصبحت الموضة أعلى قيمة من الراحة.
كما احتفي في الولايات المتحدة في أواخر القرن الـ19 بما سميت بـ"فتاة جيبسون" التي صورها الفنان تشارلز دانا جيبسون وامتدت 20 عاماً إلى أوائل القرن الـ20، ركزت الصور والرسوم التوضيحية بالقلم والحبر على إبراز الجمال الجسدي المشذب المثالي ودلت على المرأة الهادئة والواثقة والمستقلة، فجاءت تجسيداً للمثال الأنثوي الجاذب جسدياً، رأى فيها صاحبها مزيجاً من آلاف الفتيات الأميركيات، وكانت كلماتها المفتاحية الطول والنحافة وميزتها الأهم ارتداء الفتيات للكورسيه.
الساعة الرملية
مع نمو صناعة الموضة والإعلام في عشرينيات القرن الماضي بدأت صور فتاة جيبسون في الظهور في المجلات والملصقات والصور، ومن هنا بدأ الضغط يتزايد على النساء اللاتي يحتجن إلى الظهور بطريقة معينة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
استمر هذا النهج في الصعود في الثلاثينيات إلى الأربعينيات من القرن الماضي في وقت هرب فيه الناس من الكساد الكبير والحروب العالمية إلى عالم خيالي يعج بالمشاهير وما يعكسه من جمال وإثارة وأنوثة وقوة، وبدأ الترويج لرمز الساعة الرملية بشكل مكثف في عالم الأزياء والتمثيل والمجلات والألعاب، لترافقها صناعات أخرى تختص بالتمارين الرياضية والأنظمة الغذائية وابتداع الأطعمة الخاصة، ثم دخلت بعد ذلك صناعة مستحضرات التجميل على خط المنافسة، لتتلوها مباشرة الجراحة التجميلية.
لكن اللافت اليوم أن الهوس بالصورة المثالية لم يعد قضية نسائية فحسب، بل أسهمت صور المشاهير والممثلين والرياضيين ولاعبي كمال الأجسام والمغنيين الموهوبين إلى زيادة الضغط على الذكور أيضاً، الذين يبدو أنهم اختاروا اليوم حمل المعاناة ذاتها التي تكبدتها المرأة في العصور القديمة، لنصل إلى حقيقة أن الرجال لم يعودوا محصنين اليوم من هذا الهوس.
التزييف
الأكيد أن المحيط من حولنا والإعلام والثقافة السائدة تؤثر بعمق في وجهات نظرنا بالتالي على كيفية تصورنا لجسدنا، ومع التقدم التكنولوجي أسهم الإنترنت والهواتف المحمولة في زيادة سهولة الوصول إلى المحتوى عبر الإنترنت، ومع الوقت أصبح الوصول إلى برمجيات تعديل الصور بالغ السهولة بوجود التطبيقات، لنرى الأشخاص المثاليون اليوم في كل مكان بعد أن كانوا على أغلفة المجلات وفي المسلسلات والأفلام فقط.
فاليوم تكاد لا تكف وسائل التواصل الاجتماعي عن تذكيرنا المستمر والتركيز على الكمال الجسدي في ثقافة مهووسة بالمظاهر، وفي حين أن الجسم المتوازن شكلاً ومضموناً يؤثر إيجاباً في الصحة الجسدية والنفسية والحضور والتطور، إلا أن ما يسوق له عبر هذه المنصات لا يعدو كونه مجرد خداع وتزييف يحرص من خلاله المستخدمون الافتراضيون على مطاردة المثالية الزائفة والظهور في أمثل صورة حتى لو كانت معدلة ومزيفة وبعيدة من الواقع.
الصحيح أننا نريد جميعاً أن نظهر بأفضل ما لدينا، الأمر الذي يساعدنا في الشعور بمزيد من الثقة، إلا أننا ننسى أن ما نراه خلف شاشاتنا الصغيرة هو مجرد أجساد افتراضية تصمم خصيصاً لتتوافق مع شخصيات أصحابها الافتراضية، إذ يسبق الصور إضافات تجميلية ويرافقها ضبط للإضاءة والوضعيات الأعلى جمالاً وتأثيراً وتنتهي بكم من التعديلات الرقمية التي تحقق الصورة المثالية المرجوة، فكل ما يظهر مصمم ومدروس بعناية للترويج لصورة محددة تستقطب الجماهير المتعطشة لنمط حياة مثالي، في حين أن لا وجود لهذه المثالية على أرض الواقع.
صناعة مربحة
ونستطيع القول اليوم وبثقة تامة أن صالات اللعاب الرياضية لم تشهد ازدحاماً كما تشهد اليوم وكذلك عيادات التجميل ومبيعات المكملات الغذائية، وهذا ما تؤكده أرقام معهد العافية العالمي (GWI) الذي يعنى بما يسمى اقتصاد العافية العالمي الذي يشكله 11 قطاعاً على رأسها قطاعا العناية الشخصية والجمال والأكل الصحي والتغذية وفقدان الوزن.
وبلغت قيمة اقتصاد العافية العالمي 4.9 تريليون دولار في عام 2019، ثم انخفض إلى 4.4 تريليون دولار في عام 2020، بسبب التأثيرات واسعة النطاق لكوفيد، ويتوقع المعهد أن يبلغ متوسط النمو السنوي 9.9 في المئة مع وصول اقتصاد العافية إلى ما يقرب من 7.0 تريليون دولار في عام 2025.
وإذا ما عرفنا أن اقتصاد العافية هذا مثل عام 2020 نسبة 5.1 في المئة من الناتج الاقتصادي العالمي، نجد أنه من المقصود أن يظل تعريف الجمال فضفاضاً حتى يتعقد الأمر أكثر وتستغل هذه القطاعات لغايات تجارية كإنتاج أطعمة مرتفعة الثمن يروج لها لدعم أحد الأنظمة الصحية وعضويات صالات الرياضية وكريمات التخسيس والعمليات الجراحية التي تتوسع كل يوم وتبدع في اختلاق تفاصيل تدعي أنها تجعل الجسد البشري أجمل وأكثر كمالاً، ومن الواضح هنا أن السوق أصبح ينتهج مبدأ خلق المشكلة وطرح الحل.
ويتوقع المتخصصون أن تساعد هذه الصناعة في تفاقم اضطرابات الأكل والأمراض المرافقة من خلال اللعب على مشاعر سلبية رئيسة، على رأسها شعور الذنب.
مكمن الخطورة
وفي حين تركز وسائل الإعلام التقليدية والجديدة والثقافة الشعبية على صورة الجسم المتطرف في المثالية، ربما يقود هذا التوجه إلى نتائج عكسية كاضطرابات الأكل والهوس في النحافة ثم الخوف من اكتساب الوزن الذي يدفع بعضهم إلى التقيؤ الذاتي أو تناول الملينات ومدرات البول، وربما تتحول إلى اضطرابات في الصحة العقلية مثل النهم المرضي (البوليميا) وفقدان الشهية العصابي (الأنوركسيا) والاكتئاب والقلق يصاحبهم فقدان الثقة والشعور بانعدام القيمة، أو الإدمان على ممارسة الرياضيات البدنية القاسية وتناول المكملات الغذائية الذي يصل ببعضهم إلى اضطراب يشخصه النفسانيون باسم فقدان الشهية العكسي الذي يدفع الشخص إلى الهوس في زيادة كتلته العضلية بشكل أكبر على حساب كتلة الدهون.
وربما يؤدي كل ما سبق إلى انخفاض في تقدير الذات وتدني الصورة الذهنية بسبب النقد الذاتي الدائم والحديث الداخلي السلبي والتعامي عن الصفات الإيجابية لصالح العيوب، فالاستمرار في الترويج للصور التي تقدم على أنها صورة مثالية يجب الوصول إليها وتحقيقها ومقارنة الناس جسدهم بجسد شخص آخر بغض النظر عن اختلاف الجينات وعملية التمثيل الغذائي والوراثة وغيرها من العوامل، يضعهم في دائرة القلق الدائم في شأن أي تغيير يمكن أن يلاحظ في شكل أجسمهم أو بشرتهم مهما كان بسيطاً، وفي حين تبدأ الدوامة في اللجوء إلى الأدوية والعمليات والأنظمة القاسية إلا أنه من غير الممكن التنبؤ إلى أين يمكن أن تصل إليه في نهايتها.