Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الروائي الإريتري سليمان الدنيا يرصد معاناة اللاجئين

 رواية "الصمت لغتي" ضمتها قائمة جائزة "أورويل لروايات الخيال السياسي"

الروائي الإريتري البريطاني سليمان الدنيا (صفحة الكاتب - فيسبوك)

لم تهنأ القارة السمراء يوماً بإرثها من الثروات والموارد المتنوعة، ربما لأن نصيب شعوبها من الألم والمعاناة، كان دائماً أكبر، فقد عاش معظم هذه الشعوب في فقر مدقع، لا يتسق مع ثرواتهم. وحين ظنوا أن قرونهم المظلمة قد انقضت، مع انتهاء الاستعمار، وجلاء المستعمر؛ اكتشفوا إثم ظنونهم، إذ ما لبثت أن اندلعت الحروب والصراعات، التي انفصلت على إثرها دول، ولاقت جراءها، أرواحٌ حتفها، وشُرد مواطنون فروا من نيران الحرب، إلى جحيم اللجوء. إرتريا كانت واحدة من الدول الأفريقية، التي حصدت نصيباً كبيراً من الحروب، مما انتهى بألوف من مواطنيها، في المخيمات، التي كان إحدها، فضاءً مكانياً لأحداث رواية "الصمت لغتي"، للكاتب الأريتري المقيم في لندن سليمان الدنيا، والصادرة في ترجمة عربية عن دار العربي - القاهرة، أنجزها عن الإنجليزية عبد الرحمن النجار.

نقلت الرواية، التي تأهلت للقائمة القصيرة لجائزة "أورويل لروايات الخيال السياسي"، معاناة الأريتريين الفارين من الموت والحرب، إلى حياة المخيمات. وجسّدت شعور الهزيمة الذي يبدأ عادة، في لحظة يجد فيها المرء نفسه مضطراً للتخلي عن دياره، أحلامه، ذكرياته ومستقبله، من أجل المضي نحو حياة مجهولة، تفتقر إلى كل ما يرجوه، إلا الأمن. استهل الدنيا رحلته السردية؛ باقتباس للشاعر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس: "نحن لا نعرف كيف يبدو شكل الأيل السماوي، ربما لأنه لم يسبق أن رأينا واحداً، لكننا نعلم أن هذه الحيوانات البائسة تعيش تحت الأرض في المناجم وأقصى أمنياتها هو التعرض لضوء النهار". ويحيل عبر هذا الاقتباس إلى بعد المسافة بين حجم مأساة اللاجئين، وبين إدراك العالم لها، لا سيما وأن أحداث الرواية تتقاطع مع تجربته الذاتية. فقد قضى طفولته كلاجئ في مخيم للاجئين في السودان، بعد مذبحة "أم حجر"، ثم انتقل إلى جدة في السعودية، ومنها إلى لندن.

شرع الكاتب في رحلته عبر سرد ذاتي، على لسان أحد شخوصه الثانوية "جمال"، الذي قرر بعد وصوله المخيم، أن يتحايل على قسوة الحياة الجديدة، ويصنع سينما صامتة، من قطعة قماش بيضاء، مربوطة بعمودين خشبيين، تتوسطها فتحة مربعة كبيرة. وعبر هذه السينما، مزج الوهم بالواقع. وتحولت الشخوص في المخيم، إلى أبطال في فيلم سينمائي، انطلقت أحداثه من إعلان عن محاكمة البطلة "سابا"، بتهمة هتك براءة أخيها الأبكم. وكانت هذه المحاكمة بمثابة استباق أضاف التشويق إلى السرد، فما إن صدر الحكم استناداً إلى شهادات الشهود، حتى انطلق الكاتب من بداية ثانية، تتبع عبرها - معتمداً على راوٍ عليم - معاناة اللاجئين، في حياة لا إنسانية، فقدوا فيها أوطانهم وأحلامهم. ولم يبق لهم، سوى ثقافة وتقاليد معطوبة، زادت من وطأة معاناتهم. وفسر من خلال تواتر الأحداث، ما استبق به في جلسة المحاكمة.

مفارقات الصراع

في خلفية السرد لعب الصراع الأريتري الأثيوبي؛ الدور الرئيس في تحريك الأحداث. فكان الخوف من القتل؛ دافع الشخوص للهروب إلى المخيمات. وكانت المفارقة في هذا الصراع، أن الشخصية المحورية "سابا"، تحمل جينات قطبيه، إذ كان نصفها أثيوبي للأب، والنصف الثاني أريتري للأم، لتثبت جيناتها المشتركة؛ عبثية الحرب الدائرة، التي أسفرت - بعد التعايش- عن خراب واقتتال. كذلك كانت الثقافة والتقاليد، التي لا تفنى ولا تنقضي؛ باعثاً آخر لصراعات اندلعت، بين "سابا" ومجتمعها الصغير، فكان عنادها، وقوتها، وانصرافها عما يتسق مع الصورة النمطية للنساء؛ سبباً في تعاسة أمها، ونظرة المحيطين لها؛ باعتبارها أقرب للذكورة. وقد مرَّر الكاتب في طيات هذا الصراع، محاكمات ضمنية للتقاليد والموروثات، التي تحقر المرأة، وتبرر الاعتداء عليها. وهو ما جنته "سابا"، حين أستبيح جسدها مرات، للتحقق من عذريتها، وحين أُجبرت على الختان: "دفعت سابا والدتها بعيداً عن طريقها، لكن القابلة سدَّت الباب بجسدها، قالت والشرر يتطاير من عينيها: هل تريدين أن تصبحي عاهرة؟ اجلسي رجاء. نحن نفعل ذلك لمصلحتك". وكما أبرز الدنيا أشكالاً من الانتهاكات الجسدية، التي تتعرض لها النساء الأفريقيات؛ أبرز سطوة الثقافة الأبوية، في المجتمع الأفريقي، التي أثمرت أشكالاً من الوصاية الاجتماعية، والظلم للنساء.

وعلى الرغم من التجنيد الإلزامي للمرأة الأريترية، لا يُسمح بالحكم إلا للرجال، وتُحرم الفتيات بدعوى التقاليد، من أبسط حقوقهن، فلا يحق لهن بالسباحة مثلاً، في حين يُكلَفن بحمل الطعام، والماء، والحزم الثقيلة من الحطب فوق ظهورهن. ويُطَالبن دوماً بتقديم التضحيات. وعلى الرغم من كل ذلك، فهن دائماً غير مرئيات، بل ويتعرضن لألوان من التمييز والعنف، والاحتقار، والمحاكمات الأخلاقية، التي تعكس هوساً ببكارة المرأة، وتسفر دائماً عن معاناة أبدية، تحت وطأة السمعة السيئة. فالفتاة التي تعرضت للاغتصاب، أُتهمت بأنها هي من أغوت المغتصب، وعوقبت بحمله فوق ظهرها! "انحنى ظهر الفتاة، ومع ذلك لاحظت سابا إنها لم تترنح. كانت تعتقد أن الفتيات معتادات على حمل الأشياء... لكن سابا أدركت أن العقوبة الحقيقية لهذه الفتاة هي السمعة السيئة، التي لحقت بها. فمن الآن وصاعداً، ستبقى محصورة في الغرفة الخلفية من الحياة، في مكان ستُنسى فيه مثل مبنى يُترك بمفرده ليتداعى".

آفة الصمت

ربما كان الصمت خياراً طوعياً في بعض الأحيان، يعكس حرية أصيلة للذات، لكنه في أحيانٍ أخرى، يصبح عبئاً، ونتاجاً لرحلة طويلة من المعاناة، وأحياناً يكون نقمةً، وأصلاً لكل شر. وقد جعله الكاتب في نصه الروائي، كل ذلك. فكان صمت "سابا" وشقيقها - كحال كل طفل في هذا المجتمع- لغتهما الوحيدة، بعد تعرضهما لاعتداء جنسي، قام به عمهما، مما ترتب عليه، خلل في هويتهما الجندرية، لا سيما الأخ، الذي اختار بدوره الصمت لغة، في مواجهة حقيقته، فحمل أخته على تحمل المزيد من الظلم، وتقديم المزيد من التضحيات. كذلك كان الصمت لغة الفتيات اللاتي تعرضن للانتهاك الجسدي والمعنوي. ولأن غياب اللغة يعني غياب المقاومة، ترسَّخ الظلم، والخوف، والاستسلام، والتمادي في الانتهاك، واستقرعلى رغم تغير الأماكن من الوطن إلى المخيمات. وهذا ما أبرزه الكاتب في غير موضع من النسيج، لا سيما عبر عتبة النص الأولى، باختياره عنوان "الصمت لغتي".

تطرق الدنيا إلى العديد من القضايا الخطرة، التي تؤرق المجتمع الأريتري، والمجتمعات الأفريقية عموماً، مثل قضايا الفساد، والعنصرية، والقمع. ورصد تبعات الاستعمار، التي تمثلت في توفير سلاح؛ كان عاملاً رئيساً في اندلاع الحروب، وإزهاق أرواح الأبرياء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

استثمر الكاتب المخيم كفضاء مكاني للسرد، لإبراز الأوضاع اللاإنسانية، التي يعيشها اللاجئون في المخيمات. فلم يكن هروبهم من القصف المستمر، كافياً لإبعادهم عن خطر الموت، الذي ظل يلاحقهم نتيجة نقص الرعاية الصحية، كأن تتحمل القابلة مسؤوليات الطبيب، فلا يحظى المرضى بفرص كافية للنجاة. ولم تكن الرعاية الصحية المفقودة، المأساة الوحيدة التي يعيشها اللاجئون. وإنما تعددت مآسيهم، بداية مما يتلقونه من طعام فاسد، مروراً بعشوائية البيوت التي يقيمون فيها، وغياب التخطيط والتنوع، فضلاً عن طبيعة الحياة البدائية، التي يعتمدون فيها على المقايضة، للحصول على الحد الأدنى من مقومات العيش، وكذا تسليع الناس، وامتهان كرامتهم: "راقبت سابا طابور الانتظار خارج المركز. حافظ عمال الإغاثة على النظام بالعصي الطويلة. هنا، حتى الكبار يتم تأديبهم أيضاً".

 استمر الكاتب في إبراز معاناة اللاجئين، عبر حرمان شخصيته المحورية "سابا" من الحق في الحلم، والتعليم. فبينما كانت الطالبة الذكية، التي تسعى لدراسة الطب؛ أجهضت أحلامها في المخيم، الذي لا يحوي مدرسة، ولا أي وسيلة لتحصيل العلم. وكان تكرار أسئلة البطلة، عن إمكان إنشاء مدرسة في المخيم، وسيلة لإبراز قسوة واقع يئد الأحلام. ويصبح الوقت فيه بلا قيمة، ويرسخ - في ظل غياب التعليم- قوانين القبيلة الفاسدة. وقد استثمر الدنيا رمزية دفن واحدة من اللاجئين، في الأرض المخصصة لبناء المدرسة في المخيم، وتحويلها إلى مقبرة، ليمرر دلالات، تحيل إلى وأد الأمل، والمستقبل، في تلك المخيمات.

ثقافة وموروث

حاول الكاتب أن يجسد سطوة التقاليد، واستناد المجتمع الأريتري إليها، كمرجعية تنظم حياته، لذا عمد إلى نقل ملامح الثقافة الشعبية ومكوناتها. فرصد المأكولات المحلية، مثل عصيدة الجاعات، خبز الهباشا، يخنة الزيجني، بيرة السيوا. ورصد الزي التقليدي للأريتريين، وأوشحة الجابي، وارتداء بعض الرجال الجلابيب، والنساء الثياب المطرزة، وعاداتهن في ربط أطفالهن على ظهورهن. ورصد أيضاً بعض المعتقدات والطقوس الشعبية: "سعلت سابا وهي تخلع ملابسها. انتظرت أن يُرمى الغطاء على رأسها، وأن يوضع الفحم بالفلفل الحار بين ساقيها، حتى تحترق روحها الخبيثة في الدخان". وقد عزز ما رصده الدنيا من موروث شعبي؛ جاذبية النص، وصبغه بالتشويق، لاسيما أنه استخدم الحيل الاستباقية لتحقيق الهدف نفسه، كما في إشارته للون الإرجواني بفخذي "سابا"، وجلدها المفقود، وإرجاء التفسير، إلى مرحلة لاحقة من السرد. ولجأ للوصف، بمستوييه الإبهاري، والتفسيري، وأتاح عبره صورة حية لمأساة اللاجئين داخل المخيمات. وكان ما تخلل النسيج من فجوات سردية؛ سبيلاً سمح للقارئ بملئها، والمشاركة في لعبة السرد. وأتاحت له مساحات الحوار، فرصة التأمل، وإدراك معاناة أولئك المنسيين، وتحقيق واحدة من غايات الكاتب، في تعاطٍ أكثر جدية مع قضيتهم.  

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة